أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

سبتمبر 27، 2022

قصة النار


في سالف الزمان، قبل أكثر من مائتي ألف سنة، كانت مجموعة من عائلات الهومو تتهيأ للمبيت، بعد أنهت عشاءها الدسم، إذ تقاسمت خنزيرا بريا ضخما، أتت على نصفه، وأبقت على النصف الآخر تحسبا للأيام القادمة، وما أن انفض السامر حتى توجه الجميع إلى أعشاشهم المنصوبة بعناية فوق الأشجار استعدادا للنوم، فيما تطوع أربعة شبان لحراسة ما تبقى من الطريدة من الضباع التي قد تشتم رائحتها على بعد أميال..

كان أوريو مسندا ظهره إلى غصن ضخم، اختاره بالذات لإطلالته المدهشة على الأفق البعيد.. كان المنظر بديعا، والقمر يتوارى خلف سحب شفيفة، والسكون يغلف المكان.. في أقل من ساعة احتلت غيوم كثيفة سماء الغابة، واستولت العتمة على ضوء القمر الشحيح، بدأ النعاس يغالب أوريو، ليصحو فجأة مرعوبا على صوت الرعد الذي هز جسده بقوة، حتى كاد يخلع  قلبه من بين ضلوعه، وقد ازداد خوفه حين رأى الصواعق والبروق تضرب بعنف رؤس الأشجار الشاهقة في الغابة المقابلة..

كان المطر غزيرا، ثم توقف بسرعة، وعاد الصمت من جديد، بيد أنه لم يدم طويلا، إذ بدأ أوريو يسمع صوتا مريبا آتٍ من أطراف الغابة المجاورة، صوتا لم يعهده من قبل.. فرك عينيه ظنا منه أنه غارق في حلم عجيب، رأى مشهدا مرعبا، لم يستوعبه، شيئا يراه لأول مرة، ليس له اسم، ولا مكان في الذاكرة.. تفحص المنظر جيدا، وأخذ يصيح بصوت مرتبك، حتى أيقظ النيام.

هبَّ الجميع فزعون، وأخذوا يتساءلون برعب ممزوج بالحيرة عن ماهية هذا الوحش الرهيب الذي يقترب منهم ببطء..

كانت جذوع الأشجار الضخمة، وأغصانها الباسقة الممتدة والمتشققة قد اصطبغت بالأحمر المتوهج، ومن أطرافها تتصاعد ألسنة اللهب المشوب بصفرة برتقالية، وأصوات تكسرها تصل إلى مسامعهم، وسحب الدخان الرمادي تغطيها بغمامة ثقيلة.. وقد اشتدت حرارة الجو، وصارت كل شجرة بمجرد نضوجها تسقط أرضا لتنقل نيرانها إلى أختها، وهكذا..

نزل الجميع عن أعشاشهم بخفة القرود، وهم في غاية الرعب والارتباك، وقد أجمعوا على أن ما يرونه عبارة عن وحش جديد، وحش رهيب سيلتهمهم لا محالة.. فكروا بالهروب، لكن النيران صارت تحيط بهم من كل مكان.. قرروا مهاجمة العدو في عقر داره، حملوا رماحهم وسهامهم وعصيهم وصاروا يلقونها عليه بلا توقف، ولما نفدت بدؤوا يقذفونه بالحجارة، وهم يصرخون بعصبية وخوف.. والنيران تكبر وتمتد وتتسع دوائرها، وتلتهم المزيد من الأشجار.. اقترب بعضهم منها أكثر، مدفوعا بالغضب وصرخات الانتقام، فأسكتت النيران صرخاتهم على الفور، وابتلعتهم بلا رحمة..

هرب البقية بأسرع ما لديهم، واصلوا ركضهم باتجاه السهل، حتى وجدو مغارة، فاختبئوا بها.. وهناك مكثوا ثلاثة أيام بلياليها، في صبيحة اليوم الرابع خرجوا واحدا تلو الآخر، وكانت الأمطار قد أطفأت الحريق، لكن ما رأوه كان مفجعا وحزينا وكئيبا، لدرجة أنهم راحوا حميعا في حفلة لطم وبكاء.. كانت النيران قد حولت الغابة الخضراء إلى كومة حطب، والأرض التي كان يكسوها العشب الندي علت فوقها طبقة من الرماد الأسود.. واصلوا مسيرهم الحزين، وهم يتضورون جوعا، فقد مكثوا كل تلك الفترة بلا طعام، وصار إحساسهم بالجوع يطغو على مشاعر الحزن..

وبينما هم سائرون على غير هدى، وقف ساحر القبيلة ماريو ممسكا بيده غصنا متفحما، فيما اصطف البقية من حوله على شكل قوس، منتظرين منه تفسيرا لما حدث.. قطّب حاجبيه موجها ناظريه نحو الغصن، وقال بانفعال ظاهر: ها قد أتى الرب بنفسه هذه المرة، أتاكم على هيئة ريح صفراء لاهبة، ليحرق أشجاركم وبيوتكم.. وليحرق كل من عصا أمره..

-      كيف عرفت أن هذا هو الرب الأعلى؟

-      لقد أخبرني بنفسه، وطلب مني أن أنقل إليكم وصاياه..

ساد الوجوم والتجهم والقلق دقائق ثقيلة، لكن شيئا غريبا سيقلب المشهد كلياً، وسيغير مزاجهم الكئيب إلى جو احتفالي بهيج.. هبت نسمات خفيفة تحمل رائحة شهية تفوح من كل مكان، رائحة لم يختبروا مثلها قط.. أخذت تجذبهم نحوها بقوة.. هالهم ما رأووه.. كانت عشرات الجثث المتفحمة لحيوانات نافقة متناثرة هنا وهناك: غزلان، وأرانب، وزرافات، وحمر وحشية، ومئات الطيور..

كل ما كان عليهم هو قشط الجلود المتفحمة، وتناول اللحم الطري الناضج من تحتها، لم يسبق لهم أن ذاقوا شيئا بلذته وسهولة مضغه.. ولم يسبق لهم رؤية هذا الكم الهائل من الطعام الوفير.. أكلوا بنهم، حتى شبعوا.. وشكروا ربهم الجديد على هذه الأعطيات السخية.. تحول خوفهم من النار إلى حب شهي..

لكن احتفالهم لم يدم سوى سويعات، فقد انشطروا إلى قسمين: الأول ويقوده الساحر ماريو، ظل مصرا على أن النيران هي الرب حين يغضب، وأن غضبه قد يظهر في أي لحظة، ومن الغباء أن يثقوا به.. والثاني وهم الأكثرية، لكن ما كان ينقصهم متحدث باسمهم، وهؤلاء رأوا أنَّ النار هي الرب حين يعطي بسخاء..

تجادل الفريقان، وتخاصما، وتقاتلا، حتى افترقا كلٌ في دربه..

مضت الأيام والسنون، ولم تندلع نار أخرى، وظل كل فريق ينتظر ربه الخاص..

وفي إحدى الليالي، كان أوريو كعادته يحرس الطريدة من السباع، وقد غابت الشمس، وبدأ الظلام يغطي الأفق.. إلى أن رأى نارا موقدة على بعد ميل.. لم يكذّب عينيه، أخذ معه ثلة من الشبان الأشداء، ومضوا نحوها.. اقتربوا منها حتى صاروا على بعد أمتار قليلة، كانت شجرة صنوبر وحيدة منتصبة وسط سهل فسيح، والنار تقضم أغصانها من الأعلى وتنزل ببطء وتصميم..

أحاط الشبان الشجرة من الجهات الأربعة، كانوا صامتين تماما، يتحركون بخفة وحذر، وبعضهم يزحف على بطنه، ويتحدثون فيما بينهم بالإشارات، خافوا أن تسمع النيران هسيس أقدامهم على العشب الجاف، فتنتبه لهم.. اقتربوا أكثر حتى كادوا يلامسوها، تشجعوا أكثر بعد أن أن أدركوا أن النار لم تنتبه لقدومهم، رموها بالرماح، فسقط منها غصنا طويلا كانت ألسنة اللهب ما زالت تندلع من طرفه، وتمتد جذوتها حتى وسطه، على الفور أمسك أوريو الغصن من الجهة الباردة.. وأخذ يصيح كالمجنون، معلنا انتصاره على الوحش.. وقد أحس حينها أنه يمسك بالرب من ياقته..

مضى بالغصن المحترق فرحاً، لكن الرب خذله سريعا، فقد انطفأ الغصن بعد أن سار به خطوات قليلة.. أعاد الكرة، وبنفس التكتيك، لكنه اختار غصنا أكبر.. فيما خطرت ببال رفاقه فكرة ذكية، فقد جمعوا عددا كبيرا من الأغصان، وصاروا يلقمونها للنار كلما أوشكت أن تخبو..

صار أوريو مَلك النار، يأمر قبيلته بجمع الحطب، وتلقيم النار، فيطيعوه وهو جالس أمامها يتحكم في حجمها وقوتها، ويمنح من يشاء بصة منها، مقابل طعامه وشرابه.. ويحرمها مَن لا يروق له.. وظلوا على هذا الحال شهرين قمريين.. حتى انطفأت النار على حين غرة، ولم يعد بإمكانهم إشعالها من جديد، ولم يمر سوى يومين حتى فقد أوريو مكانته وخسر حظوته.. وصار عليه التفكير مليا بكيفية إحضار نار جديدة..

في أحد أيام الصيف اللاهبة، كان أوريو يشحذ سكينه الحجري بحجر صوان، وفجأة انطلقت شرارة وأصابت العشب الجاف، ومع حرارة الشمس ورياح الخماسين كانت عناصر الإشتعال قد اكتملت، فهرع يجمع الأغصان المتكسرة ويرميها على النار، عرف حينها السر الكبير.. السر الذي سيقلب حياته رأسا على عقب، بل سيغير حياة البشر كلهم، وإلى الأبد..

لم يخبر أوريو أحدا بسره، ظل متكتما عليه سنين طويلة، حتى شارف على الهلاك.. فأورث السر لابنه.. أما ماريو فقد اكتشف السر أخيرا، وهو أيضا تكتم عليه.. حتى ورّثه لابنه.. ظل أبناء أوريو وماريو يتوارثون السر سنين طويلة، وحدهم من يشعل النيران ومن يطفئها، ووحدهم من يمنحها أو يحجبها،

بعد قرون من نهب البلاد والتحكم بالعباد خسر أحفاد أوريو وماريو قداستهم، فقد انكشف السر أخيرا، وشاع، وانفك غموضه، وفقد رونفه.. وصار الناس يُدخلون عليه تطويرات جديدة.. حتى بات لكل شخص "قداحته" الصغيرة والخاصة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق