أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

يونيو 13، 2018

الفقر، والانفجارات الشعبية



يصنف البنك الدولي الفرد الذي يجني 1.25 دولار في اليوم ضمن فئة "الفقر المطلق"، لأنه سيكون عاجزا عن توفير متطلبات الحياة لضرورية مثل المأكل والملبس والمسكن والرعاية الصحية، بسبب عدم وجود ما يكفيه من الدخل. ووفقا لإحصاءات البنك الدولي، فان عدد الفقراء في العالم يصل إلى 1.3 مليار نسمة (ما يعادل 17.3% من سكان العالم، أو 22% من سكان البلدان النامية). ومع أن هذا الرقم تقلص من 2 مليار نسمة عام 1981، ما يعني انخفاض نسبة الفقر المطلق، ولكن الفجوة بين الأغنياء والفقراء زادت اتساعا.
وقضية الفقر لا تتعلق بالضرورة بشح موارد الدولة، بل بنسب توزيع الدخل الوطني، واحتساب مجموع الدخل الذي يحصل عليه الفرد، بعد أن يتم تقسيم السكان إلى مجموعات خمسية أو عشرية، ومن ثم تحديد الحصة التي تحصل عليها كل مجموعة من الدخل الوطني.

وهناك طريقة رياضية لتحليل التفاوت في توزيع الدخل الوطني تسمى "منحنى لورنز"، يمثل الرقم الناتج ما يعرف اقتصادياً بـمؤشر "جيني"؛ وهو مؤشر اقتصادي عالمي لحساب التفاوت في توزيع الدخل بين الشرائح الاجتماعية. وهذا الرقم ينحصر بين الواحد والصفر؛ "1" يمثل قمة الظلم وانعدام العدالة في التوزيع، و "0"، يمثل قمة العدل، أو العدالة الكاملة في التوزيع. ولأنه لا يوجد عدالة مطلقة، أو ظلم مطلق؛ فإن الصفر والواحد تكون أرقاما نظرية، لذلك، الدول التي يوجد بها تفاوت في توزيع الدخل، أي تغيب فيها العدالة الاجتماعية يكون مؤشرها بين 0.40 ~ 0.60، بينما الدول التي تتمتع بالعدالة الاجتماعية، ولا يوجد بها تفاوت كبير يكون مؤشرها بين 0.20 ~ 0.35.

ولتوضيح ذلك، نجري مقارنة بين البرازيل واليابان؛ البرازيل مثلا تحصل المجموعات الخمس من السكان على نسب متفاوتة من الدخل، بحيث يحصل 20% من السكان الواقعين في أدنى السلم الاجتماعي على نسبة 2.5% من الدخل الوطني. بينما يحصل 20% من السكان الأعلى دخلاً على 64% من مجموع الدخل الوطني. وبذلك يصبح معدل التفاوت في توزيع الدخل في هذه الحالة بين أقصى الطرفين في المجتمع كبيرا وواضحا. في المقابل يحصل أفقر 20% من سكان اليابان على 8.7% من دخلها الوطني بينما يحصل أغنى 20% على 37%  فقط، وهنا الفارق أقل بكثير.

وفي حالة البرازيل فإن مؤشر "جيني" يبلغ 0.60، أما اليابان 0.33.
ا
للافت للانتباه أن متوسط دخل الفرد في البرازيل يبلغ 4400 دولار في السنة، بينما في سريلانكا مثلا يبلغ 740 دولاراً فقط. في المقابل فإن مؤشر "جيني" في سريلانكا يبلغ 0.30؛ أي أن سيريلانكا تتمتع بقدر أعلى من العدالة الاجتماعية، مع أن دخل الفرد فيها يبلغ سُدس دخل الفرد في البرازيل، وبالتالي لا يوجد أي رابط بين تحسن مستوى الدخل الوطني العام وبين توزيعه على السكان، ومن ثم تحسن حالة الأفراد الاقتصادية.

ولمزيد من التوضيح، فإن قيمة مؤشر "جيني" في البلدان التي تتمتع بالعدالة الاجتماعية كالسويد والنرويج وكندا، على سبيل المثال، تتراوح بين 0.25 ~ 0.30، أما غالبية البلدان الصناعية فتتركز حول 0.40، وفي إفريقيا وأمريكا اللاتينية تزيد عن 0.50، في ناميبيا وهايتي وأفريقيا الوسطى (وهي الأسوأ عالميا) تجاوز الرقم 0.60.

ومع أن الدول العربية تعاني عجزًا إحصائيًا فيما يتلعق بجمع بيانات الدخل والإنفاق في المجتمع، وهو ما يحول دون حساب المؤشر بدقة؛ إلا أن متوسط مؤشر "جيني" في الدول العربية يتراوح بين 0.35 ~ 0.41، وباعتقادي أن الواقع أسوأ من ذلك.

وفي إيران، في العام الذي سبق الثورة الإيرانية (1979)، بلغ مؤشر "جيني" 0.53، وهذا كان من بين أهم أسباب اندلاع الثورة الإيرانية، حيث أنه عندما تصل الأمور عند هذا الحد يعني أن الانفجار قادم في أي لحظة، بسبب اتساع الفجوة بين الطبقات، وغياب العدالة الاجتماعية، وتفشي الفقر والبطالة.

ويؤكد الخبراء الاقتصاديون أن التفاوت في توزيع الدخل الوطني هو أحد أسباب انتشار الفقر وتعمقه، وهو أمر ليس له ارتباط بالنمو الاقتصادي، بل بطبيعة وخصائص هذا النمو وبالسياسات الاقتصادية العامة للدولة.

في الدول العربية، يركز المسؤولؤن عادة على مؤشر نمو متوسط الدخل السنوي للفرد؛ وهو مؤشر زائف لا يؤدي لنجاح أي تنمية، وكذلك مؤشر معدل النمو، وهو مؤشر كاذب الهدف منه خداع الجماهير بوجود خطط لمحاربة الفقر. مثلا، ارتفع مؤشر "جيني" في الدول العربية المصدرة للنفط، حتى وصل إلى 0.612 خلال فترة الطفرة النفطية. وطبعا بسبب السياسات الاقتصادية غير العادلة، فنشأت طبقة ثرية جدا، وطبقة مسحوقة جدا، (حتى في قلب السعودية)، وهذه الطبقة يتم التعتيم على وجودها، بسبب عدم وجود إحصاءات علمية دقيقة ترصد مستوى التفاوت الطبقي، ومدى تحقيق العدالة في توزيع الثروة.

الأرقام التي تتحدث عن ارتفاع مستوى دخل الفرد، ومعدلات النمو أرقام لا تعكس الواقع، لأنها قائمة على اعتقاد خاطئ، مفاده أن نمو الدخل الوطني العام سيتسرب إلى الأسفل، أي لفئات المواطنين العاديين، والفقراء، ضمن الحركة الاقتصادية. وقد أثبت الواقع العكس تماما، أي أنه تسرب إلى الأعلى، لصالح الشرائح الغنية. والسبب ببساطة مرتبط ببنية الاقتصاد الرأسمالي وخصائصه، الذي يجعل النمو الاقتصادي في خدمة الأغنياء فقط، ولا يعود نفعه على الجميع.

الفقر المدقع يعني المهانة، وغياب العدالة الاجتماعية تعني الظلم، وهذه أسباب كافية للغليان الاجتماعي، وللثورة. ولكن، قبل الشروع بمكافحة الفقر، من الضروري تحليل الوضع الاقتصادي للدولة استنادا للنظريات الاقتصادية العلمية، وبالتحديد على مؤشرات العدالة الاجتماعية، والتي بناءً عليها يتم وضع خطط التنمية، وإقامة المشاريع الكبيرة، ورسم السياسات الاقتصادية.. إذ لا يمكننا مواجهة الفقر ولا حتى محاصرته، دون معرفة تفصيلية بأماكن تواجده، وخصائصه، ضمن قياسات علمية تحدد نسب الدخل الحقيقية للفئات الفقيرة، وذلك كمقدمة لوضع السياسات الاقتصادية العادلة، التي تضمن توزيع الثروة بعدالة.

مشكلة الدول النامية، لا تكمن في شح الموارد، بل في السياسات الاقتصادية الظالمة، وفي الفساد، والاستغلال، وسوء توزيع الثروة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق