حرب إقليمية طاحنة تلوح في
الأفق، قد تغير قواعد اللعبة، وتعيد رسم مراكز القوى الاقتصادية في المنطقة..
ولكنها هذه المرة دون أسلحة فتاكة.. إنها حرب الموانئ.. قطبيها: الإمارات، الهند،
إيران، ومعهم الولايات المتحدة، وفي الجهة المقابلة الباكستان، الصين، قطر، ومعهم
روسيا.. وعنوان هذه الحرب مينائي "دبي" في الإمارات، و"غوادر"
في الباكستان..
يقع ميناء دبي على ساحل الإمارات
في الخليج العربي، وهو أكبر ميناء صنعه الإنسان في الوقت الراهن.. ويشكل بالنسبة
للإمارات شريان اقتصادها الأهم.. وقد استثمرت إمارة دبي مليارات الدولارات
لإنشائه، وإنشاء كل ما يتصل به ويخدمه من بنية تحتية.. لهدف مركزي: جلب السفن،
التي طالما ترسو هناك، طالما دبي مزدهرة.. وإذا ما توقفت عن ذلك، سترجع دبي لسالف
عهدها.. إمارة صحراوية فقيرة.. فدبي؛ تلك المدينة التي توصف بأنها القادمة من
المستقبل، لا تمتلك موارد طبيعية (غاز، بترول) مثل بقية دول الخليج، وعماد
اقتصادها يقوم على ما تقدمه من خدمات، وأهمها دورها الوظيفي كميناء يعد الأهم في
المنطقة..
بيد أن لؤلوة الخليج
العربي، قد لا تظل كذلك، إذ بات يتهددها شبح الأفول، وقد وُضع مستقبلها على
المحك.. تحديدا بعد إعادة ترميم ميناء "غوادر" على الساحل الباكستاني.. إذ
يرى محللين اقتصاديين أن "غوادر" ستكون دبي الجديدة في غضون عشرة
أعوام.. الأمر الذي يثير هلع "دبي" الأصلية، حتى صار هذا الموضوع الشغل
الشاغل لحكامها وأثريائها.. خاصة بعد دخول الصين على الخط. وما يخيف دبي هو أنَّ "غوادر"
ستعني تهديد التأثير الإستراتيجي لدبي في المنطقة، لأنها ستغدو منافسا خطيرا لها، حيث
ستمنح الصين ووسط آسيا إمكانية الوصول إلى منطقة الخليج والشرق الأوسط دون الحاجة
لدبي.
يقع ميناء "غوادر"
في جنوب غربي باكستان، بالقرب من مضيق هرمز، حيث تعبر منه ثلث تجارة النفط العالمية،
ومنذ العام 1779 ظل هذا الميناء الباكستاني تحت سيطرة سلطنة عُمان، ثم أصبح
ملكا لبكستان بدءاً من العام 1958، لكنه ظل معطلا حتى عام 2002 إلى أن بدأت
باكستان بتشغيله لما يتمتع به من خصائص منافسة، كعمق مياهه وصلاحيته لاستقبال البواخر
العملاقة، ومستفيدة من إستراتيجية الصين الجديدة.
فمع حلول العام 2013 أعلنت
الصين عن إطلاق مشروع عملاق يعد الأضخم عالميا، وهو عبارة عن طريق بري/بحري جديد يصل
البضائع من وإلى الصين بأقصر الطرق الممكنة، سيتم إنشاؤه بالتعاون مع 68 دولة، بتكلفة استثمار سنوي تقدر بـ150 مليار دولار، يتكون
المشروع من طريق بري يصل غرب الصين بميناء "غوادر"، ومنه إلى بقية
العالم، إضافة لست طرق رئيسية، أشهرها طريق قطار لندن- الصين العظيم الذي يقطع
18000 كم مرورا بتسع دول .
ونظرا لحاجة الصين لربط
نفسها ببحر العرب مرورا بباكستان، لتختصر على نفسها آلاف الأميال التي كانت تقطعها
البواخر للوصول لميناء "شانغهاي"، لتوفير 60% من الوقت والمال؛ قامت باستئجار
ميناء "غوادر" لمدة أربعين سنة، بصفقة بلغت 4.5 مليار دولار، لإنشاء
الطرق والفنادق والمطارات
وغيرها من البنى التحتية، والطريق الذي سيصل الصين بالميناء يحتوي على سكة حديد،
بالإضافة إلى أنابيبب بترول وغاز لاستخدامها كوسيلة أسرع وأرخض في نقلهما
من دول الخليج العربي.
لكن المسألة ليست مجرد
تنافس بين مينائين؛ فجميع بلدان المنطقة ستتأثر بهذا التنافس؛ منها ما سيظل متفرجا
على ما ستسفر عنه هذه الحرب الصامتة، لينضم للحلف الرابح، ومنها ما سيدخل الحرب
عاجلا، لأن مصالحه لا تحتمل التأجيل.
مشروع "غوادر" سيساعد
باكستان في إيجاد بديل إستراتيجي عن ميناء "كراتشي"، المعرض في أي لحظة
لحصار هندي محتمل، وسيسهم في تنمية مقاطعة بلوشستان، وتعزيز التنمية الاقتصادية
الباكستانية. الهند، صاحبة أكبر اقتصاد على سواحل المحيط الهندي، تراقب بقلق دور
الصين المتنامي، وتخشى المشروع أيضا لأنه يتضمن طريقا بريا سيمر من إقليم "كشمير"
المتنازع عليه مع باكستان، وبالتالي فإن هذا الممر سيكون تحت حماية الصين، ومعروف
أن الهند وباكستان تسعى كل منهما لتقويض قوة الأخرى في المنطقة، ومن المؤكد أن
تطوير الميناء سيضيف مزيدًا من الحطب في نار هذا العداء.
كما تخشى إيران أيضا من المشروع،
لأن "غوادر" لا تبعد إلا 165 كلم عن مينائها "تشابهار"، الذي
سيتأثر سلبا بمنافسه الجديد، لذلك عجلت إيران من تطوير مينائها، وقامت بتسليمه
للهند بشكل كامل، ضمن صفقة ستكلف الهند 500 مليون دولار .هذا التشابك في
المصالح جعل إيران والهند تنتظمان في حلف مع الإمارات، لمواجهة خطر
"غوادر". قد تنضم إليه تركيا التي صارت تقلق من التقارب الباكستاني
الصيني، لا سيما وأن أنقرة تبحث عن تواجد لتجارتها في منطقة المحيط الهندي.
من جهتها، تسعى عُمان لتوسعة ميناء "الدُقم" قبل "غوادر" و"تشابهار"
بوقت طويل، ليكون قلب التجارة في المنطقة، فالسلطنة تسعى لتحويل تلك البلدة
الصغيرة إلى "سنغافورة" جديدة، وميزة "الدقم" أنه خارج مياه
الخليج العربي، أي أن السفن لا تضطر للمرور عبر مضيق هرمز، لذلك تعمل على إنشاء
مطار، ومنطقة اقتصادية، ومصافي بترول، وخزانات نفط، وأحواض للسُفن، ومنتجعات
سياحية، وطرُق وسكك حديدية منطلقة من الدُقم.
ومع استثمارات السعودية العملاقة
لجذب السياحة، من خلال تحويل 50 جزيرة في البحر الأحمر إلى منتجعات سياحية فاخرة، فإن
هذه الحرب الاقتصادية ستجعل الإمارات الخاسر الأكبر؛ خاصة إذا فقدت امتيازاتها في
السياحة والنقل.
وفي ظل تعقيدات أزمة
الخليج، دخلت قطر على الخط، وأعلنت عن عزمها استثمار 15% من مشروع
"غوادر"، لأنها أيضا ثالث مصدر للغاز في العالم.
وعلى خلفية المشهد، تبرز العلاقات
الأميركية الهندية؛ والاتفاقيات الموقعة بينهما، وخشيتهما من صعود الصين المتنامي،
الذي بات يشكل تهديدا على توازن القوى الإقليمية. وأيضا يبرز التحالف الروسي
الإيراني، ما يعني أن الصراع صار دوليا. وقد أوجدت هذه الحرب حالة من التعقيدات في
العلاقات بين هذه الدول، وهو ما دفع القوى الدولية والإقليمية على تطوير موانئ جديدة
على سواحل المحيط الهندي (غوادر الباكستاني، وتشابهار الإيراني، والدقم العماني)؛
من أجل خلق مسارات تجارية جديدة تستوعب حجم التجارة الضخمة من وإلى آسيا.
إنه الاقتصاد.. محرك
التاريخ الأقوى..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق