في فيلم قصير متداول على
اليوتيوب، يشرح مفكر من أمريكا اللاتينية يدعى "راوول أورتيس" ما يسميه
"وهم الخرافة"، أو "نظرية الفقاعة"، وبحسب ما يقول؛ فإن شخصية
الإنسان تتحدد تِبعاً لعوامل لا دخل له فيها؛ فهو منذ ولادته يدخل في ما يمكن
تسميته فقاعة، في داخل هذه الفقاعة يتم مسبقا تحديد ديانة هذا الشخص، ومعتقداته
وأفكاره وقيمه ومفاهيمه ومعاييره التي سيحكم من خلالها على الأشياء الأخرى.
وتقوم هذه النظرية باختصار
على مقولة أن "حياتك لا تمثل الحياة الحقيقية"، وأنك عبارة عن "منتوج
ثانوي لما فكر به وقاله الآخرون دون سؤالك، ودون موافقتك"، وأن ما تعتقد أنه
يجعلك مختلفا هو في حقيقة الأمر "حزمة المعتقدات التي أُودعت في عقلك رغما
عنك"، وأن "ما تقوله وما تفكر به، وما تؤمن به هو ما تم تلقينك إياه حين
كنت طفلا"، ويستدل "أورتيس" على ذلك بأن الإنسان عادة لا يتساءل عن
مدى صحة ما يعتقد، ولا يراجعه، ولا يخضعه لأي قراءة نقدية، وأنه يؤمن بشيء ما لأن
المحيط من حوله يؤمن به، ويصدّق مقولة معينة، لأن الآخرين صدقوها ورددوها، حتى
باتت من البديهيات التي لا يتوقف عندها أحد.
إذن، وحسب النظرية؛ فإن حياة
الإنسان بأكملها هي مجموعة الأفكار والمفاهيم التي وُجدت في داخل هذه الفقاعة،
التي تمنعه من التفكير بوضوح وجرأة واستقلالية. لهذا يرفض الإنسان أية أفكار من
خارج هذه الفقاعة، أو ما لا يتلاءم معها، أو ما يتعارض مع أحكامه المسبقة، وإذا
كان لكل شخص (أو لكل مجموعة) فقاعة خاصة؛ فإن الآخرين غالبا يرفضون فقاعات غيرهم،
لهذا السبب نجد العالم منقسماً ومتعدداً، وفي حالة صراع دائم، وبسبب غرور الإنسان
وغطرسته، أو لأنه يعتقد أن كل الحقيقة هي ما بداخل فقاعته؛ فإنه يرفض النظر والبحث
عمّا هو أبعد منها.
وينهي "أورتيس"
نظريته بالقول: أن فقاعة الإنسان هي سجنه، مهما بدت له مريحة وفاخرة. وأنه تابع،
ولا يملك استقلالية مهما اعتبر نفسه مختلفا ومستقلا.
وسواء اتفقنا أم اختلفنا
مع النظرية، أو مع بعضها، إلا أنها جديرة بالنقاش، وتطرح تساؤلات من المفيد أن
نتوقف عندها، ونتأملها بروية وموضوعية؛ فلو ألقينا نظرة سريعة على المجموعات
الإثنية والطائفية وأتباع الديانات والمذاهب والنظريات الفلسفية والاقتصادية،
والثقافات المختلفة، لأمكن لنا بسهولة تسمية المئات منها، ولوجدنا أيضا أن أتباع
كل طائفة أو كل نظرية وكل مذهب لديهم إيمان جازم لا يزحزحه أي شك بأنهم هم دون
غيرهم من يمثلون الحقيقة والصواب.
وتفسير ذلك في منتهى
البساطة؛ أن الشخصية الفكرية (والعاطفية) للإنسان تتشكل في السنوات الأولى من
عمره، من خلال ما يرثه عن أهله، وما يتلقاه من المجتمع، وبعد ذلك يتحدد له مساره
في الحياة، والذي غالبا لا يحيد عنه، بل تجده يغذيه وينمّيه بنفسه وبشتى الطرق، فهو
يختار أصدقاء يشبهونه بالفكر والمسلك، ويقرأ فقط ما يتوافق مع أفكاره وأحكامه
الجاهزة، ويحب أن يسمع ممن يؤكد له معتقداته ويثني عليها، ولا يشاهد إلا القنوات
التي تنسجم معها، وحتى أنه سيختار المسجد الذي يقول فيه الخطيب ما يحب سماعه، وإذا
قرأ أو سمع ما يخالف ما يؤمن به من معتقدات ومفاهيم وقيم، فإن دفاعاته الذاتية في
اللاوعي تبدأ بالعمل من تلقاء نفسها، من خلال آليات الرفض، أو التبرير، أو التكذيب
والتشكيك.
ولذلك، فإن كل إنسان (في
الغالب) يولد ويعيش ويموت وهو متمسكا بمعتقداته التي نشأ عليها، ومتعصبا لجماعته،
ومعتقدا أنه كان في الجانب الصحيح.
ولفهم أعمق، لنرجع إلى
اللحظة الأولى التي يولد فيها الإنسان؛ سنجد أن الجنين يتكون من خلال نجاح حيوان
منوي واحد (من بين ملايين أخرى تسابقت معه) في الوصول إلى البويضة التي أُفرزت في
رحم الأم، وبعد التلقيح يتكون الزيجوت الذي يحمل الصفات الوراثية من الأبوين. ولو
وصل حيوان منوي آخر لنشأ إنسان مختلف بشيفرة وراثية مختلفة. إذن، اللحظة التاريخية
الحاسمة لولادة إنسان معين تبدأ في عملية تلقيح لا دخل له فيها، ثم تتشكل شخصيته ضمن
عملية تربية أيضا لا دخل له فيها، ولو حدثت هذه العملية في مكان ما ولحظة ما، فإنه
من المستحيل أن تتكرر بنفس الصورة في أي مكان أو تاريخ آخر، ما يعني أن الإنسان هو
نتاج عملية حظ، تلعب في المؤثرات الخارجية (التاريخ والجغرافيا) الدور الحاسم.
والهامش المتروك للإنسان فيما بعد ليختار أفكاره ومعتقداته هو هامش ضيق ضمن مسار
محدد سلفا.
ليس المقصود من خلال هذا
الطرح التشكيك في صحة الأديان والمعتقدات والأفكار؛ بل هي مجرد دعوة لكل إنسان أن
يفكر بتجرد وموضوعية وشجاعة، بعيدا عن المؤثرات التي صاغت له أفكاره دون الأخذ
برأيه، وجعلت منه إنسانا بشخصية معينة، رغما عنه. وهي أيضا دعوة لرؤية بعض الصواب
في النظريات والمعتقدات الأخرى المختلفة، لأن الحقيقة المطلقة موزعة على ما لاحصر
له من الحقائق النسبية. وهي دعوة لأن نتحلى بنظرة أكثر شمولية ورحابة، وأقل تعصبا،
لأن هذا هو الشرط الأساسي لتعايش الإنسان مع أخيه الإنسان.
أعجبتني مقولة (لا أعرف
قائلها) مفادها، أن الله سبحانه وضع الحقيقة المطلقة في مرآة، ثم كسرها إلى مئات
القطع، فأمسك كل إنسان قطعة منها، ونظر إليها فوجد الحقيقة، وأعتقد أنها كل
الحقيقة. تماماً، مثل الذي وقف خلف شجرة، ولم يرى سواها، ولم يعلم أنها تخفي خلفها
غابة كاملة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق