عاش
المشرق الإسلامي عصره الذهبي في الرقي والحضارة والبحث العلمي في الفترة ما بين (800
~ 1100م)؛ حيث حمل آنذاك مشعل التجديد والابتكار العلمي الذي تدين له أوروبا بالفضل،
وقد حقق فيه العلماء العرب والمسلمون أهم الاختراعات والاكتشافات في الرياضيات
والطب والفلك والفلسفة والكيمياء. وكانت الأساس الذي قام عليه عصر النهضة وعصر
التنوير. في هذه الحقبة ظهر الكندي (ت 866 م)، والخوارزمي (ت 850 م)، والجاحظ (ت 869
م)، والراوندي (ت 911 م)، والرازي (ت 932 م)، وأبو الحسن الأشعري (ت 936 م)،
والفارابي (ت 950 م)، وابن سينا (ت 1037 م) وابن الهيثم (ت 1039 م)، وابن حزم
الأندلسي (ت 1054 م)، والبيروني (ت 1048 م)، والمعري (ت 1058م)، كما ظهر إخوان
الصفا (983 م). إلا أنه بعد ذلك مباشرة، بدأت تتشكل ملامح أخطر انتكاسة في تاريخ
الحضارة الإسلامية، بالذات مع النصف الثاني من الخلافة العباسية. تلك الانتكاسة
التي ستوصلها للدرك الأسفل، ولكن بعد حين.
بدأت
عوامل الانهيار تفعل فعلها بعد أن سقطت الدولة في قبضة خلفاءٍ ضعيفين وفاسدين، ومن
بعدها دخلت الأمة في مرحلة التراجع والسقوط، وصار كثيرٌ من الفقهاء وعاظاً
للسلاطين، مهمتهم تبرير مفاسد السلطة وخلق ثقافة جديدة قوامها التقليد وتقديس النص
والإهتمام بالشكل وإهمال المضمون. في بدايات تلك الحقبة وجّه المتوكل ضربته
القاضية للمعتزلة وعلماء الكلام، ثم شنَّ الغزالي حربه على علوم العقل، وإنتشر فكر
ابن تيمية، واكتسب الفقهاء قداسة النص الديني نفسه، وانتصر النقل على العقل،
والتقليد على التجديد، وأصبح الفقه بديلا عن العلم، وصار مقترنا بالسلطة كتوأمين
لا يفترقان.
ينظر
كثير من الباحثين إلى أبو حامد الغزالي (ت1111 م) على أنه المتهم الأول بالتسبب
بسقوط الحضارة الإسلامية، وينسبون إليه فصل الثقافة الإسلامية عن البحث العلمي
المستقل وتوجيهها في اتجاه التشدد، وأيضا تحريمه تدريس الرياضيات والكيمياء
وازدرائه الفلسفة وتحريمه الفنون. في حين يرى آخرون أن هذه الاتهامات تنطوي على
قدر كبير من المبالغة، وتجانب الصواب، حيث أن عوامل الانهيار ترتبط بما هو أعمق
وأشمل من الغزالي؛ فلو ألقينا نظرة على المناخ الثقافي والسياسي الذي ساد في تلك
الفترة سنجد أكثر من عامِل ساهَم في تراجُع الحضارة الإسلامية، وتوقُّف مسيرة
العلم والعطاء.
فمثلاً،
شهد القرن الحادي عشر بروز دولة المرابطين المتشددة في المغرب، والتي انطلقت من
بعدها إلى الأندلس لتنهي حكم أمراء الطوائف من جهة، ولكنها من جهة ثانية ستنهي
حقبة بأكملها عرفت التسامح والوسطية والإبداع. أما منطقة المشرق فقد شهدت احتدام
الصراع على النفوذ بين القاهرة وبغداد (بين الفاطميين والسلاجقة) للسيطرة على بلاد
الشام والحجاز واليمن. في هذه الفترة زادت قوة السلاجقة، ودخلت المنطقة عصرا جديدا
تقود علاقاته نزعة عسكرية متشددة، تعتمد على عصبية دينية ومذهبية، متطرفة قياسا
بالعهود العباسية السابقة.
هذا
التغير الخطير في نمط العلاقات الداخلية واعتماد العقلية الأمنية والعسكرية فقط في
بناء دفاعات السلطة ضد خصومها المحليين والخارجيين، سيولد فضاءات عقائدية جديدة، ستؤسس
لنوع من الانقلاب الثقافي على المشهد العام الذي دام في القرنين السابقين، وسيبدأ
تدريجيا بإلغاء إيجابيات تلك الفترة، وسيعمل على تفكيك أيديولوجياتها المنفتحة تمهيدا
للإطاحة بها، وسيقود هذه المرحلة الغنية في سجالاتها ونقاشاتها الإمام الغزالي.
ولكن، حسب بعض الباحثين؛ فإن الأمر لا يتعلق
بالغزالي بقدر ما يتعلق بالارتكاس العلمي والحضاري الذي بدأ في عهد الوزير
السلجوقي إسحاق الطوسي (1018 ~ 1092 م) المعروف باسم "نظام الـمُلك"،
حيث دشّنَ نظاما تعليميا عُرف بالمدارس النظامية، وهي مدارس فقهية تركز على الدروس
الدينية على حساب البحث العلمي المستقل. وقد قامت على أساس مذهبي طائفي في مواجهة
التيارات "غير السنية" التي كانت وقتها بصدد الانتشار، كما قامت برامجها
الدراسية على تأويل سني صارم للفقه الإسلامي، يستند على المذهب الشافعي. وهو
اختيار لم يأتي مصادفة؛ فالمذهب الشافعي يركّز على أصول ومبادئ الشريعة (النص) ولا
يقبل بالمنهج المنطقي (العقل). وقد دام منهج المدارس النظامية حتى في الفترات التي
تلت حكم السلاجقة (كليات الشريعة الحالية مثال). وإلى الآن، تجد الخطاب الإسلامي
التقليدي ينحاز لأي نص (حتى لو كان حديث ضعيف) فيما لو تعارض مع المنطق والعقل
والذوق الإنساني.
استمر
التراجع حتى سقوط بغداد في قبضة المغول (1258م)، وبذلك
انهارت الهوية الثقافية السياسية للأمة، أو كادت، وصارت جموع المسلمين تلوذ
بالهوية الطائفية كبديل عن الهوية الحضارية، وكان لجوئها للدين بصورته الغيبية
العاطفية كإجابة مباشرة على حيرتهم وضياعهم، ومع ذلك، اتجهت الأمور نحو مزيد من
التدهور الثقافي والحضاري، تحت تأثير العامل الخارجي، والذي استمر بعد ذلك من خلال
حكم المماليك والأتراك.
في
تلك الحقبة برز ابن تيمية (ت 1328 م)، وهو أبرز المنظّرين الذين لهم مواقف متطرفة
ومتزمتة من أهل الكتاب، ومن المرأة، وفي تكفير الفرق والمذاهب الإسلاميّة، ويعتبره
كثير من الباحثين الأب الروحي للجماعات المتطرفة، وهو الذي أسس المدرسة الفقهية
المتشددة، التي محقت روح التسامح والانفتاح، وجعلت من الفقه (الحنبلي) نفسه بديلا
عن المعرفة الحضارية والبحث العلمي والعلوم الطبيعية.
بعد
انقضاء العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، توقف إسهام المسلمين في الحضارة
الإنسانية، ولعل آخر إسهام مهم تمثّل في مقدمة ابن خلدون (ت 1406 م) ومن بعدها لم
يقدم العرب والمسلمون شيئا، بل صاروا عبئا على الحضارة الإنسانية، وحاليا لا تتعدى
مساهمتهم 1% من مجمل الحضارة الإنسانية، وهي نسبة ضئيلة كميا ورديئة نوعيا.
وهكذا، رأينا كيف عطلت العقلية المتحجرة
(من كافة الأديان) مسيرة العلم والحضارة، وحرمت العالم من الكثير من فرص التقدم،
التي كان بمقدورها لو تحققت أن تغير الكثير من تاريخ العالم، وحجتها دوما الرغبة
في التخلص من "الأفكار المغلوطة والمسيئة"، والتوهم بامتلاك الحقيقة،
والنزعة لمصادرة الرأي الآخر ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق