في العام
1977، كنتُ قد بلغتُ الحادية عشرة من عمري، وكأقراني، كانت لدي أحلامي المجنونة،
وفهمي الخاص لنظام الكون ... كنا حينها من بين الأسر القليلة في الحارة التي تمتلك
تلفازا، لكنه كان في ذلك العام معطَّلاً. كانت الحرب اللبنانية في عامها الثاني،
وبيروت تحترق، في ذلك المساء، توارد إلى أسماعنا أن "السادات" سيزور
"إسرائيل" في اليوم التالي، وكما هو متوقع، صارت الزيارة حديث الساعة
وشغل الناس الشاغل .. بتُّ تلك الليلة وأنا أفكر بالزيارة، محاولا فهم سبب اهتمام
الناس بها ..
ولما جاء
الغد، انطلقنا من فورنا (أنا وأخي محمود) هائمين في الشوارع، نفتش عن وسيلة
لمتابعة الزيارة التاريخية، فاهتدينا أخيرا لفكرة الذهاب للمقهى، وانتظرنا انقضاء
الظهيرة ... وفعلا، قبل العصر بقليل، وللمرة الأولى في حياتي أطأ بقدمي مقهى شعبي،
كانت الصالة مكتظة بالرجال، والدخان يعبق في أجواء المكان، والأصوات متداخلة مثل
طنين النحل، وقد بدأ البث التلفزيوني المباشر .. أنساني هول المنظر ما جئت لأجله،
مرعوبا ومتوجسا دخلت، كنت أظن أن المقاهي باهظة الثمن، لكن "محمود" أكد
لي أن خمسة قروش أكثر من كافة لتمضي سحابة نهار هناك، وكنت أظن أيضا أن السياسة
علم معقد وصعب، وأن السياسيين لهم مواصفات خارقة، لا يستطيع العامّة امتلاكها، ولا
بد أنهم أذكياء جدا.. لكن الساعة التي أمضيتها في ذلك المقهى غيرت كل مفاهيمي
الغبية تلك ..
كان التلفزيون
الإسرائيلي المحطة الوحيدة التي تبث الخبر، والمعلق يتحدث بالعبري، ومع ذلك كنا
نتظاهر أننا فاهمين كل شيء .. ما هي إلا دقائق قليلة حتى جاء النادل يسألنا بأدب
جم: شو تشربوا شباب ؟ سرت بجسدي قشعريرة خفيفة، فرحتُ بكلمة "شباب"، هذه
المرة الأولى لا يُنادى عليَّ متبوعا بكلمة "يا ولد" .. ومع ذلك تظاهرت
أني معتاد على الأمر، فقلت بلهجة آمرة: اثنين شاي عالسريع .. وفعلا انصرف النادل
عالسريع مطيعا لأمري، راقت لي الفكرة، شربتُ الكوب بسرعة، وانتظرت مرور النادل
بقربي، لأطلب منه "كاسة شاي ثانية وزيد السكر لو سمحت" .. نسيت
"السادت"، و"بيغن"، ولم أتابع الأخبار .. كان فكري منشغلا
بأشياء أخرى جديدة ..
قبل حلول
الظلام، ما أن وصلتُ أطراف الحارة، حتى بدأت استعرض عضلاتي السياسية على الأولاد،
أخبرتهم عن التجربة المثيرة، وأني عائد للتو من مظاهرة حاشدة ضد الزيارة، وأن
الشرطة لحقتني بالهراوات لكني كنت أسرع منهم، بعضهم لم يصدقني، والبعض الآخر أخذ
يسألني باستغراب، وأنا أجيب بكل سهولة، ولحسن الحظ كنت الوحيد بينهم أعرف اسم
الرئيس الأمريكي، كما كنت قد سمعت بعض المصطلحات من المقهى:
"إستراتيجية"، "العملية السلمية"، "ليكود" ...
وبمهارة صرتُ أحشرها بين كلماتي، وأنا أتابع الدهشة في عيون المستعمين ..
في البداية
كنت في داخلي متشككا مما أقول، متسائلاً هل السياسة سهلة إلى هذا الحد !! لكن مع
الوقت تبددت كل شكوكي، وصرت متيقنا من كل كلمة أقولها .. ولكني إلى الآن، كلما
استمعتُ لأي محلل سياسي أتذكر كاستين الشاي والمقهى والنادل الذي أطاع أمري بعد أن
كنت متوقعا منه أن يطردني ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق