شهد العالم في مستهل القرن العشرين تحولات
عميقة جدا، ولكن بأساليب دموية عنيفة بالغة القسوة؛ ففي النصف الأول من هذا القرن
الدموي نشبت حربين عالميتين مدمرتين، بالإضافة إلى عشرات الحروب الفرعية الأخرى، أُزهقت
فيها ملايين الأرواح. ولكن، مع النصف الثاني بدأ العالم يتعافى قليلا من أمراضه
وجنونه، وأخذ يستعيد شيئاً من عقله. ولو تناولنا بعض الأمثلة لمقارنتها بين ما جرى
في أوائل القرن وأواخره، ربما نخلص باستنتاجات مدهشة .. لنتابع
بريطانيا
العظمى، كانت تحتل ثلثي الكوكب، وجنودها في المستعمرات يقترفون أفظع الجرائم،
والمذابح، دون أي أن تهتز لأحدهم قصبة؛ في الهند على سبيل المثال، فتح الجنود
الإنجليز في العام 1919 نيران رشاشاتهم على مسيرة جماهيرية سلمية في
ملعب مغلق، وقتلوا الآلاف منهم، ورموهم في البئر .. في الجزائر قتل الجنود
الفرنسيون أكثر من سبعين ألف مواطن جزائري في مذابح سطيف وقالمة وخراطة أثناء
قمعهم لمظاهرات شعبية خرجت تطالب بالاستقلال الوطني (1945) ..
وفي ليبيا اقترفت القوات الإيطالية الغازية عشرات المذابح بحق القرويين، لعل
أبشعها مجرزة الكفرة على يد الجنرال غراتسياني (1930) ..
في
تركيا أثناء الحرب العالمية الأولى طرد الجيش العثماني الأرمن من ديارهم، وأجبرهم على المسير لمئات الأميال في الصحراء،
وتم حرمانهم من الغذاء والماء، وهناك روايات عديدة تفيد بارتكاب الجيش حملات تطهير
عرقي راح ضحيتها مئات الآلاف من الأرمن.
في
مدينة نانجين في الصين جمع الجيش الياباني سنة 1939 سكان
المدينة في ساحة عامة، ثم فتح الجنود نيران رشاشاتهم على مدى يوم كامل حتى قتلوا
مائتي ألف إنسان دفعة واحدة .. وبعدها بسنوات قليلة ألقى طيار أمريكي قنبلة ذرية
على مدينة هيروشيما اليابانية، وبعدها بأسبوع ألقيت قنبلة ثانية على ناغازاكي، راح
ضحية القنبلتين مئات الآلاف من المدنيين (1945) ..
وفي
نفس الحرب ألقى الطيران الأمريكي والياباني ملايين الأطنان من المتفجرات على مدينة
مانيلا، حتى تحولت شوارعها إلى مسرح دم وجثث متناثرة .. وعلى مقربة منها اقترف
الفرنسيون (1946 ~ 1954) ومن بعدهم الأمريكان (1964 ~ 1975) أبشع الجرائم والمذابح في فيتنام، التي قتل فيها ما يربو عن المليوني إنسان،
أغلبيتهم الساحقة من المدنيين .. ونفس المذابح تكررت في الحرب الكورية (1950 ~ 1953).
الصين،
وبعد أن نالت استقلالها عانت من المجاعة والحرب الأهلية وحملات التصفية الداخلية
أثناء "الثورة الثقافية" التي راح ضحيتها ملايين المواطنين (1968) .. وفي أوكرانيا قتل عام 1932 من جراء المجاعة أكثر من ثلاثة ملايين إنسان،
لأن السلطات أخذت كل محاصيلها الزراعية لصالح المجهود الحربي .. أما لينينغراد، فبعد
ثلاث سنوات من حصارها (1944)، كانت قد خسرت مليوني مواطن من سكانها على يد
القوات النازية. وفي كمبوديا، قتلت عصابات الخمير الحمر نصف سكان الدولة خلال
أربعة سنوات (1975 ~ 1979)، حتى أن قائدهم "بول بوت" أمر بتفريغ العاصمة
من سكانها، وإسكانهم قسرا في الأرياف ..
عشرات
المذابح وحملات الإبادة الجماعية اقترفتها جيوش الدول الاستعمارية والحكومات
المستبدة، ولا مجال لذكرها جميعها هنا، ولكن هل كانت تلك الجرائم والممارسات
اللاإنسانية تنفَّذ على أيدي الجيوش والحكومات فقط ؟ أم أن مواطني تلك الدول كانوا
شركاء في الجريمة، بشكل أو بآخر، أو متواطئين معها، أو يمارسون جرائم من نوع آخر ؟
ربما بمستويات أكثر بشاعة وأقل إنسانية ..
في أمريكا مثلا، كان يسود نظام التمييز
العنصري، الذي كان ينظر للمواطنين السود على أنهم أناس أو كائنات زائدة عن الحاجة،
فلا يسمح لهم بدخول الجامعات أو المطاعم والأماكن العامة، وإذا صعد أحدهم في
القطار أو الباص فعليه أن يظل واقفا. وعندما بدأت الدولة تقلص من إجراءتها
العنصرية تحت ضغط ومطالبات حركات الاحتجاج بقيادة مارتن لوثر (1968)، كانت ردة الفعل العنيفة من قبل المواطنين البيض
أنفسهم.
في جنوب إفريقيا، طوال العهد البائس لنظام الفصل العنصري، كانت
الأغلبية تخضع لقوانين عنصرية لم يعرف التاريخ مثيلا لبشاعتها؛ إذْ كان السكان
محرومين من كافة حقوقهم الطبيعية والمدنية، يعيشون كالعبيد، في ظروف تفتقر لأبسط
الشروط الإنسانية، كانوا يقطنون في أكواخ حقيرة، ولا يعملون إلا في المناجم، ولا
يتنفسون إلا الهواء الملوث، حتى تتقطّع رئاهم وتُنهك أجسادهم، ليعيش الرجل الأبيض
بنعيم ورخاء، وكان يكفي لأي مستوطن أبيض أن يختار أي قطعة أرض ليبني عليها بيته،
ثم يتقدم بطلب للسلطات بأن وجود البلدة المجاورة يشكل إزعاجا له ولأطفاله، فتقوم
السلطات بترحيل البلدة عن بكرة أبيها .. وللعلم، هولندا كانت من أوائل الدول التي
أرسلت طلائع مستوطنيها إلى كيب تاون.
في
أستراليا، كانت بعض المنظمات الأهلية مدعومة من السلطات تقوم بانتزاع الأطفال عنوة
من أسرهم (من السكان الأصليين)، ثم تسكينهم في أديرة ومدارس خاصة على بعد آلاف
الأميال عن بلداتهم الأصلية، حتى لا يعودون إليها أبدا، وذلك في سياق محاولات
إبادة ومحو السكان الأصليين والقضاء على ثقافتهم ولغتهم وذاكرتهم الشعبية، لأن
المستعمرين البيض كانوا ينظرون للسكان الأصليين على أنهم مخلوقات بدائية غير جديرة
بالعيش. ولم تتوقف هذه الممارسات اللاإنسانية إلا في العام 1974.
في
ألمانيا كانت الجماهير عن بكرة أبيها مسحورة بخطابات هتلر، وكانت أفكاره النازية
من المقدسات التي قلّما يختلف عليها اثنين .. وأيضا في إيطاليا، كان مجمل الشعب
مأخوذا بسحر موسوليني وشعاراته الفاشية .. وكذلك الحال في الاتحاد السوفييتي؛ كان
الزعيم ستالين يحظى بشعبية جارفة، والأفكار الشيوعية من البديهيات التي لا تُناقَش
.. وفي أمريكا أعاد المواطنون انتخاب الرئيس ترومان الذي تجرأ على استخدم القنبلة
الذرية مرتين ضد مدن آهلة بالسكان .. في معظم دول العالم كانت الشعوب متحمسة لفكرة
الحرب والمقاومة والانتقام، ولا تتورع عن دعم حكوماتها لاحتلال الدول الأخرى، وقصف
المدن، والتصفيق لزعمائها حتى لو كانوا مستبدين وقتلة ..
في بدايات القرن العشرين كان النظام
الدولي قائما على هيمنة كل من بريطانيا وفرنسا، وكانت الحقبة الكولونيالية في
ذروتها المتوحشة، حيث كانت أوروبا تنهش من لحوم القارات الأخرى، بلا أي وازع
أخلاقي، أو رادع قانوني، والعالم بأسره بدا كما لو أنه في إحدى تجليات جنونه؛ حتى
المنظمة الدولية التي أنشأتها الدول الكبرى (عصبة الأمم) جعلتها مصممة لخدمة
أهدافها التوسعية الإمبريالية. وفي النصف
الثاني تغير شكل النظام العالمي، وصار مبنيا على أساس التوازن بين القوتين الأعظم
(أمريكا والإتحاد السوفييتي) مع نشوب حرب باردة بينهما، أشعلت عشرات الحروب
الساخنة بين وكلائهما وحلفائهما في مختلف القارات. هذه الحرب الباردة أنهكت شعوب
العالم بالصراعات، وانتهت بإقصاء السوفييت، وتفرد الأمريكان بالهيمنة على العالم، ونشوء
نظام دولي جديد أحادي القطبية، تعربد فيه الولايات المتحدة كما يحلو لها ..
ولكن، وبالرغم من استمرار مسلسلات القتل،
والظلم، واضطهاد الشعوب، والحروب الأهلية والإقليمية، إلا أنه في ثنايا هذا
النظام، وخلال العقود الماضية بدأت معالم تغيرات مهمة جدا، بل وتشكلت الكثير من
تجلياتها بوضوح، والتي من المؤمل أن تفتح بوابات على المستقبل، وعلى عالم جديد خال
من الحروب والنزاعات، ومن كافة أشكال الظلم والعنصرية ..
انتهت الحرب العالمية الثانية بحصيلة فاقت
الستين مليون قتيل، وبحجم دمار فادح .. كانت مشاهد الخراب وأكوام الجثث كافية
لتشكل صدمة في الوعي الإنساني، ليفهم العالم، ويرى بوضوح كافي مدى عبثية الحروب
وقدرتها على التدمير ..
عشية انتهاء الحرب، تأسست هيئة الأمم
المتحدة، بميثاقها الجديد، والمختلف كليا عن ميثاق العصبة، وتشكل مجلس الأمن
والجمعية العمومية، التي صار لها دورا (ولو متواضعا) في درء الحروب، وحل النزاعات
وتأمين الحماية للمدنيين من خلال قوات حفظ السلام، وتم التوقيع على اتفاقيات جنيف (1949)؛ بشأن الجرحى والمصابين، وبشأن رعاية أسرى الحرب
وضمان حقوقهم الإنسانية، وبشأن حماية السكان المدنيين وقت الحرب، وبشأن اللاجئين
وعديمي الجنسية والمهجّرين.
وبعد تأسيس المفوضة
السامية لحقوق الإنسان، تم تشكيل العديد من الهيئات الدولية التي تعنى بهذا
الموضوع من مختلف جوانبه، بهدف مكافحة العنصرية والتمييز، وإنصاف المرأة والطفولة،
ودعم الفئات الضعيفة والمهمشة، مثل: اللجنة المعنية بحقوق الإنسان (1966)، ولجنة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية
والثقافية (1966)؛ ولجنة القضاء على التمييز العنصري (1965)؛ واللجنة المعنية بالقضاء على التمييز ضد
المرأة "سيداو" (1979)، ولجنة مناهضة التعذيب والمعاملة
القاسية أو المهينة (1984)؛ ولجنة حقوق الطفل (1989)، واللجنة المعنية بالعمّال المهاجرين وأفراد أسرهم (1990)؛ واللجنة المعنية بحقوق الأشخاص ذوي
الإعاقة (2006)؛ واللجنة المعنية بحالات الاختفاء القسري (2006).
وإلى جانب الميثاق الدولي لحقوق الإنسان، تشكلت "اليونيسكو"
لرعاية الثقافة والعلوم وصون التراث الإنساني، و"اليونيسيف" لرعاية
الطفولة، ومحكمة العدل الدولية لفض النزاعات بين الدول، والعديد من المنظمات
الدولية الأخرى المتخصصة بمجالات الزراعة والغذاء والصحة والعمل وغيرها. وبالإضافة
للمنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة، تأسست منظمات أهلية عابرة للحدود، مثل
منظمة العفو الدولية أمنيستي، وهيومان رايتس ووتش، وأطباء بلا حدود، ومراسلون بلا
حدود، والعديد من حركات التضامن الدولية، التي عادة ما تصطف إلى جانب الشعوب
المقهورة والفئات المضطهدة والمظلومين.
وفي العام 1998 تم التوقيع على
ميثاق روما لإنشاء المحكمة الجنائية الدولية، التي دخلت حيز التنفيذ العام 2002. وصار بمقدور أي دولة تعرضت للعدوان أو مورس
بحقها جرائم حرب أن تقاضي الجهة المعتدية مهما كانت.
وفي مجال التضامن الإنساني والتدخل وقت الكوارث، زادت أهمية ومسؤوليات
منظمة الصليب الأحمر والهلال الأحمر، وصار من المألوف جدا أن ترسل الدول الغنية
معونات مادية وفرق مساعدات لإنقاذ أي منطقة تعرضت لأي كارثة طبيعية.
وفي المجال الرياضي بات التنافس بين الفرق الرياضية والمنتخبات الوطنية
بديلا عن الحروب والصراعات، وصار الأولومبياد والألعاب الأولمبية وبطولات كرة
القدم وغيرها من أهم الأحداث الدولية التي تسترعي انتباه وشغف الشعوب.
الإعلام، بعد أن كان رسميا ومقيدا، تحتكره الحكومات، أُفلت من قبضة
الرقابة، وصار بإمكان أي مواطن أن يصبح مراسلا صحافيا، وأن ينقل الحدث لكل العالم
وقت حدوثه، وهذا التطور الكبير أثر بصورة إيجابية على تشكيل الرأي العام، وسلَّط
الضوء على معاناة الشعوب، وقيَّدَ أيدي الأنظمة في قمعها وممارساتها التعسفية. وبفضل
التطورات التقنية المذهلة في عالم الاتصالات والمواصلات وتكنولوجيا المعلومات تقلص
العالم أكثر، حتى صار أشبه بالمجتمع الصغير.
وفي مجال مختلف، يأتي موضوع البيئة، (التغير المناخي، التلوث، التصحر،
الاحتباس الحراري ..) كمثال آخر، حيث كانت أول مرة يبحث العالم هذه القضية المهمة
والحيوية وبشكل جدي وعلى مستوى الحكومات، في مؤتمر الريو عام 1992، أو ما عُرف بقمة الأرض، والتي تبعتها مؤتمرات
عديدة، انبثقت عنها اتفاقية كيوتو، التي دخلت حيز التنفيذ في 2005. بالإضافة لنشوء العديد من منظمات وأحزاب السلام
الأخضر، في العديد من دول العالم، خاصة في أوروبا.
وعلى صعيد آخر، بالنسبة لإستراتيجيات
التنمية وإعادة البناء؛ فقد دخل العالم مرحلة جديدة من أهم سماتها استخدام التكنولوجيا
الحديثة، واعتماد إستراتيجية التنمية المستدامة، التي تركز على الاستخدام الأمثل
للموارد المتاحة، ومن ضمنها "الموارد الوراثية". وبالنظر لأهمية تلك
الموارد؛ كان من المهم الحفاظ عليها وعلى تنوعها، واعتبارها تراثا إنسانياً وملكا
للأجيال القادمة؛ لذلك صدرت اتفاقيات دولية عديدة تعترف بأن للمجتمعات المحلية خاصة
في الدول النامية حقوق ملكية فكرية في مواردها الوراثية ومعارفها وممارساتها التقليدية،
ولها حق السيادة الوطنية عليها، ولها الحق باستصدار تشريعاتها القانونية التي تضمن
حقوقها من ناحية، وتساعد في الحصول على التكنولوجيات والمعلومات والوسائل العلمية الحديثة
من ناحية أخرى.
وإذا كان نظام حماية الملكية الفكرية قد تم وضع أسسه خلال
عهد التصنيع في الغرب، إلا أنه ثم جرى تطويره في وقت لاحق بما يتماشى مع
الاحتياجات المفترضة للمجتمعات المتقدمة من الناحية التكنولوجية؛ حيث أنشأت الأمم
المتحدة, المنظمة الدولية للملكية الفكرية (WIPO)كواحدة من الوكالات
المتخصصة، وبعد أن تم التوقيع على نظامها في ستوكهولم في عام 1967, ثم دخلت حيز التنفيذ عام 1974 بهدف تشجيع حماية حقوق
الملكية الفكرية في كل دول العالم من خلال التعاون بين الدول والهيئات الدولية.
وفي
مجالات الزراعة والتنوع البيولوجي والأمن الغذائي العالمي؛ وإدراكاً منها لأهمية
هذه القضايا فقد عمدت منظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، لإنشاء "هيئة الموارد
الوراثية للأغذية والزراعة" سنة 1983،
سعيا منها إلى تحقيق توافق عالمي حول السياسات الخاصة بالتنوع البيولوجي للأغذية
والزراعة. وفي العام 1993 دخلت إلى حيز التنفيذ
المعاهدة الخاصة بالتنوع الأحيائي (CBD)، وتمثل هذه المعاهدة
التزاماً من الدول بالمحافظة على التنوع الأحيائي، واستعمال الموارد الأحيائية
بصورة تحافظ على استدامتها، ومشاركة الفوائد الناتجة عن استعمال الموارد الوراثية
بصورة منصفة وعادلة بين الشعوب.
ويمكن ذكر أمثلة إضافية في مجالات
التشريعات، والقوانين، والتخطيط، وتأسيس المنظمات والهيئات العالمية، وإبرام
المعاهدات الدولية، وأشكال التعاون الإنساني، وعقد المؤتمرات العلمية والمتخصصة في
شتى المجالات، التي من شأنها وضع الإطار القانوني والتشريعي والأسس النظرية والموضوعية
لتنظيم حياة سكان الكوكب، وتسهيل حياة الناس، وضمان أمنهم ورخائهم، وتعزيز الروابط
الإنسانية، وإيجاد الحلول للمشاكل المستعصية والمستجدة التي تهدد مصير العالم،
ومستقبل الإنسانية .. لكن هذه كله لا يكفي؛ لأنه وبالرغم من كل ما ذُكر؛ ما زالت
معظم دول العالم تعاني من الحروب،
والمجاعات، والأوبئة، ومشاكل الفقر والبطالة، والمشردين، والمهجرين من أوطانهم، والاحتلال،
والنزاعات الأهلية، والتمييز العنصري، والظلم، والاتجار بالبشر، والمخدرات ...
في خضم هذه التحولات، وبنظرة تأملية
لها، تضعها في سياقاتها التاريخية والجغرافية، يمكن المجازفة بالقول بأن ما يعرف
بدول العالم الأول، أو ما يسمى بالعالم المتحضر، (وبالذات الدول الأوروبية) هي
التي أسست وقادت هذه التحولات. والمفارقة أن أوروبا التي كانت في السابق منبع
العنف ومصدر الإرهاب، ها هي تلعب الآن دورا مهما على المستوى العالمي، ولكن بأشكال
ومضامين مختلفة كليا.
أوروبا، وبعد أن عانت لفترات طويلة من
الحروب الدينية والعنف والإضطهاد والتسلط الكنسي والإقطاع والأمية والفقر، أخذت
أولى خطواتها في التحرر والانعتاق والتقدم نحو الأمام، إبان الثورة الصناعية، ومع
التغير في وسائل وأدوات الإنتاج، ونشوء ما عرف حينها بالدولة الوطنية، وترسيم الحدود،
وتشكُّل أنظمة ديمقراطية تتيح قدرا من حرية التعبير، والتخلص من سلطة الكنيسة
والإقطاع، والتحول إلى تداول السلطة بشكل سلمي، وتشكُّل الأحزاب على أسس طبقية، وبالتالي
نشوء طبقتي العمّال والبرجوازية الوطنية التي تفصل بينهما طبقة وسطى عريضة، أنتجت
الفن والأدب والمسرح والأوبرا والنحت والرسم والفلسفة .. إلى جانب التطور الصناعي
وما لزمه من توسع في الاكتشافات الجغرافية والصناعات العسكرية .. وقد أفضت هذه
المرحلة التي استمرت قرابة الثلاثة قرون إلى تشكل نُظُم وثقافات جديدة في أعقاب
الحرب العالمية الثانية، أدت في نهاية المطاف إلى تشكيل الإتحاد الأوروبي.
على مستوى آخر، وضمن نفس الفترة، كانت
الولايات المتحدة قد تحررت من الاحتلال البريطاني، وتخلصت من نظام العبودية،
وانتهت من الحرب الأهلية، وأسست نظاما مدنيا جديدا .. أخذ مساقات تاريخية يمكن
اعتبارها امتدادا للجذور الأوروبية التي بذرها المهاجرون الأوائل، ومشابهة في
مآلاتها لما حدث في القارة العجوز، مع فارق جوهري، هو أن المجتمع الأمريكي الجديد
بلا تاريخ، أي أنه بلا قيود تشده للماضي، ولذلك أخذ بقوة اندفاع تجاوزت أوروبا
والعالم بمراحل.
وبالإضافة لأوروبا والولايات المتحدة
يمكن إضافة: كندا، أستراليا، اليابان، كوريا الجنوبية، روسيا، ماليزيا، الصين،
وبدرجة أقل: الهند، البرازيل، جنوب إفريقيا .. هذه الدول وإلى درجة معقولة تتشارك
في سمات معينة؛ فهي دول ديمقراطية، تنعم بالأمن والاستقرار، والرخاء، والسلم
الأهلي، والتعايش الإيجابي بين طوائف وملل شعوبها، ولا توجد فيها انقلابات عسكرية،
ولا تعاني من الحروب والنزاعات الداخلية، والسلطة تتداولها الأحزاب السياسية
بطريقة سلسلة، بدون مشاكل تقريبا، وفيها صحافة حرة، وجهاز قضائي قوي ومستقل، وطبعا
تتمتع ببيئات نظيفة، وبقوة اقتصادية وعسكرية، وبتقدم علمي تكنولوجي، ومدنها عادة
ما تحتل المراتب الأولى في قائمة أفضل الأماكن للسكن وفق معايير معينة. وطبعا،
وبدون شك، تعاني هذه الدول من مشاكل كثيرة مثل البطالة، والمهاجرين، والتطرف،
والمخدرات، والجريمة المنظمة وغير ذلك، وتتفاوت في ذلك بين دولة وأخرى.
والمدهش، أن أبناء وأحفاد (وأحيانا هم
أنفسهم) من تلطخت أياديهم بالدماء، وتورطوا في أبشع جرائم الحرب، ومن كانوا
يمارسون العنصرية، واستعباد الشعوب الأخرى في السنوات الغابرة، هم الآن أناس
مختلفون كلياً .. بالمفاهيم والأخلاق والسلوك والنظرة للغير، كما لو أن الحقبة
الماضية بالنسبة لهم مجرد ذكريات بائسة عن محقبة مظلمة، أخطأ فيها الجميع، ويريدون
أن ينسوها، ويجعلونها من خلفهم. وهذا التغير لم يتشكل فجأة، بل احتاج سنوات طويلة
من العذاب والمعاناة، تغيرت خلالها الظروف الموضوعية المحيطة (نتيجة الحروب)،
وتغيرت معها الأنظمة والقوانين، ثم تغيرت المفاهيم والثقافات، وبالتالي تغيرت
الأنماط السلوكية، والتكوينات النفسية. ولضمان ثبات هذه التحولات في الاتجاه
الإيجابي، تضمنت الأنظمة آليات الرقابة والمساءلة والشفافية.
بينما بقية دول العالم، خاصة إفريقيا،
آسيا، أمريكا اللاتينية، والبلدان العربية والإسلامية .. ما زالت تعاني من الفقر
والتخلف والتلوث والفساد والقمع السلطوي، ومن الأنظمة الدكتاتورية، وبعض تلك الدول
وصلت مستويات الحضيض؛ فلا نسمع عنها إلا أخبار الحروب والدمار، والتفجيرات،
والصراعات المذهبية، والفتن الطائفية، والانقلابات الدموية، ونزعات الانفصال ..
وحتى تتقدم شعوب العالم الثالث، لا
يشترط أن تحذو نفس الخطوات والمسارات التي سلكتها أوروبا، لأن لكل قضية خصوصيتها،
ولكل حالة تفاصيلها المختلفة .. الشعوب العربية على سبيل المثال بدأت بخطوات مبشرة
في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، مثلتها حركات الإصلاح والجامعة
الإسلامية بأفكارها التقدمية .. لكنها نكصت على عقبيها، وارتدت قرونا للوراء،
وانتهت بداعش والقاعدة ..
على أية حال، وبالرغم من الشواهد
الكثيرة التي تبين حجم الهوة الهائلة بين دول الشمال والجنوب، أو بين الدول
الصناعية والدول النامية، إلا أنها لا تعني أبدا أن الإنسان في تلك الدول المتقدمة
قد وجد الحل لمشاكله، وتخلص من معاناته وعذاباته .. وأن الإنسان في بقية العالم ما
زال ينوء بأحمال التخلف والجهل والمعاناة بكافة اشكالها .. ذلك ببساطة، لأن معاناة
الإنسان (بوصفه إنسان) لا تنتهي، وهي تتجلى بأشكال وصور متباينة، تبعا لطبيعة
المجتمع ..
ولكن، ببساطة شديدة، يمكن القول أن شروط
الحياة الكريمة، التي تكفل للإنسان حريته وكرامته وأمنه ومستقبله، في ظل أنظمة
فيها قدر معين من العدالة الاجتماعية والنزاهة والرخاء واحترام قيمة الإنسان موجودة
فقط في دول معينة، وغير موجودة بالمرة في دول أخرى كثيرة .. ومؤشرات الهجرة تعطينا
فكرة دقيقة عن تلك الدول ..
والخلاصة الأخيرة، هي أن البشرية قطعت
أشواطا مهمة في مسيرتها نحو التحضر والإنسانية، من خلال الشواهد التي ذكرناها،
ولكنها لم تبرأ تماما من أمراضها وجنونها .. وهي بحاجة للكثير من الوقت والنضال حتى
تصل إلى المستوى المأمول، ذلك لأنها في مسيرتها تلك تتجاذبها قوى كثيرة، منها ما
يدفعها نحو المستقبل، ومنها ما يشدها للماضي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق