عادت بعد يومين، وقفت أمامه صامتة، تطالع
عناوين الصحف، لم يتردد هذه المرة، فقال لها بنبرة خجولة: اليوم في أخبار كثير
مهمة في الجريدة، وفي صفحة كاملة عن الصحة والجمال .. ابتسمت، وقالت كيف عرفت
اهتمامي بهذه الأشياء ؟! فقال لها: ألمس في صوتك حزنا دافئا، وأنت تحاولين أن
تبرئي من جرح جديد. قالت بصوت حاسم: من أنت بحق السماء ؟ فأجابها بابتسامة هادئة؛
كانت كافية لبدء علاقة من نوع غامض بينهما، لكنها ستحدث تغييرا هائلا في حياته.
اسمه طلال، لكن أحداً لم يناديه بهذا
الاسم منذ زمن بعيد، حتى أنه كاد ينساه، كهل في نهاية الأربعينات، وُلد ضريرا، أي
أنه لم يبصر النور قط، ولأنه منذ صغره كان يمشي بخفة ومهارة، فقد ظن الناس أنه مثل
الخفاش، يرسل ذبذباته الخفيّـة لتقدّر بُعد الأجسام عنه، فلا يصطدم بها، وهكذا
أطلقوا عليه اسم الخفاش.
وفي حقيقة الأمر، لا يعرف أحد على وجه
الدقة كيف طور "الخفاش" بقية حواسه، لتعوضه فقد عينيه، وكيف بمقدوره تخيل
أشياء لم يرها أبدا، ولم تشكل جزء من ذاكرته، كيف يميز اللون البرتقالي عن الأخضر،
مثلاً !؟ أو كيف يتصور الظلال، النجوم، الغيوم !؟ ماذا يرى في الأحلام ؟! ومع ذلك
كان يؤكد لكل من يسأله أن بإمكانه وصف أي شيء بدقة، إلا التلفزيون !! كان يجد
صعوبة في تخيله، وكيف يحشر الناس بداخله ؟ ثم يخرجهم بصورهم وأجسامهم وأصواتهم
وحركاتهم !!
درَّبه أبوه، الذي أورثه العمى، على
التكيف مع واقعه المفروض عليه، وعلى تجاوز الإعاقة، بل والتغلب عليها، لكن أباه
مات قبل أن يتم العاشرة من عمره، ثم تبعته أمه، التي لم يطق قلبها تحمل المزيد من
الخسائر والآلام، فرحلت وفي قلبها حسرة، بعد أقل من عامين، ليجد "الخفاش"
نفسه وحيدا، في هذه الدنيا الواسعة، مكشوفا تماما بلا أي سند، مثل شتلة برية نبتت
وحدها وسط الصحراء، تنتظر عاصفة.
ليس أول شخص يولد كفيفاً، لكن الكفيفين
الذين تميزوا بعبقرياتهم ربما وجدوا من يدعمهم؛ أما هو فقد نشأ فقيراً، لم يدخل أي
مدرسة، لم يسجل في أي نادي، لم ترعاه أي جمعية .. باختصار شديد، لم يحفل به أحد ..
كان أهل قريته يحسنون إليه، يعطونه ما فاض
من موائدهم، يمنحونه بين الحين والآخر بعض الشواقل، أو ما صغر على أولادهم من
ملابس، لكن هذا لم يكن يتم بصورة دائمة ومنتظمة؛ فكثيرا ما نام جائعا، يرتجف من
البرد، تقتله الوحدة بلا أنيس يسامره، أو صديقا يضحك معه .. القرية رغم طيبتها،
إلا أنها كانت تذكّره دوماً بقسوة الحياة، ناسُها البسطاء لم يكونوا مؤهلين لتبنّي
حالة صعبة مثل حالته .. فقرر الرحيل إلى المدينة .. هناك على الأقل قد يجد عملا،
يشغل فيه وقته، يؤمِّن له عشاءه كل ليلة، ويضمن له فراشا دافئا .. ولعلَّ أصوات
السيارات وضجيج المدينة وإيقاعها السريع تملأ كل هذا الصمت القاتل من حوله ..
كان في الخامسة عشر حين دخل نابلس لأول
مرة، ليسكن فيها بقية عمره، لم يكن يعلم أنه سيودع طفولته مرة أخيرة، وسيترك خلفه
رتابة القرية وطمأنينتها للأبد، وسيستبدل هدأة الليل بقلق الحياة، وأن عليه بدلاً
من حِفظ شارعين وبضعة أزقة، حفظُ أسماء عشرات الشوارع وأطوالها، وتفرعاتها،
ومطباتها، ومئات الأزقة والحواري، وآلاف الأصوات، وأسماء المحلات، وأنه بدلا من
انتظار عطف الجيران، سيكون عليه الطواف بشوارع المدينة من الصبح حتى المساء، في حر
الصيف وبرد الشتاء، حتى لا يبيت جائعا ..
الله وحده يعلم كم ليلة بات فيها على
الرصيف، وفي الحدائق العامة، مكوَّماً حول جسده الهزيل، مثل قطط الشوارع، تغطيه
ثيابا رثة، قبل أن تشفق عليه سيدة مسنّة، لتسكنه في غرفة صغيرة ملحقة بفناء دارها
الواسع، أشبه بمخزن أو قبو، تفوح منها رائحة الرطوبة؛ لكنها على أية حال توفر له
سقفا يحميه من هول المطر، وجدرانا تقيه غضبة الريح، وباباً يمنحه الأمل بأن يطرقه
شخص ما ذات يوم.
على مدى أشهر، جالَ شوارع المدينة مئات
المرات، بحثاً عن أي فرصة عمل، كان يلح بالسؤال، ويستعرض مهاراته التي تعوضه فقد
بصره، ولكن دون جدوى؛ من كان يسألهم كانوا يمنحونه بضعة شواقل، أو دعاء بالتوفيق،
أو ابتسامة ساخرة .. إلى أن عرض عليه الحاج "أبو بسام" صاحبة مكتبة
العروبة أن يبيع له الجرائد، مقابل نسبة معينة على كل نسخة يبيعها ..
كانت سعادته لا توصف بوظيفته الجديدة، وقد
أحس أنه وُلد من جديد، بل وأنه لأول مرة يتذوق طعم الحياة؛ فصار يصحو قبل شروق
الشمس، يملأ صدره بالهواء، والتفاؤل، ثم يسلك طريقه مباشرة إلى المكتبة، يمشي وعلى
محياه أثر ابتسامة، وهو يردد صدى أغنيات بعيدة، يتناول ربطة الجرائد، ويبدأ
بالتجوال .. ومع مرور الوقت صار له برنامجا معينا، يبدأه بتوزيع الجرائد على
زبائنه المعروفين، فيضع لهم نسختهم تحت باب المحل قبل أن يأتوا، ثم يقف على الدوار
نصف ساعة، ثم يدخل البلدة القديمة فيذرعها جيئةً وذهابا، ثم يصعد حافلة رفيديا،
ليقف قبالة بوابة جامعة النجاح حتى ينتصف النهار، فيعود لوسط البلد وقد أنهى مهمته
تقريبا، وبين الحين والآخر كان يتجه صوب مخيمي بلاطة وعسكر، بل ويواصل مسيره حتى كفر
قلّيل وآخر شارع القدس، إلا أنه توقف عن ذلك، وصار يكتفي بشارع فيصل حتى بداية
شارع عمّان، في بعض الأيام يبيع كل نسخه، وفي أيام أخرى لا يبيع سوى أقل من النصف،
ومع الخبرة صار يربط بين بضاعته وبين طبيعة الأخبار في ذلك اليوم؛ الأمر الذي تطلب
منه الترويج للجريدة ليس فقط بقوله: جرايد جرايد .. قدس، أيام، حياة .. بل عليه أن
يختار أهم الأخبار وأكثرها إثارة وتشويقاً، ليرددها على مسامع الناس، حتى يحثهم
على الشراء.
لم يكن "الخفاش" يعرف القراءة،
فكان عليه أن يطلب من الناس قراءة العناوين الرئيسية ليحفظها ويرددها، لكن المشكلة
أنه في الصباح الباكر قلّما يجد أحد المارة، وإذا مرَّوا كانوا مستعجلين. وإذا
صادف أحدهم فإنه يختار فقط ما يروق له من أخبار، وقد اكتشف مع الوقت أنهم إما
انتقائيين، أو كذابين .. صاحب المول كان يقرأ له الخبر الرئيس: "أنباء عن
عاصفة ثلجية ستجتاح المدينة هذا المساء"، (فيعرف أنه ينتظر طوابير
المستهلكين)، وآخر يقرأ له: "اللجنة المركزية للحزب تدعوكم للمشاركة في
المسيرة الجماهيرية الحاشدة"، (فيعرف أنه يساري)، وآخر يقرأ له: "جحافل
المجاهدين تدمر رتلا عسكريا لجيش النظام"، (فيعرف أنه إسلامي يميني)، وآخر
يقرأ له: "حالة الاستقرار والأمن تجلب مزيدا من الاستثمارات للبلد"،
(فيعرف أنه سمسار)، وآخر يقرأ له: "القبض على خلية إرهابية"، (فيعرف أنه
من السلطة)، أو سيدة تقرأ له: "دراسة تثبت أن نصف الرجال مصابون بالضعف
الجنسي، والنصف الآخر يكذبون"، (فيعرف أنها عاشقة مكسورة الخاطر) ..
- من وين جايب هالأخبار يا خفاش !؟ فلّيت
الجريدة من الجلدة للجلدة، وما لقيت شي منها مكتوب فيها !!؟
وهكذا، أخذ الخفاش يفقد مصداقيته، ويخسر
زبائنه، فصار لزاما عليه البحث عن حلول؛ أخيرا اشترى راديو ترانزيزتر صغير، وصار
يسمع نشرة الأخبار قبل الخروج، ثم يصيح على الناس بأبرزها .. لكنه أدرك أن أخبار
الجريدة تختلف عن أخبار الراديو، وأخبار الناس التي يسمعها منهم تحتلف عن الاثنين.
في نهاية المطاف، وبعد تجاربه المريرة مع الناس، والإحراجات التي تعرض لها، قرر أن
يبيع جرائده صامتاً .. وأن يتكيف مع حجم مبيعاته الأقل.
في القرية، كان الأطفال يطاردونه، ويسخرون
منه، في المدينة ها هم الكبار يستغلونه للترويج لبضائعهم وتوجهاتهم .. ومع كل هذا
كان راضياً، وقانعاً .. فما أن ينهي جولاته ويعود إلى غرفته آخر المساء يكون التعب
قد نال منه، فيغفو سريعا .. لكنه في السنين الأخيرة، لم يعد ينام بسهولة، وصار
الليل طويلا وأحيانا بلا نهاية، ولولا ضجيج الصباح لما عرف أن ليله قد انتهى وبدأ
نهار جديد، وهكذا أخذ الملل يتسرب إلى قلبه، والمساحات القاتمة من حوله تزداد شيئا
فشيئا، وتطبق عليه من جميع الجهات .. ظل يبحث عن شيء مجهول، يعيش على أملٍ لا يعرف
ملامحه، وينتظر فـرَحاً لا يعرف شكله .. ظل ينتظر وينتظر حتى وصل إلى حافة اليأس
..
كان للخفاش قدرة فائقة على تمييز الروائح
والأصوات، وتخزينها في أعماق ذاكرته، ومهارة مدهشة في فهم الناس دون أن يراهم؛ فمن
رائحة الجسد والملابس يعرف لأي شريحة اجتماعية ينتمي الشخص، ومن نبرة صوته يحلل
شخصيته، ومن عطره يقدر مستوى ذوقه، وإذا صافحه يدرك إذا كان طيبا أم ماكرا، ومن
دفئه يحس بأوجاعه، ومن أسلوبه يشعر بخفة دمه ومرحه، أو طيشه وتهوره، أو كراهيته
غير المبررة للآخرين ... أما لتقييم الجمال فكانت له معاييره الخاصة، فمن خلطه لكل
ماسبق، ومن خلال الأطياف اللامرئية، وظلال الروح التي لا تدركها الأبصار كان يعرف
أن "مها" مثلاً متألقة دوما، لكن حظها عاثر، و"مفيد" ذميم
الخلقة والخُلُق، و"محمود" شديد العناية بأناقته، لكنه متعجرف،
و"أبو تحسين" متوسط الوسامة، وقلبه أنقى من أول الثلج،
و"ياسر" يبحث عن صديق مخلص بلا طائل، و"شعبان" في منتهى
الغباء .. أما "رمزية" فكان من السهل عليه، بل على أي أحد أن يعرف أنها
ثرثارة ..
مع أن ثقته بالناس تعرضت لهزات عنيفة، إلا
أنه لم يفقد الأمل كلياً، فمثلاً حين كان يُفرِغ ما في جيوبه مما جمعه طوال اليوم
يكتشف بعض القطع النقدية المزيفة أو عديمة القيمة، أو أزرارا معدنية .. لكن
"أبو علي" الصراف كان يعوضه خسائره النفسية والمادية، فهو لا يكتفي
بتحويل أغوراته إلى أوراق مالية من فئة المائة شيكل، بل يضيف عليها مما تجود به
نفسه.
في الليالي الباردة، كان يقلب ذكرياته
البعيدة، فيتذكر أيام القرية؛ حين كانت تتوالى عليه الأيام والليالي ثقيلة بطيئة
مكررة، كل دقيقة تشبه سابقتها تماما، كانت تأتيه مغلفة بالصمت، مغمسة بالقلق، كان
يصحو في وقت ما ولا يعرف إذا كان نهارا أم ليلا، فكل ما حوله غارق في ظلام دامس،
لم يكن حوله أي شيء يؤكد له أنه ما زال حياً، السرير الهزاز، النملية المهترئة، النافذة
الموصدة .. ماذا لو كان هو وكل ما حوله ينتمون للعالم الآخر !؟ كانت هذه الفكرة
تجتاحه بسرعة، حتى تشعره بفزع شديد، فيبدأ بالصراخ بأعلى صوته .. إلى أن يجيبه أي
شخص ليؤكد له أنه لم يمت .. وطالما تساءل في داخله: ما الذي يخيفني من الموت لهذه
الدرجة ؟! بل ما الذي يجعلني متمسكا بهذه الحياة البائسة ؟! كان يخفق في إيجاد أي
تفسير .. سوى غريزة البقاء .. اليوم يمكن أن يضيف سببا آخر .. حبه للحياة ..
كان يحسُّ بنسمةٍ لطيفة تداعب وجهه، فيعرف
أن سيدة ما ستعبر من أمامه بعد قليل، وإذا سمع موسيقى ساحرة تداعب أوتار قلبه،
فيعرف أن من ستأتي فائقة الجمال .. ومن هنا بدأت محاولاته في فهم الجنس الآخر، وفك
لغز المرأة، وسر أثرها على الرجل ..
كبر "الخفاش"، وصار في منتصف
العقد الثاني، وقد مر على مكوثه في نابلس قرابة العشر سنوات، حفظ شوارعها وحواريها
كما يحفظ باطن كفه، كثيرا ما كان يأتي أحدهم ليمسك ذراعه عارضا عليه المساعدة،
فيقول له ممتنّاً: صدقني بعرف الطريق، شكرا. كل هذي السنين مرت عليه بأحمالها،
داست على صدره بكل ثقلها، خضَّت أركانه بلا رحمة، لم يلمس طوالها جسد إمرأة، لم
يداعب طفلاً، لم يقبِّل أختاً، لم يلوح بيده مودعاً عزيزاً مسافرا، وبالتالي لم
يجلس على شباكه يتحرق شوقاً في انتظار غائب طال سفره .. نابلس المدينة الوحيدة في
العالم التي يعرف كل سكانها بعضهم البعض، كل الذين عرفهم كانوا يتعاملون معه
بإشفاق، لم يلجوا داخله، لم يكتشفوا إنسانيته، لم يسمعوا أنينه، لم يعرفوا شكواه، صديقه
الوحيد صار الراديو، كيف غاب عنه أن يقتني راديو منذ كان طفلا !؟ إنه جهاز رخيص وكان
بمقدور أي واحد من قريته شراؤه له !!
شو أخبار اليوم يا خفاش ؟ كان صوتا أنثويا
مثيرا، وينبض بالحنان، من شدة ارتباكه كبّله الصمت. تناولت جريدة، وأمسكت بطرف
يده، ووضعت فيها خمسة شواقل، أحس بدفء يدها، ونعومتها، قالت له شكرا، وغادرت على
الفور، تاركة خلفها فوضى عارمة، اجتاحت دواخله، وجعلته في حالة ذهول غير مسبوقة،
حتى أنه لم يفهم ما جرى له، اختفت بنفس السرعة التي ظهرت فيها، كما لو أنها مجرد طيف،
لكن صوتها ورائحتها لم يغادرا المكان.
لم تعرف "ليلى" ما الذي شدّها
إلى هذا الرجل الكفيف ؟! ما سر جاذبيته ؟ ولماذا صارت تأتي كل صباح لتشتري منه
جريدة !؟ أما هو، فصار ينتظر الصباح مثل العصافير، يجلس في ذات المكان عند مدخل
المول الجديد، لا حاجة له بأن يصيح كعادته: "جرايد، جرايد" .. يكفي أن
تأتي واحدة بعينها لتتناول جريدتها، وتجعل لنهاره طعما مختلفا ..
لم تعد تكتفي بسؤاله عن أهم الأخبار؛ صارا
يتبادلان الأحاديث، أحيانا باقتضاب، وأحيانا بإسهاب، في شتى المجالات، لكنهما كانا
حريصين على البقاء في مربع معين، يحدثها عن هواجسها ومخاوفها وقلقها، ويقرأ لها
الطالع، أما هو فكان يكتشف عوالمه المخبأة في دواخله، كان معها يشعر بقيمته، يحس
بشيء غامض لم يختبره من قبل، لكن إحساسه هذا أخذ يتزايد بشكلٍ لا قِبَل له به.
يقولون إن الحب أعمى، ولكن
"خفاش" أثبت أن هذا غير صحيح، فقد جعله الحب مبصراً، جعله يرى الدنيا
بقلبه، بأبهى صورها، بصورة لم يعرفها معظم المبصرين، وكلما فاض قلبه بالحب، تقلصت
مساحات العتمة التي كانت تغشي عينيه.
صارت "ليلى" تمر عليه بعد
الظهيرة، يتجاذبان الحديث، ويسرقان الضحكات، ثم تمسك بيده وتقوده حتى أطراف حارته،
وفي إحدى العصارى دعاها لغرفته المتواضعة، فلم تمانع، لكنها فوجئت بالمنظر، وهالها
كيف بمقدور إنسان أن يتحمل تلك البيئة، على الفور شرعت بحملة تنظيفات، وأعادت
ترتيب أثاثه المتهالك، بعد ساعتين كانت لمساتها الأنثوية قد جعلت من الغرفة شيئا
جديدا بكل معنى الكلمة، كان كلما نظفت شيئا يشكرها، ويذكّرها بأن حياة الضرير
تتطلب نظاما معينا، حتى يحفظ أماكن الأشياء وأبعادها ومقاساتها.
جلست على المقعد المقابل، ورفعت طرف
ثوبها، وهي عادةً لا تكشف عن ساقيها إلا لأمرٍ عظيم، لكن يبدو أنها نسيت أنه لا
يرى، فأصيبت بخيبة أمل، وقد أدركت أنه لن يقدر جمالها. كان قد اقترب من نهاية
الثلاثينات حين لمسها أول مرة، وضع كفّه على وجهها، تحسّسه بتأمل، ثم نزل ببطء إلى عنقها، كان
ناعما وطريا، ثم مرر كلتا يديه على كل جسدها بكل رقة، كان كمن يكتشف خرائط جديدة لعوالم لم يزرها أحدٌ من قبل، شعر بقشعريرة هزت أركانه، خفق
قلبه بشدة وتسارع نبضه .. كان مضطربا على نحو غير مفهوم، لكن سعادة من نوع لم
يختبره من قبل كانت تغمره تماماً .. أنفاسه كانت تذيبها كقطعة شوكولاته معروضة في
الشمس، أما عطرها فجعله يحلق في علّيين .. لم يشعرا بالوقت، انفصلا كلياً عن
الدنيا كما لو أنهما غادرا الكوكب ..
نابلس مدينة تفكر بعقلية قرية، وقد صرنا
حديث البلد، هذا ما قالته "ليلى" وهي ترجوه أن ينهي هذه العلاقة
المستحيلة، أما لماذا مستحيلة ؟ فلأنه من غير الوارد أن يوافق أهلها على زواجها
منه، وهو يريدها بشدة، لكنه لا يريد إنجاب أطفال، حتى لا يورثهم العمى، وهي تحلم أن تصير أُماً، وهما لا
يستطيعان الفرار من قدريهما، ولا يقدران على مواجهة الواقع.
سنة كاملة، ربما هي الأجمل في حياتها،
لكنها بالنسبة إليه السنة الوحيدة التي ذاق فيها طعم السعادة، وعرف معنى الحياة، إلا
أنها مرت كومضة، وانتهت بصورة مدوية؛ فقد اختفت "ليلى" ... منذ أكثر من
شهرين لم يشتم عطرها، لم يسمع ضحكتها، ظل يتساءل والألم يعتصر قلبه .. أين اختفت هذه
المجنونة ؟ هل يا ترى زوّجها أهلها غصباً ؟ أم قتلوها ؟ أم سافرت ؟ أم حبسوها في
قبو معتم ؟!
طوال العشر سنوات التالية، والخفاش ينتظر،
يقف كل صباح، عند مدخل المول، ويصيح بصوت يشبه النحيب: جرايد جرايد .. ثم ينتظرها بعد
الظهيرة عند شارع الأنبياء علّها تأتي وتمسك بيده، ثم يعود لغرفته يحدوه شعور غامض
بأنها تنتظره هناك، وأنه ما أن يفتح الباب حتى تقول له "ما أحلى هالطلة يا
طلال" .. من سيناديه باسمه الأول بعد اليوم ؟ ثم يجلس على شباكه يتحرق شوقا
.. في جوف الليل يتقلب على جنبيه وقلبه متجها صوب الباب على أمل أن تطرقه في أي
لحظة ..
في ذلك اليوم التشريني البارد، وبعد مغيب
الشمس بقليل، دخل الخفاش غرفته، كان تعبا وشاحب الوجه، وقد أيقن أن
"ليلى" لن تعود، جلس بتثاقل، لم يشعر بالوحدة كما شعر بها هذه المرة،
تأمل ماضيه كما لو أنه يشاهد فيلما سريعا، تذكّر قبلتها، مرر أصابعه على شفتيه
فأحس بأن طعم الشهد ما زال طازجا، وسمع صدى ضحكاتها تتردد بين جدران الغرفة، بل في
جنبات الكون .. صنع صاروخا بمقعدين، أحدهما فارغ، وانطلق به نحو الفضاء الخارجي ..
ظل يجوب سماء نابلس أسبوعا كاملا قبل أن يطرق أهل الحي بابه .. كانت أول مرة يُطرق
هذا الباب .. لكن الخفاش لم يسمع شيئا .. كان في مكان آخر ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق