يقع مكتبي في الطابق الأول من العمارة المقابلة
مباشرة لبناية مجلس الوزراء بالقرب من دوار محمود درويش، ومن على نافذتي الواسعة،
أقف بين الفينة والأخرى لأطل على الشارع، وأرقب حركة الناس، وموكب رئيس الوزراء،
وضيوفه الأجانب، ومسيرات الاحتجاج، واعتصامات نقابات الموظفين والمعلمين والعمّال
وأصحاب صالونات الحلاقة ..
هذا الصباح، جاءت سيدة أربعينية بصحبة طفليها،
ووقفت أمام بوابة المجلس، وعلى الفور رفع كلٌ منهم "كرتونة" مكتوب عليها
شعارات ومطالبات معينة، من موقعي لم أتمكن من قراءتها .. ولكني توقعت مضمونها ..
مباشرة، جاء أحد الحراس بخطى بطيئة، ووقف قبالة
السيدة، على ما يبدو أنه لم يكلمها، بل أخذ يقرأ اليافطات، ويهز رأسه، ثم عاد
لمكانه بنفس الهدوء، تناول جهاز الإرسال وتحدث مع أحدٍ ما بالداخل ..
بعد ربع ساعة، خرج رجل طويل يرتدي بدلة رمادية مع نظارات
سوداء، وعلى أذنيه وصلة سماعة، تقدم مسرعا نحو العائلة الصغيرة وطلب منها أن ترجع
للخلف عشرة أمتار على الأقل، لأن دولة الرئيس على وشك الوصول، قالت له السيدة
المحجبة بصوت مرتجف: كل ما أريده دقيقتين لأسلمه رسالة .. أجابها بعصبية واستغراب:
معقول؟ بتفكري سيادته فاظيلك ؟!
بعد نصف ساعة وصل الموكب، ثلاث دراجات نارية وسيارتي
مرسيدس تتقدمان سيارة دفع رباعي ضخمة وفي المؤخرة سيارة إسعاف، خفف الموكب من
سرعته قليلا قبل أن يتجه نحو المدخل، ثم توقفت سيارة الرئيس لثواني معدودات، كان
الزجاج معتما، لم أعرف إذا توقف لقراءة اليافطات، أم بسبب وجود "مطب"
على المدخل.
مرت ثلاث ساعات، والعائلة تقف مكانها بثبات، وقد
أخذت الحرارة ترتفع والشمس تتوسط السماء، بينما الأولاد يُغطون رؤوسهم بالكراتين،
مما يصعّب على المارة قراءتها، بعد قليل أخذت الأم طفلها الأصغر من يده، ومشت به
نحو خمسة أمتار، ثم أنزلت بنطلونه وملابسه الداخلية، ليبول على الحائط. دون أن
تكترث لنظرات الشرطي وصراخه.
بعد ساعة توقفت سيارة جيب، ونزلت منها سيدة أجنبية
(كان واضحا من ملابسها ولون بشرتها) يبدو أنها مراسلة وكالة سي أن أن، وقد عرفت
ذلك من شعار الميكروفون، تحدثتْ مع الأم بدون مترجم، وباستخدام لغة الإشارات وبعض
الكلمات بالعربية الركيكة، والاستعانة بالمصور الذي كان يجيب عنها.
بعد الظهر كان الحر قد اشتد، والأولاد استبد بهم
التعب، الأصغر اتكأ إلى الحائط وغط في نوم عميق، بينما الثاني كان يتبادل مع أمه
حديثا صامتا .. في هذا الأثناء توقفت سيارة دفع رباعي، ونزل منها رجل ملتحي، بوجه
صارم، أخذ يلتقط الصور للعائلة من زوايا مختلفة، كان حريصا أن تظهر يافطة رئاسة
المجلس في خلفية كل صورة، صوّرَ الطفل وهو نائم، وآثار بوله على الحائط، ثم غادر
دون أن يتحدث مع أحد.
بعد قليل جاء بائع الكعك، يجر عربته بتثاقل،
وعندما وصل أمامهم، أخرج ثلاث كعكات، ووضعها في كيس بلاستيك، وقدمها للأم وفي
عينيه نظرة عطف. لم ينبس بحرف، واصل سيره بنفس التثاقل.
مضى بقية النهار بطئيا مملا، ساده صمت طويل، كانت تعكره
أحيانا أصوات الشاحنات والباصات المسرعة وهي تمر من أمام المجلس دون أي اهتمام،
بعد العصر غادرت العائلة المكان مخلّفة وراءها اليافطات على أمل أن يقرأها أحد المسؤولين.
صبيحة اليوم التالي وقفتُ على الشباك منتظراً قدوم العائلة، وبالفعل لم تتأخر،
الأم والأطفال بنفس الثياب، ولكن مع "كرتونة" واحدة جديدة، ثُبّت على
ظهرها خشبة طويلة.
هذا اليوم جاء صحافيون كُثر، أولهم مراسل محطة بي بي
سي، ثم فوكس نيوز، ثم تلفزيون الأقصى، والقدس، وفلسطين، والجزيرة وحشد من المصورين
والمخبرين والفضوليين .. كانوا يسألون باستفاضة وحماسة، والأم تجيب بكلمات محدودة
مقتضبة، وسط حيرة وذهول الأولاد .. الذين كانوا ينظرون بقلق واهتمام إلى بداية
الشارع، على أمل أن يرجع بائع الكعك ..
على مدى أسبوعين، وأنا أرقب مدخل مجلس الوزراء، نفس
المشهد يتكرر؛ في كل صباح تأتي الأم وطفليها، وبعد العصر يغادرون، وقد نشأت صداقة
خفية بين العائلة وحراس المدخل، الذين كانوا يزودونهم بالماء، فيما بائع الكعك لا
يتأخر عن موعده، ثلاث كعكات مقابل ابتسامات الأم وطفليها .. في هذه الأثناء، كانت
الفضائيات تتناقل الخبر العاجل عن طفل اعتاد أن يبول أمام مجلس الوزراء، فيما عقدت
الأحزاب والقوى السياسية سلسلة اجتماعات مطولة لمناقشة الحدث وتداعياته، وأقامت
منظمات مدنية أخرى ورشتي عمل إحداها في "الموفنبك" والثانية في "الجراند
بارك"، وقرر المجلس التشريعي إيفاد لجنة إلى مقر مجلس حقوق الإنسان في جنيف، كما
تناول الكتّاب الموضوع من كافة جوانبه، وحاز مصور رويتر على جائزة أفضل صورة ..
وكما جرت العادة، انقسم الناس في الرأي: فريق يرى أن
تصرف العائلة يسيء للوحدة الوطنية، ويضرب الموسم السياحي للبلد. وفريق يرى أن
الحكومة المتآمرة هي التي أرسلت العائلة لتُظهر للعالم على أنها ديمقراطية. وفريق
يرى أن العائلة مظلومة ومطالبها عادلة لكن الدول المانحة هي السبب. وفريق يحمل
الحكومة المسؤولية، ويطالب بإسقاطها.
بعد أسبوعين، اختفت العائلة، واختفى معها بائع
الكعك، ولم يعرف أحد ما جرى لها .. بل، ولم يعد أحد يذكر القصة. في اليوم التالي
جاء عامل النظافة يرتدي أفرهول برتقالي، ولولا سماعات الهيدفون في أذنيه لظننت أنه
أحد الفارين من "جوانتنامو"، سألته بفضول: صارلك ساعة بتنظف في مترين !!؟
أجاب بتلقائية مدهشة: أنظف المكان من أثر القصائد والخطابات ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق