في ذكرى رحيل الأخ القائد العام، من المفترض أن أعد مقالة طويلة،
تتضمن شرحا معمّقاً وتحليلا شاملا لما جرى لنا من بعده، ومن المفترض أن أزيّن
الكلام وأنـمّقه، وأن أختار العبارات بكل عناية، لكي تكون مقالة بليغة تليق بحضوره
الدائم، وغيابه المدوي .. ولكني وللأسف، أخفقتُ في مسعاي، وسأكتب عوضاً عن ذلك كله
عن مشاعري الخاصة، بكل بساطة وتجرد .. سأدع كلماتي تنسكب بين الأسطر بكل تلقائية،
حتى أني لن أراجعها، ولن أدقق فيها كما هي عادتي دوما ..
لن أدّعي أني كنت مقربا منه، وأنه كان يعرفني ويثق بي .. بل أني لم
أحظَ بشرف الاجتماع به على انفراد ولا حتى مرة واحدة، وكل ما في الأمر أني تشرفتُ
بمصافحته عدة مرات، مثل ملايين آخرين من شعبنا .. وقد عشتُ لسنوات طويلة، وأنا
أسمع عنه الحكايات، وأراه عبر شاشات التلفاز، وأقرأ عنه في الصحف والكتب، حتى بنيتُ
له صوراً عديدة في مخيّلتي .. كانت ترتقي أحيانا إلى مستوى الأسطورة .. حين رأيته
أول مرة وجهاً لوجه، تأكدتُ أنه إنسانا عاديا، وتأكدت أكثر أنه من نواحي أخرى لم يكن عادياً؛ كان قائدا استثنائيا لا يتكرر
..
كانت أول مرة أراه من
المسافة صفر في بغداد، مباشرة بعد أسبوع من نجاته من مجرزة "حمّام الشط"،
التي حاول الإسرائيليون فيها اغتياله (1-10-1985) .. في الساحة الصغيرة لسفارة
فلسطين في شارع "السعدون"، أمام الجموع ألقى أبو عمار كلمة الثورة، فيما
تولى أبو إياد الإجابة على أسئلة الحضور .. عند الباب كانت تقف سيدة سبعينية ترتدي
الزي الفلسطيني، تنتظر بصمت وحزن ظاهر على محياها، يبدو أنها ربة بيت، أو أرملة
شهيد، مــرَّ من أمامها وناداها باسمها، ثم أخذها معه في سيارته.
وفي قاعة "الجامعة المستنصرية"، حيث يحتشد آلاف الطلبة
والأهالي، وتتعالى الأصوات وهي تصدح بأغاني العاصفة، وتترقب بلهفة وصول القائد،
تمر الدقائق مشحونة بالتوتر، وما أن يدخل بكل هيبته وتواضعه، حتى يدوي التصفيق وتتداخل
أصوات الهتافات مع الصفير والصياح، وحين يعتلي المسرح، ويبدأ بالكلام يعمُّ الصمت
مرة واحدة، كنا نصغي لكل كلمة يقولها .. كانت حرب المخيمات حينها في أوجها، وفي
ذلك اليوم جاء خبر استشهاد "علي أبو طوق" .. هتف الزعيم باسمه ورددنا من
ورائه .. بالروح بالدم نفديك يا شهيد ..
تتكرر لقاءاته مع الطلبة والجالية الفلسطينية هناك، في كل مرة كان
يحضر بكل بهائه، بالبدلة الكاكي، وابتسامة الواثق، فنشعر بعظمة الثورة، وقوة الفدائي،
ومهابة الكوفية السمراء، كان يغمرنا إحساس دافيء بأن كوفيته تظللنا جميعا، وأن
فلسطين كلها أمامنا، وأننا في قلب المعركة .. خلف قائد نثق به.
تقريبا نصف الشعب الفلسطيني صافحه والتقط معه صورة، في كل الصور
التي رأيتها كان دوما يبتسم، وينظر إلى من معه باحترام، كما لو أنه صديق شخصي له،
لذلك كل فلسطيني يستطيع أن يزعم أن له قصة خاصة مع أبو عمار ..
أثناء حصاره في عرينه الأخير، كان بوسع أي مواطن أن يدخل المقاطعة،
وأن يواصل سيره حتى الممر الذي بآخره غرفة أبو عمار الشخصية، دون أن يعترض طريقه
أحد. أو أن يصلّي في جامع المقاطعة إذا كان له مطلب معين، أو ينتظر دخوله أو خروجه
فينادي عليه: أخ أبو عمار .. ليرد عليه بكل بساطة، ويلبّي له طلبه ..
كنت أعرف أحد حراسه المقربين، فقلت له مازحا أرغب بأخذ صورة مع الختيار،
في اليوم التالي اتصل بي وقال الساعة الفلانية تكون أمام غرفته، وبالفعل حضرتُ في
الموعد المحدد، أخذتُ معي طفليّ: "يزن" و"وائل"، وابنة
الجيران "حنين" (تخرجتْ هذا العام من جامعة بير زيت) ودخلنا المقاطعة
دون أن يفتشنا أحد، انتظرنا بضعة دقائق، حتى خرج أبو عمار ومعه
"موراتينوس" (مبعوث الاتحاد الأوروبي)، أوصله للباب، وفي عودته سأل
المصور: أين الأخ الذي يرغب بالتقاط صورة ؟
قبيل الفجر من ذلك اليوم الحزين من شهر رمضان، كنتُ هناك في ساحة
المهبط، أنا وخلود، وجمهور غفير، خرج من غرفته بعد ثلاث سنوات من الحصار، مـرَّ من
أمامنا تماما، لوَّح لنا ولجنوده الواقفين خلف دموعهم بشارة النصر، صعد إلى
مروحيته، وأرسل لنا قبلاته الأخيرة، جال ببصره في فضاء المقاطعة، وألقى نظرة أخيرة
على رام الله، ارتفعت به الطائرة، وأخذت تبتعد رويدا رويدا، ثم اختفت بلمح البصر،
ونحن مذهولين كليا ومصدومين بما يجري، كان "وليد العمري" ينقل تقريره
على الهواء مباشرة، بصوت متهدج، وقد اختنق بالبكاء ونحن في حالة صمت وارتباك، ارتفعت
أكفّنا نحو السماء، لوّحنا لوداعه بقلوب مفجوعة، وقد أيقنّا أنه لن يعود ..
عاد إلى عرينه ملفوفاً بالعلم، لكن روحه ستظل تجوب سماء فلسطين،
وتحلّق فوق رحاب القدس ..
في حياته ملأ الدنيا وشغل الناس، وبعد مماته ظل حياً فينا .. مهما
اختلفنا معه، وبشأنه، سيظل زعيمنا الخالد، الذي جعل من يومياته تاريخا للكفاح
الفلسطيني .. حتى صار رمزا لقضيتنا، وأيقونة في سماء الوطن، ستظل متقدة إلى الأبد
..
لروحه السلام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق