لاقت مشاركة الرئيس
الفلسطيني محمود عباس في المظاهرة المليونية في باريس ضد الإرهاب، ردود فعل
متباينة، أكثرها كانت رافضة للمشاركة، لأسباب مختلفة، منها مثلاً: أن عباس لم يذهب
إلى غزة أثناء العدوان عليها، أو لأن نتنياهو هو الآخر شارك في المسيرة، أو لأن
الرسامين يستحقون القتل، أو لأن فرنسا ذات تاريخ استعماري دموي ..
بالنسبة لي لم أجد أي سبب
وجيه ومقنع لرفض المشاركة، ولاحظت أن أغلبية المنتقدين هم في الأساس لهم موقف سلبي
ومعارض لعباس، وبالتالي ستكون أي خطوة يتخذها أبو مازن، (أو لا يتخذها) عُرضة
للنقد، ومناسبة للشتيمة، وفرصة لتصفية حسابات سياسية .. في أحيان معينة أتفق معهم
في النقد والاعتراض (طبعا دون شتائم وتخوين وإسفاف) وأحياناً أخرى لا أتفق. في هذه
المرة أرى أن مشاركته في مسيرة باريس كانت قرارا حكيما وشجاعا؛ للأسباب التالية:
أولاً، قتل صحافيين وشرطة
وموظفين في مجلة (وقتل أي إنسان) مرفوض من حيث المبدأ، والقتل بهذه الطريقة
الجبانة والغادرة هو عمل خسيس ومُدان، وهو نوع بشع من الإرهاب، ولكن هذا لا يعني
أبدا الموافقة على الرسومات، ولا يعني الإعجاب بالقانون الفرنسي الذي يجيز
الاستهزاء بالديانات، ويجرّم نبش التاريخ اليهودي، ويعتبر ذلك عملا لاساميا (قانون
جيسو 1992). لكن فضح التناقض في القانون الفرنسي لا يجب أن يمنع نبذ العملية
الإرهابية، خاصة وأنها أساءت لصورة الإسلام، وأعطت زخما قويا لأحزاب اليمين
المتطرفة الأوروبية، التي ستتخذ منها حجة لتضييق الخناق على المهاجرين المسلمين في
أوروبا. ومن هنا فإن مشاركة الوفود العربية والإسلامية ستكون فرصة لتحسين الصورة
المشوهة عن الإسلام في الرأي العام العالمي، حيث أنها تؤكد وقوف المسلمين أنفسهم
ضد الإرهاب.
وليس صحيحا أن شعوب العالم
لم تحرك ساكنا عندما تعرضت غزة للقصف، أو أنها لم تتضامن مع السوريين والعراقيين
في محنتهم، فقد خرجت مئات المسيرات في مختلف مدن العالم، ومنها باريس، والتي كانت
تضم مئات الآلاف من البشر وهم يصرخون بقوة ضد إرهاب إسرائيل، وضد حروب أمريكا على
العراق، وعلينا أيضا أن نقف إلى جانب الشعوب في محنتها.
وثانيا، إذا أردنا أن
نحاكم فرنسا على تاريخها الاستعماري، فهذا يعني أننا مطالبون أيضا بمحاكمة أمريكا
وجميع دول أوروبا واليابان وروسيا وغيرها، على تاريخهم الدموي، وإذا كنا أكثر
إنسانية وعدالة، فسنحاكم عشرات الدول الأخرى على تاريخها العنيف والإرهابي، وبالتالي
إما أن نجر تلك الدول إلى قفص العدالة، أو نقاطعها، وهذا كلام عاطفي لا علاقة له
بالعمل السياسي. ومع إقرارنا بضرورة ووجوب اعتراف تلك الدول بجرائمها السابقة
واعتذراها عنها، إلا أن هذا لا يمنع من إدانة أي عمل إرهابي في باريس، أو في أي
مكان في العالم.
ثالثا، فرنسا دولة دائمة
العضوية في مجلس الأمن، ولها ثقل سياسي دولي كبير، ولها مواقف إيجابية تجاه القضية
الفلسطينية، منذ عهد ميتران، وشيراك، وحتى الآن، وقد صوتت في الاجتماع الأخير
لمجلس الأمن لصالح قرار الدولة الفلسطينية، ومن الضروري الحفاظ على علاقات متينة مع
هذه الدولة المهمة، وهذا يتطلب الوقوف إلى جانبها في مثل هذه اللحظات الفارقة.
رابعا، ضمت المسيرة ملايين
المواطنين الذين عبّروا عن رفضهم للإرهاب، وبالتالي هذا موقف رأي عام عالمي، كما
شارك في المسيرة أكثر من أربعين رئيس دولة ورؤساء وزراء من مختلف أنحاء العالم،
وبالتالي هذا موقف دولي حازم، وغياب فلسطين عن مثل هذا حدث سيكون خسارة، وإضاعة
فرصة سياسية مهمة. حتى أن غياب أوباما جوبه بردود سلبية وانتقادات من قبل الصحافة
الأوروبية.
حاول نتنياهو من خلال
حضوره ومزاحمته للوصول للصف الأول الظهور الإعلامي لتبرئة نفسه من تهمة الإرهاب.
لكن كان واضحا توتر العلاقة الفرنسية الإسرائيلية، وقلة ترحيب فرنسا بنيتنياهو،
كما لاقت مشاركته استهزاء وسخرية غير عادية، على مستوى شبكات التواصل الاجتماعي
العالمية، وحتى في الصحف الإسرائيلية.
باختصار شديد، لا أرى أن المشاركة
في المسيرة تستحق كل هذا الضجيج. ومن رأى في المسيرة نفاق عالمي، عليه أن يدرك أن
العدالة وقيم الحق مجرد معايير مثالية، لا يتم الأخذ بها في المعادلات السياسية
الدولية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق