أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

سبتمبر 19، 2012

في ذكرى اتفاقية أوسلو


تحل علينا هذا الشهر الذكرى التاسعة عشر لاتفاقية أوسلو، وهي مناسَبة لإعادة قراءة الاتفاقية ونتائجها على ضوء الواقع الراهن، فإذا كانت هذه المهمة تأخذ شكل التكهن والتحليل في زمن توقيع الاتفاقية؛ فإنها اليوم وبعد مرور كل هذه السنين ستكون عبارة عن قراءة لأحداث وقعت بالفعل، وتحليل لواقع نعيش تفاصيله كل لحظة.

ومع تزايد الآراء المنادية بحل السلطة، خاصة بعد أن شكّك الرئيس عباس بنفسه بجدوى وجودها؛ تكتسب هذه القراءة أهميتها؛ سيّما في ظل تعقد المشهد السياسي، وانسداد آفاقه، وتعثر حل الدولتين، وتوقف المفاوضات، وتعطل المصالحة، وتفاقم الأزمة المالية للسلطة، لدرجة باتت تهدد بانهيارها، حتى أن القيادة الفلسطينية اجتمعت لأول مرة منذ تأسيسها وعلى أجندتها بند دراسة إلغاء اتفاقية أوسلو.

وبعد أن اعترفت قيادات السلطة بفشل أوسلو ووصولها إلى طريق مسدود؛ من العبث أن يدافع أي كاتب عنها، أو أن يعدد مناقبها؛ ولكن الأكثر عبثية أن نظل في دائرة صب اللعنات على الاتفاقية، وتعداد مساوئها.

سنترك محاكمة الاتفاقية وصانعيها وموقّعيها للتاريخ؛ فتلك مهمته وصنعته، خاصة وأن تداعيات الاتفاقية ما تزال ماثلة وحية. وسنتجه مباشرة لتقييم المرحلة التي أنتجتها أوسلو وتحليل مفرداتها، ولكن بعد الإجابة على الأسئلة الأهم: هل كانت أوسلو ممرا إجباريا ؟ أم مغامرة تاريخية ؟ أم مؤامرة ؟ أم ورطة ؟ وماذا جنينا منها ؟

وقبل كل شيء، لا بد من تحليل المعطيات التي أحاطت بالظرف التاريخي الذي نشأت فيه أوسلو، ولن تكتمل قراءتنا دون أن تتضمن فهم الاتفاقية من وجهة نظر طرفي الصراع (الفلسطيني والإسرائيلي)، وهنا لن نحاكم النوايا والرغبات والاحتمالات الممكنة؛ بل سنتعاطى مع نتائج ملموسة تنبض بالحياة.

وإذا ما عدنا بالزمن إلى بداية التسعينات من القرن الماضي، سنجد أن منظمة التحرير الفلسطينية كانت تواجه ظرفا دقيقا بالغ الصعوبة والتعقيد؛ فما أن خسرت المنظمة حليفها الأقوى بعد هزيمة العراق العسكرية، وانقسام العالم العربي إلى معسكرين، حتى تلقت الخسارة الثانية بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، وتشكّل معالم نظام عالمي جديد، تقوده منفردةً الولايات المتحدة. فوجدت م.ت.ف نفسها وقد انكشفت، بدون عمق عربي أو غطاء إقليمي، ضمن معادلة دولية مختلة.

في هذا الإطار التاريخي وضمن هذا المناخ يمكن فهم اتفاقية أوسلو على أنها التكتيك المرن الذي أتاح لمنظمة التحرير العودة إلى الحلبة السياسية، بعد أن جهدت قوى محلية وأطراف إقليمية ودولية عديدة على إخراجها نهائيا من الساحة، وكادت أن تحقق مرادها، وأن تنجح في إقصائها وإنهاء وجودها السياسي من خلال محاصرتها، وتجفيف مواردها المالية، وفرض عُزلة سياسية عليها، مستغلةً الظروف الاستثنائية التي عاشتها المنطقة، والتي نتجت عن حرب الخليج؛ فكان مؤتمر مدريد ( تشرين2/ 1992) بمثابة الممر الإجباري الذي دخلته م.ت.ف لتثبيت وجودها وتأكيد شرعية تمثيلها للشعب، وإلا فإنها كانت ستواجه حينها نفس المصير الذي لاقته منظمة مجاهدي خَلْق الإيرانية، أو حزب العمال الكردستاني، أو جبهة البوليساريو الصحراوية، والكثير من حركات التحرر الأخرى التي صارت مطارَدة وتعيش على هامش التاريخ، بعد أن فشلت في فهم المتغيرات الدولية، وأخفقت في التكيف معها، أو أن الظروف كانت أقوى منها، بحيث تمكنت الجهات المعادية لها من احتوائها، وفي النهاية تجاوزتها الأحداث.

ويضيف من كان مؤيدا للتسوية حينها سبباً آخر لدخول مدريد؛ وهو الحفاظ على حيوية القضية الفلسطينية التي تَهددها خطر الإهمال العالمي والعربي في زحمة الترتيبات الكونية الجديدة، وأيضا منْح الانتفاضة (الأولى) ثمنا سياسيا يكافئ جزءً من تضحياتها الجسيمة؛ لأن انتهاء الانتفاضة وموتها سريرياً دون أن تحقق شيئا، كان يعني انتكاسة سياسية، ستعود بالقضية إلى المربع الأول، خالية الوفاض.

كان الفلسطينيون قد بدأوا المفاوضات المباشرة مع إسرائيل في مؤتمر مدريد، ضمن وفد أردني فلسطيني مشترك، مكون من شخصيات وطنية من الداخل, برئاسة وزير الخارجية الأردني، شريطة أن لا يعلن الوفد عن ارتباطه بمنظمة التحرير، وقد خشيت قيادة المنظمة حينها أن تكون المظلة الأردنية مدخلا للوصاية من جديد، سيّما وأنها كانت تعاني من حالة ضعف. ومع بطء تقدم المفاوضات بسبب تعنّت الوفد الإسرائيلي، الذي تلقى تعليمات من "شامير" بأن تظَل المفاوضات تراوح مكانها عشرات السنين !! ومع ظهور بوادر انتخابات إسرائيلية مبكرة كانت مؤشراتها تدل على فوز حزب "العمل"، دخل الطرفان (منظمة التحرير وحزب العمل) في مفاوضات سرية انتهت بقلب الطاولة على جميع اللاعبين، وتم الاتفاق على إعلان مبادئ، سُـمّي اتفاق أوسلو.

لقد أرادت القيادة الفلسطينية من أوسلو توفير الأمر الذي طالما فقدته الثورة، وجعَلها دائمة الترحال، ألا وهو "الأرض"؛ القاعدة الارتكازية الجديدة، التي ستخفف من سطوة الجغرافيا السياسية على المنظمة، وستجعلها في قلب الحدث. وأرادت ايضا أن تنتزع من أمريكا وبقية الدول الأوروبية اعترافا رسميا بمنظمة التحرير.  

أمران مهمان آخران من نتائج أوسلو ثبّـتا واقعا جديداً، هما: تأكيد التحول الاستراتيجي في رؤية الحركة الصهيونية تجاه حدود إسرائيل وأطماعها التوسعية، وبداية انكماشها فعليا على ذاتها، والأمر الآخر توجيه ضربة للسياسة الأمريكية التي كانت تخطط لإخراج م.ت.ف نهائيا من الحلبة السياسية وخلق بدائل لها من داخل الأرض المحتلة، وعلى ما يبدو أن الفريق الإسرائيلي المشارك في مفاوضات أوسلو كان يعبر عن إدراك إسرائيلي لمعطيات المرحلة مختلف عما يدور في أروقة البيت الأبيض، لذا فقد اتسمت المفاوضات بالسرية التامة، حتى على الإدارة الأمريكية.

ومع توقيع الاتفاقية توفرت فرصة قوية للتخلص من الاحتلال، والاقتراب أكثر من  إقامة دولة فلسطينية مستقلة على سائر الأراضي المحتلة عام 1967، وفرصة إقامة سلام عادل يُبعِد شبح الحرب عن المنطقة؛ إذْ تعهد الطرفان (بضمانات دولية) على البدء بمفاوضات مباشرة على قضايا الحل النهائي، وهي: اللاجئون والقدس والمستوطنات والمياه والحدود، وهي القضايا التي تشكل جوهر الصراع.

حين وُقِّعت اتفاقية أوسلو، تم تحديد إطار زمني لها حده الأقصى خمس سنوات؛ أي أن الاتفاقية مفترض أن ينتهي مفعولها في العام 1999، وخلال هذه المدة كان من المفترض أن تنسحب إسرائيل من مناطق (أ) و (ب)، وأن تفرض السلطة سيطرتها على مناطق (ج)، لتبدأ مباشرة مفاوضات الحل النهائي.

من السهل علينا الآن أن نقول "أوسلو" فشل، وأنه كان خيارا كارثيا، وأن الاحتلال لم ينجلي عن أرضنا، واللاجئون ما زالوا منفيين، والقدس تهوّد معظمها، والمستوطنات قضمت أطراف الأرض .. ولكن قبل عقدين من الزمن المكثف والمليء بالأحداث كان هذا كله في رحم الغيب، وتصوره كان ضربا من التشاؤم.

ولكن، هل كانت رؤية تلك الفرصة التي وفرتها الاتفاقية مجرد تفاؤل ؟ أم كانت رهانا على الشعب، ومغامرة تاريخية لا بد من خوضها ؟؟ القيادة التاريخية لا تعتمد في حساباتها على التفاؤل والتشاؤم؛ القيادة تتقدم وتصنع الحدث. أما المنظّرون فيتبعون عادة إحدى طريقتين: أثناء الحدث يتبعون طريقة "قل كلمتك وأمشِ"، وبعد مرور الزمن يقيّمون الحدث على طريقة "ألم أنصحكم ؟!"، وأحيانا يتمنون الهزيمة أو الفشل حتى لا يخسروا رهانهم. صحيح أن ما حدث لاحقا كان معاكسا تماما لكل التوقعات وكل التمنيات .. لكن أحداث التاريخ ليست قدرا محتوما .. كان الفضاء السياسي للمنطقة يتسع لكل الاحتمالات، وكان كل شيء مرهونا بالأداء من ناحية، وبتطور أحداث قريبة وبعيدة ستؤثر بشكل أو بآخر على المنطقة من ناحية ثانية.

خيار أوسلو في ذهن القيادة الإسرائيلية كان يمثل مخرجا من المأزق الذي تورطت فيه إسرائيل بعد احتلالها للضفة الغربية وقطاع غزة، يمكّنها من مواجهة "القنبلة الديمغرافية"، دون أن تضطر للتعامل مع السكان، ولا أن تنسحب من الأراضي المحتلة؛ فبعد سنوات من الصراع الدامي، وفي ظل متغيرات دولية عميقة طالت المنطقة، وبعد أن عجز الطرفان عن تحقيق غاياتهما في إلغاء أحدهما الآخر، التقت مصالح الطرفين عند نقطة معينة، كان يمكن لها أن تريح المنطقة من عبء الصراع لسنوات طويلة. إلا أنه في عالم السياسة؛ لا يوجد من يهب دون مقابل، أو إذا لم يكن مجبرا على ذلك؛ فبالرغم من أن القيادة الإسرائيلية أعلنت عن نيتها إنهاء الصراع، وإقامة سلام عادل، وتطبيق قرارات الشرعية الدولية، والانسحاب من الأرض المحتلة، والاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة، إلا أن معطيات الواقع تشير أن لا شيء يمكن أن يجبرها على ذلك؛ خاصة في ظل حالة الصمت العربي والتواطؤ الدولي والضعف الفلسطيني؛ فبدأت إسرائيل تتراجع عن تعهداتها، وانقلبت على أوسلو، وأرادت منه أن يمنحها الوقت لتثبيت رؤيتها للحل على أرض الواقع، وبما يحقق مصالحها.

وفي المقابل كان خيار أوسلو في ذهن القيادة الفلسطينية شيئا آخر؛ كان يعني إنشاء سلطة وطنية تمتلك كافة مؤسسات الدولة من هيئات تشريعية وقضائية وتنفيذية وأجهزة أمن ومنظمات مدنية وأهلية وسفارات خارجية، على أن تتولى هذه السلطة مهمة تقديم الخدمات الحيوية للشعب، وتعزيز صموده، وتخليصه من براثن الاحتلال، وتجهيز البنية التحتية للدولة بكل ما تتطلبه من مقومات اقتصادية واجتماعية، لتكون نواة للدولة المستقلة.

لكن هذه الخيارات على أهميتها، كانت تنطوي على مغامرة غير مضمونة النتائج، وكانت تعني تغييرا في استراتيجية الثورة الفلسطينية، وتخليها عن الكفاح المسلح، وتغيير تكتيكاتها المرحلية، بحيث تصبح الأولوية لقضايا التنمية والبناء بكل تفاصيلها وتفرعاتها المعقدة، على حساب قضايا التحرير والمقاومة، وكانت تعني أيضا تحول الفصائل الفدائية إلى أجهزة أمنية، وأن الثورة ستحصر نفسها في عرين الأسد، وستضع كل بيضها في سلة واحدة، وستكون مرهونة للدول المانحة، وستكون مجبرة على التنسيق الأمني، ولن تتمكن من الانفكاك عن الاقتصاد الإسرائيلي.

الخياران السابقان كان يمكن لأي منهما أن ينجح. الآن، يمكننا تذكّر الكثير من الأحداث (المفتعلة) ورصْد الجهود المضنية التي بذلتها قوى فلسطينية وإسرائيلية كانت رافضة لأوسلو، وقد سعت حينها بكل ما تملك من قوة لإفشال التسوية، واقتنصت كل فرصة للتخريب عليها، ويمكننا القول أن تلك الجهود تكللت بالنجاح، وأن هذه القوى هي التي فازت في نهاية المطاف. (وهذا لا يعني إنكار الإنجازات المهمة التي حققتها السلطة).

لكن فشل اتفاقية أوسلو لم يكن بسبب هذه القوى فقط، بل وأيضا بسبب تردد الإدارة الأمريكية وخضوعها وانحيازها الأعمى لإسرائيل، وأيضا بفضل قرار أمريكي إسرائيلي تم التحضير له بعد فشل كامب ديفيد (تموز 2000) على يد الفريق اليهودي المفاوض في كامب ديفيد بقيادة "دينس روس" يتلخص بتحول المواجهة من ساحة السياسة إلى ساحة الحرب، وقد بدأ تطبيق هذا القرار فعليا بزيارة شارون للمسجد الأقصى، تمهيدا لشن حرب شاملة على السلطة بهدف تدمير مؤسساتها، كما حصل في 2002، وصولا إلى اغتيال عرفات .

ويضيف المعارضون أسبابا أخرى لفشل أوسلو، وهي: ضعف السلطة الوطنية، ومظاهر الفساد التي اعترت أداءها المتواضع، وتراجع دور الفصائل الوطنية، وإهمال منظمة التحرير، والفوضى والفلتان الأمني، وأخيرا – وربما الأهم - الانقسام ..

البعض بعد أن رأوا انقلاب المزاج الشعبي على أوسلو، ضاعفوا من وتيرة هجومهم عليه، وألصقوا به كل التهم، وحمّلوه أوزار المرحلة برمتها، خاصة مع تفشي حالة النفاق الإعلامي المتساوق مع النـزعات الشعبوية، والمشكلة أن هؤلاء ما زالوا يتمتعون بمزايا أوسلو ! ومع ذلك، يمكننا القول أن خيار أوسلو قد فشل .. وهذا أمر سهل .. ولكن الأهم من نعْي الاتفاق، معرفة ماذا يعني ذلك ؟ فإذا كان اتفاق أوسلو كارثة على الشعب الفلسطيني، كما يقول معارضوه، وأنه مؤامرة خطيرة الهدف منها تصفية القضية؛ فلماذا سعت كل القوى اليمينية (الإسرائيلية والأمريكية) لإسقاط الاتفاق ؟ فطالما أنه يخدم أهدافهم، فلماذا أفشلوه بالفعل ؟!

الحقيقة أن أوسلو مات فعليا منذ العام 2000، وكل الأحداث والتداعيات التي تلت ذلك التاريخ لا علاقة لها باتفاق أوسلو، ويتوجب علينا النظر إليها كالعلاقة بين الأب وابنه؛ إذْ لا يجوز محاكمة الأب على جريمة اقترفها الابن، فإذا كان من المفترض أن يفضي مسار أوسلو إلى دولة فلسطينية، فإن مسار الأحداث التي جرت بالفعل كان يمضي ضمن مخطط هدفه خلق وقائع سياسية تؤدي لانفصال غزة عن الضفة، وقد عبرت عن هذا المخطط خطة شارون عام 2005، التي بموجبها تم الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة، وإتاحة المجال أمام حماس للسيطرة على القطاع، كمقدمة لانفصاله التام عن الضفة، وتنفيذ خطة شارون "ب" وهي الانسحاب من الضفة الغربية إلى ما وراء الجدار، وتثبيت دولة ذات حدود مؤقتة .

أصحاب نظرية المؤامرة سيجدون في ترتيب الأحداث بهذا الشكل مادة ممتازة لإثبات تورط القيادة في مخطط مشبوه، لكن هذا غير صحيح؛ لأنه يتناقض مع مصالحها ومع نهجها من ناحية، ومن ناحية ثانية فإن صناع القرار الإسرائيليين كانوا مختلفين في تلك المراحل، فمن وقّع على أوسلو تم اغتياله (رابين)، ومن خلفه تم إقصائه (بيريز)، والذين نفذوا المخطط البديل الذي جاء على أنقاض أوسلو هم الذين طالما جاهروا بعدائهم له (شارون، أولمرت، نتنياهو).

في تسجيل على اليوتيوب يظهر فيه "ياسر عرفات" وهو يشبّه أوسلو بصلح الحديبية، ويقول فيه: "إذا كان لأحدكم اعتراض واحد على أوسلو؛ فإن لي مائة اعتراض". فإذا كانت اتفاقية أوسلو هي نهاية المطاف، وختام المسيرة، أي أنها الاتفاقية الموكل لها مهمة إنهاء الصراع، وتصفية المقاومة، والتوقيع على الحل النهائي بالمنظور الإسرائيلي؛ فإن لمعارضي الاتفاقية كل الحق فيما يقولونه عنها. أما إذا كانت أوسلو مجرد محطة ومرحلة اقتضتها الظروف، ولها ما بعدها، فإن أصحاب هذه النظرية مدعوون بقوة لإعادة النظر فيها، وأن يبدؤوا على الفور بصياغة إستراتيجية جديدة، تجيب على أسئلتنا الوطنية: ماذا نحن فاعلون ؟ وما هي خياراتنا لإنقاذ مشروعنا الوطني؟

يقول أنصار أوسلو أن ما نتج عنها مختلفٌ كليا عمّا تخوّف منه الرافضون؛ فلا الصراع انتهى، ولا المقاومة صُفّيت، ولا الشعب ألقى بسلاحه واستكان، ولا القيادة وقّعت على أي حل من شأنه المسّ بالثوابت الوطنية، وما كان في ذهن القيادة حينها توضّح للعالم فيما بعد، وتحديدا في بعد أن انفض كامب ديفيد مكللاً بالفشل.

أما المعارضون للاتفاقية فيقولون أنها شكلت قيدا على الشعب الفلسطيني، وعطلت من فرص نمو اقتصاد وطني، وقزّمت القضية الفلسطينية إلى مستوى تأمين الرواتب، وجعلت همّ المواطنين الأول البحث عن لقمة العيش، وحاصرت المقاومة بحجة فرض الأمن الداخلي، والتنسيق الأمني.

لا يفيدنا كثيرا توجيه اللوم إلى من تسبب بإفشال الاتفاق، أو إلى من وقّع عليه من الأساس، وبدلا من الغرق في دوامة الحوار العبثي، لا بد أن نعي أننا في مرحلة جديدة ومختلفة، وأن نتنبّه لجملة من المخاطر المحيطة بالمشروع الوطني ككل، والتي تنذر بنسف كل ما تم إنجازه؛ تعبّر عنها مخططات باتت مكشوفة، يريد البعض منا أن نتعامى عنها:

هناك مخطط لفرض التقاسم الجغرافي الوظيفي في الضفة الغربية، وانسحاب إسرائيل إلى ما وراء الجدار، دون التنسيق مع السلطة، مع الاحتفاظ بالكتل الاستيطانية، وفرض دولة مقسمة غير متصلة جغرافيا، يُفتَح لها طرق متعرجة نحو الأردن، وتشجيع نشوء كيانية خاصة مستقلة في غزة؛ بعد إلقاء غزة في حضن مصر، وإعفاء إسرائيل من تبعاتها. وما يعطي دلالات على هذا المخطط تماهي حماس معه، وإصرارها على تعطيل المصالحة، وخلق ازدواجية التمثيل الفلسطيني من خلال فتح ممثليات لحكومة غزة تواجه منظمة التحرير في العالم.

وهناك تهديدات "ليبرمان"، والتي يتوجب علينا فهمها على أساس أنها تمثل رأس الحربة للمخطط الإسرائيلي الأمريكي للخلاص من رأس الشرعية الفلسطينية، أي الإطاحة بعباس كرئيس منتخب، حيث أن فراغ هذا المنصب لا يعني فقط جلب شخصية جاهزة للتوقيع؛ بل يعني إلغاء الشرعية عن هذا الموقع، ما يعني ضرب وحدانية التمثيل الفلسطيني، لأن حماس لن تعترف بمن سيأتي بعد عباس، وهذا سيؤدي إلى تكريس الانفصال.

وقبل هذه المخططات وبالتزامن معها هناك ما يتم فرضه كأمر واقع: تهويد القدس، والتوسع الاستيطاني، وبناء الجدار، وإفشال حل الدولتين، وإضعاف السلطة إلى الحد الذي لا يميتها، ولا يجعلها قادرة على ممارسة دورها.

مواجهة هذه المخططات، أو إلغاء أوسلو، أو التنصل منه، أو صياغة أي حل آخر يجب أن لا يكون ذلك تلقائيا ولا مرتجلا؛ يجب أن يكون بعد قراءة دقيقة لعوامل فشل تجربة أوسلو، ودراسة أكثر دقة لفرص وإمكانيات النجاح لأي بديل. وأي حل مهما بلغت براعة صياغته، لا يمكن أن ينجح دون إنهاء حالة الانفصال، وتحقيق المصالحة، والسماح بإجراء الانتخابات، وتفعيل منظمة التحرير، والاتفاق على برنامج سياسي واحد، يصعّد المقاومة الشعبية، ويعيد الاعتبار لدور الجماهير.

الحصول على اعتراف أممي بدولة فلسطينية غير عضو، قد يكون حلا جزئيا في هذه المرحلة؛ حيث أن إعلان دولة فلسطينية تحت الاحتلال سينتقل بنا من حالة السلطة الراهنة إلى واقع دولة تحت الاحتلال، وهذا يتطلب إعادة بناء المؤسسات والأجهزة الأمنية ووظائفها لتتوافق مع الواقع السياسي الجديد، الذي يعني أيضا إلغاء كل ما له صلة بالاتفاقيات الانتقالية التي نشأت عن أوسلو مثل بروتوكول باريس، ووقف التنسيق الأمني .. وبالتالي ستتحول المفاوضات من صيغتها السابقة إلى مفاوضات بين دولة ودولة، على أن تتجه مباشرة لتسوية قضايا الحل النهائي، بما فيها حق العودة، وإن لم يحدث ذلك، فعلى منظمة التحرير سحب الاعتراف بدولة اسرائيل كما ورد في الرسائل المتبادلة .

والأهم من أي شيء آخر، علينا الآن أن نعترف بأخطائنا، وأن نعرف في أي اتجاه نسير ؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق