أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

فبراير 03، 2022

أم كلثوم

 

تحل في هذا الشهر الذكرى 47 لوفاة سيدة الغناء العربي أم كلثوم.. وأم كلثوم لم تكن مجرد مطربة عظيمة، وصاحبة صوت نادر.. كانت أكثر من ذلك بكثير؛ في بلدها مصر، كانت تعتبر الهرم الرابع، وأحد أبرز تجليات الوطنية المصرية. في العالم العربي كانت تمثل إحدى روافع القومية العربية، فقد كانت الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج تنتظر مساء أول خميس من كل شهر لتتسمّر قبالة المذياع لسماع أغنيتها الجديدة، كما كانوا يفعلون في ترقب خطابات عبد الناصر، في واحدة من تجليات توحد الشعوب العربية على قلب رجل واحد. لُقّبت "كوكب الشرق"، لأنها مثلت روح الشرق وسحره وكانت إحدى أهم معالمه وسماته، وعكست بكل جماليتها رمزية الشرق الأصيل فنياً. طبقت شهرتها الآفاق، فكانت واحدة من أبرز شخصيات القرن العشرين، وإحدى أيقونات الزمن الجميل.. قال عنها شارل ديغول: "لقد لمست أحاسيس قلبي وقلوب الفرنسيين جميعا". أما الحبيب بورقيبة فقال عنها: "أكبرتُ فيها مقدرتها الفنية وقوة شخصيتها، والعديد من الخصال التي جعلت منها سيدة بارزة في مقدمة سيدات العالم".

صوت أم كلثوم خامة فريدة وخاصة، وهو أكثر الأصوات انطباقا على السلم الموسيقي، بأعلى ذبذبة بلغها صوت إنساني، وبنسبة نشاز لا تتعدى الواحد في الألف من البعد الطنيني الكامل، وهي درجة لم يسبق لأي مطرب أو فنان أن بلغها، وهذا الصوت العذب والساحر سيظل خالدا في الذاكرة الفنية والشعبية.

ولكن، هل كانت معجزة أم كلثوم في صوتها فقط؟ هل فعلا كانت حالة نادرة وخاصة ظهرت لمرة واحدة فقط، ولن تتكرر؟ أظنُّ أنَّ أصواتاً عديدة وُلدت قبل أم كلثوم، وفي أثناء حياتها، وبعد رحيلها، كانت إما بنفس قوة وجمال صوتها، أو تقترب منها، أو لا تقل عنها روعة، ولكن بسمات وخصائص مختلفة.. ولكن فعلا لم يحظَ فنان/ة قط بما حظيت به أم كلثوم من نجاح وشهرة ومجد ومكانة في قلوب الناس، لا قبلها ولا بعدها.. والسؤال الثاني لماذا؟

عدد غير معروف من تلك الأصوات الجميلة لم تظهر أساسا، بمعنى أنها بقيت حبيسة ومكبوتة، لأسباب اجتماعية في الأغلب، أو لأسباب شخصية، أو لأسباب لها علاقة بالحظ والفرص. أو ظهرت وسرعان ما اختفت، لعدم توفر كافة عناصر النجاح، التي توفرت لأم كلثوم.. السؤال الثالث: ما هي تلك العناصر؟

حقيقة، ما صنع أم كلثوم ليس صوتها فقط؛ الصوت كان الشرط الأساسي والأهم، لكن ما جعله يحتل هذا المقام الرفيع، وغير المسبوق مجموعة العوامل الأخرى: كان كبار الشعراء يتسابقون على تقديم قصائدهم لتغنيها أم كلثوم، فحظيت بأجمل وأرق القصائد (بالفصحى وبالعامية)، فمن حسن حظها أنها عاشت في زمن أحمد شوقي، وأحمد رامي، عبد الوهاب محمد، وأحمد شفيق كامل، وغيرهم، فضلا عن القصائد القديمة التي كانت تختارها بعناية.. بالنسبة للألحان، تنافس على تلحين أغانيها أهم الملحنين العرب: زكريا أحمد، ورياض السنباطي، ومحمد عبد الوهاب، وبليغ حمدي، وسيد مكاوي..

كما حظيت أم كلثوم بالدعم الكامل من قبل أعلى سلطة في البلاد، فبعد قيام ثورة يوليو تم منع إذاعة أغانيها من الاذاعة نهائيا، وتقرر طردها من منصب (نقيب الموسيقيين) باعتبارها مطربة العهد البائد. بالطبع لم يكن هذا قرارا من مجلس قيادة الثورة؛ كان قرارا فرديا اتخذه الضابط المشرف على الإذاعة. ولكن، سرعان ما ترأس عبد الناصر وفدا رفيعا يناشدها العودة للغناء.. ومنذ ذلك الوقت اقترن اسمها باسم الزعيم الكبير.

بطبيعة الحال، كانت هذه العناصر متوفرة لكافة المطربين والمطربات الذين عاشوا في تلك المرحلة (كبار الشعراء، وكبار الملحنين، ودعم الدولة)، فظهر عمالقة الفن والطرب أمثال عبد الوهاب، وعبد الحليم، وفريد الأطرش، ووردة الجزائرية، وفيروز، وشادية، وفايزة أحمد، ونجاة الصغيرة، وعفاف راضي، وغيرهم.. وذلك أمر طبيعي ومتوقع، فقد كانت الأمة العربية تعيش حالة من الكبرياء القومي، وفي حالة تصدي ورفض للمشروع الصهيوني والإمبريالي، ولم تكن معالم الانهيار السياسي والقيمي قد بدأت، ولم تكن موجة المد الوهابي قد ظهرت، ولا الطفرة النفطية.. وهذه إحدى أهم شروط النهوض الفني والأدبي.. ولكن بقيت أم كلثوم حالة متميزة ومتفوقة بمراحل..

فقد تمتعت أم كلثوم بثقاقة فنية وأدبية عالية، فكانت تختار القصائد بعناية، وتجري أحيانا تعديلات على بعض الكلمات لتتناسب مع الإيقاع، كما كانت تتشارك مع ملحنيها في مواضع معينة، وحتى أنها كانت تراقب أداء العازفين، لتتأكد من اكتمال كل شيء.. كانت مثابرة بحق، وتستعد للأغنية الواحدة شهورا متواصلة من البروفات والتدريب الشاق. فأثبتت أن الغناء هو فن عقول وقلوب، وليس فن حناجر وأفواه فحسب، كمال قال الأديب عباس محمود العقاد.

بدءاً من السبعينيات، ستبدأ مرحلة أفول الكبرياء القومي، وسيبدأ النظام العربي في التحول إلى ثورة مضادة، ومع بداية الثمانينيات ستبدأ مرحلة جديدة ومختلفة بالتشكل، ومع مطلع التسعينيات سيبدأ الانهيار الشامل، وسيغطي كافة مناحي الحياة.. ولن تعود هناك فرصة لظهور فن جميل ومبدع وأصيل، رغم التقدم الكبير في تقنيات الصوت والصورة، والإعلام، وسرعة الانتشار، ووسائل الشهرة السريعة، والبرامج الكبيرة التي تسعى لاكتشاف ورعاية الأصوات المميزة..

قصة نجاح أم كلثوم التي شابهت الأسطورة، ونجاح أي فن أصيل لم تكن صدفة، ولا ضربة حظ، إنها حزمة شروط وعوامل متكاملة "بكج" لا تقبل نقص أي شرط منها.. تأتي كلها مجتمعة، وخلاف ذلك، لن تظهر أم كلثوم جديدة، ولا فيروز جديدة، ولا من يشبه عبد الحليم، ولا من يقترب من عبقرية بليع حمدي، ولا من تداني بجمالها فاتن حمامة.. الفن والأدب انعكاس للمرحلة السياسية، فالأدباء والشعراء والملحنين والمطربين والمخرجين والنحاتين والمسرحيين والممثلين الحقيقيين يظهرون فقط حين تتوفر شروط ظهورهم، وإلا سنظل نسمع ونشاهد فنا غير مكتمل الأركان.. بل وفي أكثر الأحيان فنا مشوها وباهتا..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق