بمعزل عن التحليل
السياسي لحيثيات العدوان الغاشم على غزة، ونحن على مشارف نهايته، نجد أنفسنا دفعة
واحدة أمام واقع على درجة عالية من الخطورة والتعقيد؛ أمام كارثة إنسانية
واجتماعية بكل معنى الكلمة .. فقد خلّفت هذه الحرب الظالمة على أهلنا في القطاع ما
يزيد عن الستمائة شهيد، وآلاف الجرحى، الذين منهم من فقد أطرافه، أو أصيب بجراح خطيرة،
أو إعاقة دائمة، أو حروق وتشوهات، إلى جانب آلاف البيوت التي تهدمت كليا أو جزئيا
ولم تعد صالحة للسكن، فضلا عن الدمار الرهيب في البنية التحتية، وتخريب في
الممتلكات العامة، وتعطل الخدمات الأساسية.
وما يزيد من تعقيد
المشهد أن الخراب الذي أصاب القطاع في الحربين السابقتين (2008، 2012) لم يتم
إصلاحه بالشكل المطلوب خلال السنوات اللاحقة، وهناك عائلات فقدت مسكنها آنذاك، ولم
تتمكن من الحصول على مسكن لائق، كل هذا في ظل ظروف الحصار الخانق وإغلاق المعابر ومنع
دخول مواد البناء والكثير من المستلزمات الضرورية، فضلا عن الأزمات الخانقة في
الوقود والكهرباء والمياه، وحتى المياه هي أصلا مشكلة كبيرة بحد ذاتها قبل الحروب
وقبل الحصار، سواء من حيث توفرها بالقدر المطلوب، أم من حيث تلوثها وزيادة ملوحتها،
إلى درجة جعلت منظمة الصحة العالمية تنذر بأن قطاع غزة على حافة العطش.
والأهم من هذا كله،
الحالة النفسية الرهيبة التي عاشها أهلنا هناك، من جراء هول الحرب وفظائعها، وهذا
لا ينطبق على الأطفال وحدهم، فقد عاش كل السكان حالة مريعة من الخوف والرعب، وقضوا
ليالي طوال في العتمة، على وقع دوي القذائف وهدير الطائرات وأزيز الرصاص، وسماع صدى
القصف، وأنباء خسارة ذويهم وأقربائهم وحتى أبنائهم، وكما نعلم جميعا؛ فإن عائلات
بأكملها استشهدت وقضت نحبها تحت الركام والأنقاض، في هذا العدوان المجرم الذي
ينطبق عليه وصف حرب الإبادة .. لكن الأطفال نالهم القسط الأكبر من الخوف والصدمات
النفسية. وعلينا أن نتخيل أن وراء كل شهيد إضافة إلى الحزن والألم على فقده، سيكون
أيضا مأساة اجتماعية ستمتد طويلا، خاصة إذا كان معيلا لأهله وأطفاله.
يمكن لأي واحد منا
أن يعدد جوانب أخرى كثيرة من الخسائر المنظورة وغير المنظورة، وأن يتحدث إلى ما
نهاية عن أهوال الحرب ومعاناة الناس ومصائبهم، ومئات القصص الإنسانية التي تدمي
القلب، فلم يعد أحد في العالم إلا وصُدم بالصور البشعة ومشاهد الأشلاء والخراب
والبيوت المدمرة .. لكن هذا لا يكفي، المطلوب من كل واحد فينا أن يبدأ بالتفكير
جديا بما يمكن له عمله، وماذا بوسعه أن يقدّم، دون انتظار أي دور للسلطة، أو للدول
العربية، أو للمجتمع الدولي ..
صحيح أن السلطة
الوطنية تقع عليها مسؤوليات كبيرة في غوث أهلنا في غزة، وإعادة الإعمار، لكن
الأزمات الكبيرة التي نجمت عن الحرب تفوق بكثير إمكانيات السلطة، كما أن المجتمع الدولي
يتحمل مسؤولية صمته، فإذا عجز عن لجم العدوان، فعليه على الأقل المساهمة في إنقاذ
غزة، وإعادة إعمارها، وهذا ليس إحسانا منه، بل واجب أخلاقي عليه.
ولكن ومهما كان دور
الحكومات والدول وحجم مشاركتها في الإنقاذ وإعادة الإعمار؛ فإن الأهم هو دور
الأفراد والمؤسسات .. وعلينا أن نتذكر أن أكثر من مائة ألف نازح هربوا من بيوتهم
ولجؤوا إلى مدارس وكالة الغوث، فضلا عن الآلاف الذين لجؤوا إلى منازل أقربائهم
وأصدقائهم في مناطق أخرى .. هؤلاء جميعا خرجوا من بيوتهم بملابسهم فقط، وبيوتهم
تهدمت وأحرقت، وهم الآن لا يمكلون شيئا من حطام الدنيا، يعني أنهم بحاجة ماسة
وملحة لكل ما هو ضروري وأساسي للبقاء على قيد الحياة، بحاجة لملابس وأغطية ومسكن
مؤقت، بحاجة للغذاء والمياه والأدوية وأشياء أخرى لا تقل أهمية يعرفها كل واحد
منا. وحتى من بقوا في بيوتهم هم أيضا بحاجة للمساعدة والتضامن.
ولا شك أن كرامة أهلنا
في غزة هي قبل أي شيء، وأهم من أي شيء، ولذلك لا يخطر ببال أحد أن ما يقدمه هو من
قبيل الإحسان والصدقة .. إنه واجب وديْن في رقبة كل واحد منا .. إنه رد جزء بسيط
جدا لا يذكر ولا يقارن مع ما قدمه أهلنا في غزة .. هم قدموا دمهم وأرواحهم وفلذة
أكبادهم .. هم دافعوا عن كرامتنا وعن مستقبلنا .. ومهما قدمنا سنظل مدينون لهم. ولكن
وبالرغم من كل ذلك، هنالك أطفال وأمهات وشيوخ، ومرضى، وذوي احتياجات خاصة، وهناك
حاجات لا يمكن للإنسان أن يستغني عنها .. هم بحاجتها الآن، وفورا ..
وإليكم مجموعة من
المقترحات والأفكار، ويستطيع أي شخص آخر أن يضيف عليها ما يشاء: التبرع بالمال
مباشرة للحسابات البنكية المعروفة، سواء لوكالة الغوث، أم لصندوق أغيثوا غزة.
وحسناً فعلت نقابة الموظين إذ قررت وبالتنسيق مع الحكومة التبرع بجزء من رواتب
الموظفين، ويمكن للنقابات الأخرى أن تفعل الشيء ذاته. كما يمكن التبرع بملابس
وأحذية وأغطية، وألعاب أطفال، أدوات مطبخ، وغير ذلك، شريطة أن تكون بحالة جيدة،
بحيث تُجمع وترسل مباشرة إلى غزة.
وبدلا من إعلان
الإضراب التجاري في المدن، يقوم كل تاجر أو صاحب محل، أو شركة أو مؤسسة بالتبرع
بأرباح يوم عمل، بحيث تتولى الغرف التجارية تنظيم المسألة. وكذلك المصانع والمعامل،
وحتى لا يكون الموضوع فردي وخاضع للمزاج، يتولى اتحاد الصناعات الأمور الفنية. ويمكن
للبلديات والمجالس القروية تنظيم حملات تبرع مادي وعيني، ففي أي حفل زفاف مثلا
يجمع العروسين مبالغ طائلة مما يعرف بالنقوط، (وخاصة في الأحياء والقرى الثرية)،
فلنفترض أن هناك عرسا ما، وعلى الجميع دفع واجب النقوط.
وبالإضافة للتبرعات
المالية والعينية، يتوجب النظر بنفس الاهتمام للجوانب الاجتماعية والنفسية، وفي
هذا المجال على المؤسسات التربوية والنوادي الرياضية والثقافية والجامعات والأطباء
النفسيون وبالتعاون مع وزارة الشؤون الاجتماعية، تنظيم برنامج وطني متكامل لإعادة
تأهيل الحالة النفسية لأهلنا هناك، خاصة الأطفال.
يمكن لكل وزارة أو
مؤسسة تنظيم حملات تبرع بالدم، بالتنسيق مع بنك الدم والهلال الأحمر. الاتصال
هاتفيا بمن نعرفهم أو لا نعرفهم من غزة، وشد أزرهم ومواساتهم بالكلمة الطيبة. ولا
ننسى أن هناك غزاويون قدموا إلى الضفة لأسباب مختلفة، وتقطعت بهم السبل، وليس
بمقدورهم العودة الآن، هؤلاء أيضا بحاجة للدعم والتضامن.
نعلم جميعا أن لا
شيء بوسعه أن يعوض خسارة من فقدناهم: الأحبة والأبناء والشبان والأصدقاء والجيران..
البيوت، والمقتنيات الخاصة، والذكريات، والأوقات العصيبة، والأمن، والكرامة .. وصور
الحرب البشعة والمروعة .. ونحن جميعا كشعب فلسطيني في الداخل والشتات متألمون
لذلك، ونشعر بآلام أهلنا وأحزانهم في غزة .. ومعنا الشعوب العربية، وشعوب العالم
.. والمطلوب ترجمة هذه المشاعر الدافئة والصادقة إلى شيء عملي وملموس ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق