"رشيد الحجة"، ابن صفد، وخريج دمشق، ابن منظمة التحرير الفلسطينية كما يحب أن يعرف عن نفسه، في شبابه لفظته الصراعات وتقاذفته الحروب من منفى إلى آخر، حتى استقر به المقام في "أوبسالا" في نهاية السبعينات، فاشتغل بعد تعلمه السويدية مترجما ومدرسا لمادة الاندماج الاجتماعي، ومراسلا للإذاعة الحكومية والتلفزيون السويدي، كما كان مراسلا لِ"فلسطين الثورة"، حينما كانت تصدر من قبرص، وكاتبا لِ"شؤون فلسطينية"، التي تصدر حاليا من رام الله.
في مقالاته يصنّف "رشيد" المهاجرين إلى السويد
لثلاثة أنواع رئيسة؛ الأول من ينسلخ عن هويته الأم ويندمج كليا في المجتمع الجديد،
ومنهم من يصبع شعره بالأشقر ويضع عدسات لاصقة زرقاء، وقد يغير اسمه، وعلى النقيض
منهم من يتقوقع على نفسه ويرفض أي نوع من الاندماج، بل قد يطالب المجتمع السويدي
بتغيير نمط حياته بما يتوافق مع ثقافته ,, وهذين النوعين هما الأقلية بينما أكثرية
المهاجرين يتخذون لأنفسهم شخصية ثالثة، تجمع ما بين عروبتها وسويديتها، ويتفاعلون
بإيجابية مع المجتمع السويدي.
لا شك عندي أن "رشيد" من النوع الأخير؛
التقيته في "أوبسالا" خريف العام المنصرم، أخذني في جولة في أنحاء المدينة،
وكنت كلما دخلنا سوقا أو مجمعا تجاريا أو حديقة عامة أرى مواطنين سويديين يبتسمون
له ويحيونه باحترام. كتبَ في الصحف السويدية وكتبت عنه، هو المثال النموذجي
للمواطن الصالح التي تريده الدولة لكل من يهاجر إليها، وهو اللاجيء الفلسطيني الذي
لم ينسى قضيته يوما واحدا.
أعد "رشيد" موسوعة من ثلاث أجزاء تناول
فيها علاقات السويد بالقضية الفلسطينية من أوجهها المختلفة (منشورات شرق برس،
2014). في الجزء الأول تحدث عن السويد بداية، ثم عن الجالية الفلسطينية فيها، وعن
طبيعة حياتهم وأنماطها الجديدة، وكيفية اندماجهم في المجتمع السويدي، ومدى تأثرهم
وتأثيرهم فيه، وحفاظهم على الهوية الفلسطينية ونقلها إلى الجيل الجديد والناشئ في
المغترب. وتحدث أيضا عن معاناة الموجات الأولى من الفلسطينيين المهاجرين للسويد،
بسبب موقف بعض الأحزاب السياسية المناهضة للحقوق الفلسطينية، والموقف غير المبالي
للرأي العام السويدي آنذاك. ثم تطرق إلى التغييرات التي طرأت على الرأي العام
السويدي، بدءً من جهله بها، وتعاطفه مع الرواية الصهيونية، مرورا بالتغيير الكبير
في تفهّمه معاناة الشعب الفلسطيني وعدالة قضيته، وصولاً إلى تشكيل حركات التضامن
السويدية المؤيدة لحقوق الشعب الفلسطيني، مع الإشارة للجهود الدؤوبة التي بذلتها الجالية
الفلسطينية، ومكتب منظمة التحرير، باتجاه توضيح رؤية السويديين للقضية وتصحيحها
بعيدا عن هيمنة وفبركات الدعاية الصهيونية، خاصة وأن شعار "دولة فلسطينية
ديمقراطية واحدة يتعايش فيها الجميع بسلام بغض النظر عن الدين والعرق والجنس"،
كان شعارا مقبولا لدى الجماهير السويدية وأحزابها السياسية، الأمر الذي أثر بشكل
إيجابي، وأدى إلى تشكيل حركات التضامن السويدية مع الشعب الفلسطيني، وتغيير مواقف
الأحزاب السياسية خاصة اليسارية، وما ساعد في ذلك الفظائع التي ارتكبتها إسرائيل
ضد الفلسطينيين. كما سلط الكاتب الضوء على دور السويد في تمويل وكالة الغوث
(الأونروا) مشيراً إلى أن السويد ثاني أكبر داعم لتلك المنظمة الدولية بعد
الولايات المتحدة.
في الجزء الثاني تناول "الحجة" القضية
الفلسطينية في الذهنية السويدية (في الكتاب، والإعلام، والمناهج الدراسية)، مع
إفراد تفاصيل أكثر لتأثر الأدب السويدي بالقضية سواء في السينما أم في المسرح أم
في القصة والرواية والشعر، وعن رؤية فلسطين وطريق السلام المتعثر والأحداث الجارية
في المنطقة بعيون سويدية.
أما الجزء الثالث فقد خُصِّص للحديث عن شخصيات
سويدية مشهورة، كان لها أثر بالغ ومهم في مجريات أحداث القضية الفلسطينية، ومنهم
من دفع حياته ثمنا لمواقفه، لعل أشهرهم الكونت "برنادوت" ابن أخ ملك
السويد، الذي اغتالته العصابات الصهيونية في القدس عام 1948، بسبب مطالبته بإعادة
اللاجئين. والدبلوماسي "باول مون" الذي رسم خريطة التقسيم التي اعتمدها
القرار الشهير 181. والسير "همرشولد" سكرتير عام الأمم المتحدة، الذي
أجبر بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على الانسحاب من سيناء وغزة بعد العدوان الثلاثي
1956، والذي بسبب مواقفه الإنسانية في دعم الشعوب الفقيرة يُعتقد بأن أجهزة
مخابرات دولية أسقطت طائرته في الكونغو 1961. وأيضا رئيس الوزراء الأسبق
"أولف بالمه" الذي ساهم في إدخال منظمة التحرير إلى الأمم المتحدة، وإلى
منظمة الاشتراكية الدولية، وافتتح لها مكتب تمثيلي في استوكهولم، وساعد في تمتين
علاقات ياسر عرفات بالقيادات الأوروبية، ولهذا السبب يُعتقد بأن إسرائيل وراء
اغتياله عام 1986 وهو خارج من السينما بصحبة زوجته. وأيضا الكاتب والنائب
"أيفرت سفنسون" الذي كرس حياته لخدمة القضية الفلسطينية في البرلمان
السويدي. وغيرهم الكثيرين من الشخصيات الأكاديمية والسياسية والإعلامية والفنانين
والنشطاء الذي عملوا بجهد وإخلاص مؤمنين بعدالة القضية الفلسطينية.
الموسوعة، رغم صغر حجمها، إلا أن قيمتها كبيرة،
وهي وثيقة سياسية وعلمية بالغة الأهمية، ليس فقط لحجم ونوعية المعلومات الدقيقة
التي تضمنتها، ولغتها الأدبية الراقية، والجهد المبذول الواضح فيها، بل وأيضا
لكونها ربما الأولى من نوعها التي تبحث إلى هذا المستوى من العمق والتخصص
والشمولية في العلاقة الحية بين مملكة السويد والقضية الفلسطينية من جوانب عديدة، إضافة
إلى احتوائها العديد من الوثائق الدولية الهامة وقرارات الأمم المتحدة ذات العلاقة،
ووثيقة استوكهولم، وهي مهمة للأكاديميين وللباحثين في العلاقات الدولية، تشكل بحق
فتحاً جديدا في العلوم السياسية، وهي مهمة بنفس القدر للسياسيين وصناع القرار والمهتمين
بفهم أسس ومحددات العلاقات السويدية بقضايا العالم، وأبرزها قضية فلسطين، لتكون
هذه العلاقات دائما في تطور مستمر، وبالمستوى الذي نطمح إليه.
الكاتب، يحل ضيفا هذه الأيام على بيته المصادر،
وأرضه المسروقة في صفد، بدعوة من مؤسسة أسوار في عكا، وسيقام له حفل استقبال للتوقيع
على موسوعته الهامة ومناقشتها مع الأهل والأصدقاء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق