في
أثناء تدريبي لطلبة الصف العاشر في إحدى القرى، كنت ألحظ مدى نشاط وحماس الطالبات،
واندفاعهن للتعليم، وتفاعلهن الحيوي مع ما أطرحه عليهن من مواضيع.. كنتُ أرى بريق
الحياة في عيونهن، وأسمع نشيدها في أصواتهن.. صبايا في مقتبل العمر، تملؤهن الأماني
والأحلام الكبيرة.. أخرج كل مرة وأنا أكثر تفاؤلا بالمستقبل.. في الفصل الثاني عدت
لنفس الصف، كان عددهن قد نقص.. واحدة تزوجت.. وأخرى أخذت تتصنع الحركات لتظهر
خاتمها الذهبي، وإسوارتها.. ولم تنتظر لأسألها، إذ بادرت بالقول: لقد تمت خطوبتي..
فتاة أخرى، ربما كانت الأولى على الصف، والأكثر نشاطا ومشاركة، كانت أسئلتها جريئة
ومحيرة.. هذه المرة، بدت مختلفة كليا؛ سارحة، مشتتة، في عينيها حزن مشوب بالخوف..
لم أسمع صوتها طوال مدة التدريب.. كان واضحا أنها على وشك الاستسلام لقانون القبيلة..
ستصمت للأبد، سيخبو بريق عينيها، وستتكسر أحلامها.. وقد علمت أن العريس الذي تقدم
لخطبتها صديق والدها.
فتيات
بعمر 15 و16 سنة، يُنقلن بين يوم وليلة من غرفة الصف إلى المطبخ.. من حياة كاملة
تنتظهرن، بكل ما فيها من احتمالات ومسارات وصخب، إلى حياة واحدة عنوانها الوحيد
خدمة الزوج والأولاد.. دون إرادتهن (بالتخويف أو بالتخجيل)، وفي كل الحالات،
الفتاة بهذا العمر غير مؤهلة لاتخاذ قرار مصيري على هذا المستوى.. الأهل يقررون
نيابة عنها، لأن البنت بنظرهم "فضيحة" يجب سترها بأسرع وقت، ومكانها
الطبيعي المطبخ.. ووو إلخ.. مع أن القانون يحظر تزويج الطفلات، إلا أن الأهالي
يتحايلون عليه، وأحيانا بتواطؤ من القاضي.. ومع ذلك، لفت انتباهي أن القرى
الفلسطينية تتفاوت إلى حد كبير بنظرتها تجاه هذه المسألة؛ بعض القرى يزوجون
الفتيات بعمر أقل من 15 سنة، ويعتبرون الفتاة التي تتجاوز ال18 قد دخلت مرحلة
"العنوسة"! بينما قرى أخرى كثيرة، ترفض تزويج الفتيات إلا بعد أن يكملن
التوجيهي كحد أدنى، يعني فوق ال18 سنة، وهذا إلى حد ما مقبول. ومن الخطأ الاعتقاد
أن الوضع في المدينة أفضل بكثير..
في
خريف 2017، أقر البرلمان العراقي قانون الأحوال الشخصية، ما يعنينا هنا ليس مضمونه
الطائفي البغيض، وأنه يعود لعصور الظلام.. ما يعنينا هو تخفيضه سن الزواج للفتيات
إلى تسع سنوات! وفي مصر، بعد الإطاحة بالنظام، وانتخاب مجلس الشعب، رفض نواب
الإخوان رفع سن الزواج إلى 18، بل طالبوا بتركه مفتوحا، وهو حسب الفهم المجتمعي
الخاطئ تسع سنوات. في اليمن ودول عربية وأفريقية كثيرة يتم تزويج الفتيات بهذا العمر..
وأغلب دول العالم، بما فيها بعض الولايات الأمريكية لا تحدد سن الزواج، أو تسمح به
بعمر أقل من 18.
على
الأمم المتحدة مثلما وضعت "قوائم العار" للدول والمنظمات التي تجند
الأطفال، عليها أن تضع قوائم عار للدول التي تسمح بتزويج الطفلات.
لا
تقتصر المشكلة عن الزواج المبكر، ما زالت عادة الختان منتشرة في مصر والسودان
والصومال، والمشكلة أن بعض الدعاة يؤيدون هذه العادة البدائية، ويزعمون أنها من
الإسلام!
أخيرني
أحد الزملاء، أنه كان ذات مرة يحاضر في مجموعة نساء في إحدى القرى الحدودية، عن
إدارة المشاريع الصغيرة.. وفجأة دخل شابان غاضبان، وأخرجا شقيقتهما من القاعة بشكل
مهين ومحرج، وطبعا مع توبيخ للمحاضر، واتهامه هو ومؤسسته بالعمالة للغرب، وتشجيع
النساء على الفجور والفسق... وبعد أن خرجا، أكدت بقية النساء الحاضرات، أن سبب ثورتهما،
أن شقيقتهما تعمل في إحدى المستوطنات منذ سنوات، وفوق ذلك يأخذون أجرها كاملا،
وهذه المرة الأولى التي تتغيب فيها عن العمل.
أن
تملك الفتاة قرارها الشخصي بالعمل أو الامتناع عنه، بالتعلم، بالمشاركة في دورة
تثقيفية... يعتبر ذلك تمرد، نذير خطر، سيقود إلى الفسق والرذيلة وانحلال
المجتمع... إلخ.. بينما عملها في المستوطنة مقبول جدا، بل لا يُسمح لها بالتغيب
عنه، لأنها مصدر دخل! هل هناك نفاق اجتماعي أكثر من ذلك؟! قمة التناقض، الذي نبرره
ونموه عليه باللجوء للعبارات الدينية، أو بالتذرع بالقيم المجتمعية..
في
دول الخليج العربي، كانت المرأة قبل سنوات السبعينات تعمل في الحقول والمعامل، وفي
المشاريع المنزلية، وتشارك الرجل الكثير من المهن والأعمال.. وكان هذا مقبولا، وعاديا،
ولا يعترض عليه أحد.. بعد الطفرة النفطية، تدفقت الأموال، وتحسنت الأوضاع
الاقتصادية. ولم تعد حاجة لعمل المرأة.. صار العمل حكرا على الرجال، ولم يكتف
المجتمع بإقصاء المرأة من سوق العمل، بل وبدأ يتذكر الفتاوى التي تلزمها بيتها،
وصار بيتها "مملكتها"، وصارت هي عبارة عن "قطعة حلوى"، يجب
تغطيتها من الذباب (الرجال)، و"جوهرة" لا يجوز لأحد رؤيتها إلا زوجها
(مالكها).. وهذا كله نوع آخر من النفاق المجتمعي وانفصام الشخصية الذكورية.
وازدواج
الشخصية وانفصام المجتمع له أوجه عديدة، مثلا، بعد التحرش الجنسي، نلوم الضحية،
ونحملها مسؤولية قلة أدبنا، ونتذرع بسلوكنا الشائن بأن السبب لباسها الفاضح، علما
بأنها قد تكون محجبة، أو حتى منقبة!! نتعامل مع النصوص الدينية بانتقائية عجيبة،
لا نتذكر منها إلا آيات تعدد الزوجات، أو الميراث، أو واضربوهن.. وننسى آيات
الرحمة والتعاطف والمودة، وعاشروهن بالمعروف.. نفهم النص حسب المصلحة..
وإذا
كانت مجتمعاتنا تضطهد المرأة وتظلمها، بالاستقواء ببعض النصوص الفقهية، أو بفهمها
الخاطئ والمزاجي، فأن وضع المرأة في العالم ليس أفضل بكثير، إذ ما زالت المرأة في
معظم الدول تتعرض لأشكال عديدة من العنف (العنف الجسدي، واللفظي، والجنسي، والمعنوي..)،
وتتعرض للتمييز في مجالات التوظيف والترقيات والأجور..
وعلى
صعيد آخر، تتعرض المرأة (والأطفال) لعصابات الإتجار بالبشر، وتوريطها بشبكات
الدعارة، وهي ما زالت الضحية الأولى في الحروب والصراعات، يعني دوما ضحية، حتى في
حالات الرخاء الاقتصادي، كما أوضحنا.
ورغم
أن المجتمع الذكوري أوغل في ظلم المرأة، وعمل على تهميشها، وتكريس صورة نمطية
سلبية عنها، إلا أن أكبر وأخطر عدو للمرأة هي المرأة نفسها.. فما زالت نسبة كبيرة من
النساء يعتبرن أن كل المظالم اللتي يتعرضن لها هي الشكل الطبيعي للحياة, وهذا هو
المكان الطبيعي للمرأة!! ما زالت تعتقد أنها مكرمة، مع أنها سُلبت أهم ما في
الحياة.. الحرية، والكرامة..
تحية
للمرأة الفلسطينية، والعربية، ولكل نساء العالم..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق