توقف القطار في محطة بروكسل الوسطى،
ساعتان قبل طلوع الشمس ليوم تشريني بارد، غيوم كثيفة تحجب السماء، رفعتُ ياقة
الجاكيت، لأغطي رقبتي اتقاء البرد، ومشيت مسرعاً أجـرُّ حقيبتي. وكما أفعل في كل
مدينة أزورها للمرة الأولى صعدت في التاكسي وأعطيت السائق العنوان، وبعد دقائق
وصلت الفندق في حي "ماري جاكمان"، وخلال ساعة كنت قد رتبت ملابسي في
الخزانة، وأخذت حماما ساخنا، وخرجت أتمشى. في الساحة المركزية جلست على طاولة على
الرصيف لمقهى كان يبدو من زبائنه القليلين أنه من النوع الغالي. المكان هادئ
تماما، لا يكسر صمته سوى أصوات سيارات قليلة وحوارات متقطعة لمجموعة شبان تجلس
قبالتي .. تناولتُ وجبة فطور خفيفة، وبينما كنت أشرب القهوة وأتأمل المارين وقد
أوضحتْ الشمسُ معالم المدينة، تفاجأت بأنها تشبه معظم المدن الأوروبية .. وسط
البلد، مقاهي على الشارع، كاتدرائيات عتيقة، أبنية تعود لأواسط القرن التاسع عشر،
أكثرها لا يتجاوز الثلاث طبقات، واجهاتها تجمع بين الخرسانة القديمة والألواح
الخشبية بألوانها المتعددة، نفس الوجوه، نفس النظام .. تذكرت مقولة لصديق جاب
الكثير من مدن العالم "يكفي أن تزور مدينة أوروبية واحدة لتقول أنك زرت أوروبا
كلها" .. لكني أؤمن بأن لكل مدينة روحها التي لا تشبه غيرها، فمثلا بروكسل بلا نهر ولا بحر، لكنها تبدو مدينة
ملكية بامتياز ..
دفعني البرد لأن أنتقل إلى صالة المقهى
الداخلية، اخترت طاولة فارغة مطلة على الشارع، وطلبتُ قهوة بالحليب، وجلست أنتظر
شيئا غامضا لا أعرف ما هو بالضبط، وإذ بسيدة أنيقة ترتدي معطفا بنيا تدخل المقهى
على مهل، وتجلس على بعد طاولتين مني، صدمتني المفاجأة في بداية الأمر، وأخذتني
الرهبة، حتى كاد الدم يتجمد في عروقي .. يا إلهي هاهي ليلى تُبعث من جديد، هل هذا
معقول !! إذا لم تكن هي، هل يمكن أن يكون التشابه إلى هذا الحد ؟! أتراها صورة
مجسمة لها ؟! نفس تدويرة الوجه، لون البشرة، العيون العسلية، الشعر الكستنائي
القصير، نفس القوام الممشوق، نفس الاهتمام الزائد بتناسق الألوان، نفس الأناقة
بتناول المشروب .. بالتأكيد إذا تقربت منها أكثر سأجد عناصر تشابه مشتركة أخرى ..
بقيتُ أحملق بها لدقائق طويلة، دون أن تنتبه لي .. كانت تتحدث بالهاتف النقال
باللغة الفلمنكية، وتبدو سيدة مجتمع من الطبقة المخملية، ترددتُ قليلا قبل أن
أكلمها، فقد خشيت أن تصدني، ففضّلت التأمل بها أطول فترة ممكنة، لأعيش حلما
يراودني منذ سنين، منذ أن غادرتنا ليلى بدون وداع .. وأخيرا وقفتُ أمامها بهدوء
مصطنع، ورجوتها أن تسمح لي بالجلوس، فوافقتْ على الفور.
اسمها لينا، يعني تتشابه مع ليلى بثلاثة
حروف من أصل أربعة، ومن نفس البرج (السرطان)، إذن، لا بد أن أقع في حبها، وحتما
ستحبني بكل جنون .. هي من يافا، أهلها هاجروا لبلجيكا قبل زمن بعيد، تتحدث عربية
ركيكة مطعمة بكلمات إنجليزية، ليلى أيضا كانت تكثر من استخدام الإنجليزية في
حديثها، لكن ليلى من الرملة، ولم تغادر فلسطين قط ..
بدأت أتحدث معها كما لو أني أعرفها منذ
كانت طفلة، وأحيانا أنسى نفسي وأتدخل في أدق التفاصيل، فتستغرب مني كيف عرفت هذه
المعلومات، لكنها لم تعترض، أخذتنا الأحاديث والضحكات وتبادلنا العناوين، كانت
سعادتي لا توصف، وقد فاض طوفان من الذكريات دفعة واحدة، أحسست كما لو أني أغرق في
الماضي الجميل، وأُولد من جديد، واتفقنا أن نلتقي كل يوم طوال فترة إقامتي القصيرة
في بروكسل.
في السابعة مساء كانت تدق باب غرفتي، رحبتُ
بها بحرارة، دخلت بثقة، علّقتْ معطفها على المشجب، وجلسَتْ باسترخاء، كان عطرها
باريسيا باذخا، أما ليلى فكان عطرها يعبق برائحة النظافة والرغبة الغامضة. قلتُ
ربما لن تفهم معلقة إمرؤ القيس، فأهديتها ديوان نزار قباني، لكنها لا تحب الشعر.
حاولتُ أن أحبّبها بالأغاني العربية، فأسمعتها أم كلثوم وفريد الأطرش، لكنها كانت
تفضل أغاني الراب. حدثتها عن عبد الرحمن منيف ونجيب محفوظ، فقالت هل تريدني أن
أضمهم لقائمة الأصدقاء على الفيسبوك؟ حدثتها عن مخيم جنين، فحدثتني عن حي سوهو في
لندن. دعوتها لمطعم لبناني يقدم الدوالي والمحاشي لكنها طلبت لازانيا. أمسكت يدها
برفق، فوجدتها باردة ..
مع كل تشابه شكلي كنتُ أجد فارقا في
الروح، فبعد أن تأملت رقبتها وجدت نفس الشامة، لكني وجدت شخصيتها واقعية وصاخبة
وتحب زحمة المدن الكبيرة، ليلى كانت حالمة ووادعة، وتحب أجواء الريف ..
هل أحببتها بالفعل، وبهذه السرعة ؟! أم
أنني توهمت ذلك، وأقنعتُ نفسي بهذا الوهم اللذيذ !! وماذا بشأنها !؟ هل رأتني شبيها
لفارس أحلامها الذي انتظرته طويلا ؟ أم نسخة عن حبيبها الذي مات بحادث سيارة قبل
سنتين ؟ هل يكفي التشابة لتأسيس حب حقيقي ؟؟ لماذا لا نمضي بالتجربة إلى آخرها،
دون أن نخضع كل شيء للمنطق ؟؟ سأحتاج ليومين لأصارحها بحبي، أما هي فقد تحتاج لسنة
على الأقل حتى تقبل بي .. وربما ساعتين .. من يدري ؟!
بعد ساعة كانت منفضتي قد امتلأت بالسجائر،
ومعظم الزبائن غادروا إلى أعمالهم، والطاولة التي كانت تجلس عليها السيدة ذات
المعطف البني فارغة تماما .. كأنها خيط دخان ذاب في الفضاء مرة واحد وإلى الأبد ..
جاء النادل بالحساب، وعندما رأى الدمع في عيني سألني بتلعثم: هل فقدت شيئا مهما يا
أستاذ ؟؟ أجبته بنفس التلعثم: لا شيء، مجرد حادث تشابه، أودى بقدرتي على الحلم .. ثم
قلت في نفسي: سأعتذر منك حبيبتي للمرة الألف .. فليس في هذه المدينة من يشبهك، ولا
في أي مدينة أخرى ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق