أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

يناير 31، 2022

الطفل ريان، وتجليات الإنسانية


على مدى خمسة أيام متواصلة، تابع الملايين حول العالم عمليات إنقاذ الطفل المغربي "ريان"، الذي علق في بئر عميقة، في مشهد مهيب لواحدة من لحظات تجلي الإنسانية، وتوحُّد سكان الأرض جميعاً بقلوب متعاطفة وأعصاب مشدودة، وهم يتضرعون لله أن يخرج سالما.. وهي مناسبة لطرح موضوع "الإنسانية" على ضوء الحدث الجلل، ولفهم كيف صارت قرية نائية في أقصى المغرب بؤرة الاهتمام العالمي.

"الإنسانية" ليست ديناً، ولا تدعي أن نبيا قد أُرسل إليها تحديدا، ولا تزعم احتكار علاقتها بالسماء، ولا حصرية تمثيلها لله سبحانه.. وهي ليست بديلا عن أي دين، فمن الممكن أن تكون إنسانيا، وفي الوقت نفسه تكون مسلما متدينا، أو مسيحيا، أو بوذيا أو علمانيا، أو ملحدا..

تخلو "الإنسانية" من الطقوس والشعائر.. ولا تتضمن عقيدة معينة.. لكنها لا تعارض أي عقيدة، ولا تزدري أي طقس ديني، بل تحترم كل الأديان، وتحب جميع المؤمنين..

"الإنسانية" سبقت الأديان كلها؛ فهي تاريخياً وُجدت مع ظهور الحضارة الإنسانية؛ أي منذ أن ارتقى الآدمي فتحول من كونه كائن بشري إلى إنسان.. وتبلورت مع صياغه أول عقد اجتماعي للمجموعات السكانية في عهد الإنسان الأول..

ليست أيديولوجيا، ولا نظرية فكرية، ولا حتى فلسفة.. هي نزعة فطرية نقية، تتمثل في سلوك الإنسان السوي والأخلاقي، وفي مشاعره النبيلة..

لم يبتدعها شعب معين، ولم يخترعها نبي مرسل، ولا فيلسوف حكيم، ولا يمكن لأي حضارة أن تدعي صناعتها أو تمثيلها الحصري.. هي نتاج التجربة الإنسانية جمعاء، منذ أن خرج الإنسان القديم من الكهوف، واكتشف الزراعة، إلى أن صنع الإنسان المعاصر مركبة فضائية تنقله إلى المريخ.. اشتركت في صياغة وصنع هذه التجربة كل الحضارات الإنسانية، منذ السومريين حتى وقتنا الراهن..

بدأت "الإنسانية" حينما اكتمل نمو الدماغ البشري، وصار له قشرة خارجية تتيح لصاحبه التفكير، والتمييز، والتبصر، والإدراك، واتخاذ القرارات الصحيحة، بعد أن كان البشري ولفترات طويلة يعتمد فقط على جذع دماغه البدائي، فيتصرف وفقا لغرائزه، ورغباته ومخاوفه (دون وعي)..

تبلورت الإنسانية حين امتلك الإنسان لغة (ثم لغات)، وصار له منزلا، ثم قرية فمدينة، فدولة (ثم دول) وابتدع نظمه الاجتماعية، وأعرافه، وقيمه، إلى أن أطّرها بالقوانين والدساتير..

تطورت "الإنسانية" بعد أن انتقل الإنسان من مرحلة الصيد وجمع الثمار، إلى الزراعة، والاستقرار ثم التجارة والصناعة، وصولا إلى التكنولوجيا الحديثة.. وخلال هذه الرحلة الطويلة، طور علومه ومدنه وأساليب عيشه، والأهم أنه طور منظومته الأخلاقية والقيمية..

لكنها لم تكن رحلة مشمشية، كانت رحلة مخضبة بالدماء والعذابات والآلام، تعرض فيها البشر لانتكاسات كثيرة، وخاضوا تجارب مريرة وقاسية، فاخترعوا الحروب والتدمير، والعبودية، والإقطاع، والتعصب المذهبي والطائفي والقبلي، ومارسوا الجريمة وسفك الدماء، واقترفوا الإثم والعدوان.. اقترفوا كل هذه الشرور مرة باسم العرق، ومرة باسم الدين، وباسم التحضر..

ولكن، مقابل هذا التيار الشرير كانت البشرية تنحاز إلى إنسانيتها، وترجع إلى عقلانيتها، فتهذب من سلوكها. وفي كل مرة بعد كل انزلاق تخرج الأصوات المنادية برفع الظلم، ووقف العدوان، واحترام آدمية الإنسان وحقه في الحياة.. فتاريخنا ليس فقط تاريخ الغزوات والحروب والاضطهاد.. كان هناك على الدوام مسار إنساني آخر، يلتقي فيه البشر مع بعضهم بعضا في أشكال عديدة من التعاون والإخاء، كالتجارة، وتبادل الثقافات والخبرات، والتزاوج، وحسن الجوار، والتعاضد، والإغاثة، وتطوير العلوم، والمسابقات الرياضية.. يلتقون سلميا.. وبنوايا طيبة..

وفي سياق هذه الرحلة الإنسانية أتت الأديان السماوية (ومن قبلها الأرضية)، أتت لتسرّع من إنضاج التجربة الإنسانية، ولتكملها، وتهذبها، ولتعلي من شأن الأخلاق والقيم.. ولكن أتباع تلك الديانات نزعوا عنها فيما بعد سماتها الروحانية المحلّقة، وسلبوها طاقاتها الإيجابية، وفرغوها من مضامينها الإنسانية السامية، فحولوا الدين إلى سلطة، مهمتها التحكم في المجتمع، وهندسته وفقاً لأيديولوجيتها، حوّلوا جموع المؤمنين إلى جماعة سياسية متسقة تصطف خلف زعيم ديني.. وهذه الجماعة مهمتها نشر مذهبها بالقوة وفرضه على بقية الشعوب.. وهكذا خبا جمال الدين وتشوه خلف الكراهية التي خلّفتها موجات من الحروب الدينية.

 يزعم البعض أن الإنسانية نشأت مع الحضارة الغربية (أو اقترنت بها)، وهذا إدعاء غير صحيح؛ فالثورة الفرنسية التي نادت بالإخاء والحرية والمساواة، سرعان ما انقلبت إلى حرب أهلية، والثورة الصناعية سرعان ما أنجبت الرأسمالية المتوحشة، والتي تحولت لاحقا إلى نيوليبرالية أشد توحشا، كما أن الحضارة الغربية أنتجت الجريمة المنظمة، وتورطت في الحروب، وفي الحملات الاستعمارية، وحملات التطهير العرقي، والإتجار بالبشر، ويمكن أن نعدد الكثير من مثالبها ومساوئها.. لكن يجب أن نقر بأنها أنجبت أهم النظريات الفلسفية والإنسانية والتنويرية، وأنتجت العلوم والمخترعات والفنون والآداب، وساهمت في تقدم الطب وتخليص البشرية من الأوبئة الفتاكة.. وصولا إلى إنجاز شرعة حقوق الإنسان والقانون الدولي.. 

الحضارة الغربية بوصفها الحالي لا تمثل الإنسانية الحقة، لكنها حلقة مهمة في الوصول إلى الحضارة الإنسانية الشاملة، التي قد ترتقي إلى مستوى تمثيل الإنسانية التي نطمح إليها.. ولكنها على الأقل جعلت تلك الممارسات الفظيعة والشنيعة التي كانت سائدة في أزمنة سابقة غير مقبولة، بل مستهجنة، كما نقلت الشعوب من مرحلة الأباطرة والاستبداد إلى الديمقراطية وتداول السلطة وحقوق المواطنة..

الإنسانية حاليا، مجرد نداءات صادقة ونقية، أو هي تيار عالمي تنخرط فيه يوما بعد يوم فئات اجتماعية جديدة وباضطراد، من كل الشعوب والأمم.. وهذا التيار اكتسب سرعة وزخما كبيرين في عصر العولمة والثورة المعلوماتية والتكنولوجية وثورة الاتصالات.. مما يقربنا خطوات إضافية للوصول إلى الإنسانية الحقة والشاملة.. ولكن ما زال أمامنا الكثير، وما زال الدرب طويلا وصعبا..

الإنسانية، أن ترفض الظلم لأنه ظلم، ومهما كان مصدره، وتدين الظالم حتى لو كان زعيم طائفتك، أو قائد حزبك.. أن تشعر مع المظلومين والضحايا بغض النظر عن دينهم أو لونهم، أو عرقهم.. أن تنحاز للإنسان لمجرد أنه إنسان.. وهذا يكفي لأن تتشارك معه أحزانه وأوجاعه، وأن تلتقي معه بمحبة، ودون كراهية، ولا أحكاما مسبقة..

الإنسانية هي العدل والمساواة، وهي النقيض لكل الأيديولوجيات والأفكار المتعصبة التي تصنف الناس على مسطرتها الخاصة..

الإنسانية أن تتمنى الخير لجميع الناس، وللكوكب.. وحين تفيض بالإنسانية، سيمتلئ قلبك حبا، وستتخلص من كل مشاعر الكراهية..

وإذا عمت الإنسانية كوكب الأرض، سيكون بوسعنا التفرغ والتعاون لمجابهة أخطار البيئة وكوارث الطبيعة التي تتربص بنا، وتهدد وجودنا من أساسه.. وسنتفادى خطر الحروب والصراعات، لنبني صرح السلام العالمي.. وهذا قدرنا كبشر، وإلا صنعنا نهايتنا المفجعة بأيدينا..


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق