أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

مايو 13، 2022

وداعا شيرين أبو عاقلة

 

اختنق الكلام، وبصعوبة بالغة استجمعتُ أطرافه، مستعينا بما خطه الزملاء عبر مئات المنشورات التي أبّنت الراحلة الكبيرة، شهيدة الفجر، شهيدة فلسطين: شيرين أبو عاقلة..

شيرين لم تكن مجرد صحافية شجاعة، هادئة، ورزينة، كما عرفناها عبر شاشة الجزيرة، تسير وراء الحدث وتنقل الصورة بدأب ومثابرة، وتلاحق جرائم الاحتلال في كل مكان.. كانت كل ذلك وأكثر، هي إعلامية من طراز خاص، واستحقت لقب أيقونة الصحافة الفلسطينية، وطالما ألهمت الفتيات اللواتي رأين فيها نموذج المرأة الفلسطينية المكافحة.. هذا الجيل الذي تفتح وعيه في الانتفاضة الثانية، وعرف فلسطين، واكتمل وعيه بالقضية من خلال تقاريرها الإخبارية التي كانت تنقلها من قلب الحدث، بقلب فدائية، وعقل صحافية محترفة.

ظلت منحازة للحقيقة، وللعدل، وللإنسانية، لكنها كانت قادرة على أن تحيّد مشاعرها الداخلية حتى في أشد اللحظات حلكة، وأكثرها تأثيرا.. تُقدم تقريرها بثبات وثقة، بدون شعبوية، وبلا انفعالات مفتعلة، وبنبرة صوتها الهادئ والواثق، وبطرحها الموضوعي، ونقلها الأمين للرواية الفلسطينية.. فأقنعت العالم، وأربكت العدو، وأحبها الناس..

كان صوتها يصدح بالحقيقة، وظلت منحازة لشعبها ومعاناته.. فكانت بعيداً عن الكاميرات تمارس إنسانيتها بكل تلقائية وصدق، فتزور البيوت المهدمة، وتعود عوائل الشهداء والأسرى، وفي علاقاتها الاجتماعية عكست شخصيتها كل ما تربت عليه من قيم إنسانية متسامحة تسمو فوق التصنيفات الفرعية. وقد عرفنا من زملائها وأصدقائها وكل من عمل معها مدى دماثتها ونُبل أخلاقها..

كل ما فيها يشبه فلسطين: صوتها الخفيض كصوت الموج وهو يعانق سور عكا، هدوئها يشبه سكون الليل في النقب، قامتها كجبل الجرمق، منتمية للأرض كما لو أنها زيتونة رومية، قلبها أخضر مثل سهل بيسان، روحها حرة مثل ريح الشمال، ومتمردة كجبل النار، بسيطة وطيبة وكأنها من روح السماء..

كانت في طريقها إلى جنين، لتغطية اقتحام جيش الاحتلال لمخيمها، لم تكن تعرف أنها في آخر مهمة صحافية، وأنها تعيش آخر ساعة لها، وأنها على موعد مع الشهادة، رغم أنها ظلت على مسافة قريبة من الموت، في كل مكان في فلسطين، فقد ظلت رصاصة قناص تطاردها على مدى خمسة وعشرين عاما، حتى نالت منها أخيراً.. قناصٌ جبان، مختبئ خلف دبابة، توهم أنه سيوقف الحقيقة.

في ظل جدار يشبه جدار محمد الدرة، وتحت شجرة وارفة، وفي هدوء قاتل أسلمت الروح لبارئها، أغمضت عينيها للمرة الأخيرة دون أن تعرف، لفرط تواضعها، أنها ستُبكي الملايين، وستتصدر عناوين صحف العالم ومحطاته الإعلامية، وستصبح حديث الناس، وشغلهم الشاغل، وأنها بدمها الزكي ستكشف صورة إسرائيل الزائفة، وتُظهر بشاعتها، لتغدو رمزا يفضح همجية الاحتلال، وانتهاكه السافر لحرية الصحافة..

في جنازة ممتدة، هي الأطول في تاريخ البلاد، بدأت من مكان استشهادها، وانتهت في مسقط رأسها، وما بين جنين والقدس، في مشهد جليل، كبير بحزنه وجماله وعظمته زفت جنازتها مرات ومرات، شعبيا ورسميا، ملفوفة بعلم فلسطين، ومتشحة بكوفيتها السمراء، وكلما مرت بقرية أو بلدة أو مخيم حتى يخرج في استقبالها ألوف المشيعين، يلقون على روحها الحرة التحيات المباركات، وينثرون على جثمانها الطاهر الورود.. مثَّل موكبها المهيب إستعارة تلخّص قصة الوطن؛ جنين البندقيّة والقدس البوصلة.

شيرين بنت البلاد التي بادلتها حباً بحب، وبنت الشعب الذي بادلها وفاءً بوفاء.. أحبت فلسطين، فحملتها على الأكتاف، وكما دخلت كل بيت، ضيفة محبوبة، كانت في غيابها حاضرة أكثر، فطاف غيابها كل أرجاء المعمورة، ونقلت فلسطين من حيزها الجغرافي إلى فضاءات الكون.. أنهت مسيرتها الحافلة بالشهادة، لكنها انتصرت، وانتصرت بها الرواية الفلسطينية إعلاميا وأخلاقيا.. وباستشهادها وحّدت شيرين الشعب الفلسطيني بكل أطيافه، وجعلتهم على قلب رجل واحد.. وأعادت قضية فلسطين إلى الواجهة، وجعلتها في مركز الحدث، وأدخلت إسرائيل في ورطة حقوقية وقانونية، وقوضت مصداقيتها، وجعلتها غير قادرة على الدفاع عن روايتها المتهافتة..

كل هذا مهم، ويمكن البناء عليه، بل يتوجب اقتناص هذه اللحظة التاريخية التي قدمتها دماء شيرين.. ولكن، وللأسف ثمة فئة ضئيلة وهامشية آثرت الالتفات إلى قضية أخرى؛ فقضية فلسطين لا تهمهم، لا يعنيهم توحد الشعب، ولا يهمهم إثارة قضية الاحتلال في المحافل الدولية، ولا ملاحقته في محكمة الجنايات بتهمة اقتراف جرائم حرب.. قضيتهم الرئيسة هي من سيدخل الجنة، ومن سيدخل النار.. وقد نصّبوا أنفسهم أوصياء على العباد، يريدون توجيه رحمة الله حسب أهوائهم، ووفقا لمنظومتهم الفكرية المتعصبة..  

شيرين رحلت جسدا، ولكنها ستبقى فكرة، وذكرى خالدة.. أما الاحتلال فليس أمامه إلا الاندحار، والزوال .

وداعا شيرين..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق