أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

يونيو 27، 2020

كيس زبالة



صباح الخميس، استيقظت "حمدة" من نومها بكسل وتثاقل، وقد أحست بصداع في رأسها جعلها متكدرة المزاج، خاصة وأن هذا الأسبوع كان متعبا وشاقا، وقد وقعت فيه أحداث كثيرة مزعجة، فقالت في نفسها، أشعر أن هذا اليوم سينتهي بمصيبة..

وبسبب أزمة السير، وصلت مكان عملها متأخرة نصف ساعة، وما زاد من حنقها، أنها وجدت عند باب العيادة كيس نفايات ممزق وقد تناثرت محتوياته في أرجاء المدخل، نظرت إليه باشمئزاز، وغطت أنفها بطرف منديلها لتجنب الرائحة الكريهة، ودخلت غاضبة، وعلى الفور أمسكت سماعة الهاتف واتصلت بمديرية الصحة في المحافظة، وصاحت مهددة بصوت حاد: أنا مش مستعدة أداوم في هيك مكان..

-         خير يا حمدة، شو في على هالصبح؟
-         في ناس كابين أكياس الزبالة على باب العيادة، وهاي مش أول مرة..
-         طيب، اهدئي، سأتصرف وأحل المشكلة.

اتصل مدير صحة المحافظة بالمجلس القروي، وأخبره بحيثيات المشكلة، شارحا أبعادها ومخاطرها، وأن مسؤولية المجلس تقتضي حماية العيادة من أعمال التخريب.

من جهته، اتصل رئيس المجلس القروي بصديقه القديم الملازم "سالم" من مركز شرطة المدينة، وأخبره أن العيادة تعرضت لاعتداء من قبل مجهولين. وبدوره اتصل الملازم "سالم" بالمقدم "عليان" قائد المغفر وأخبره أن عصابة شريرة هاجمت المركز الصحي في القرية. على الفور أرسل المقدم تقريرا لرئيس المباحث العامة استعرض فيه المخاطر الأمنية من جراء العمليات المتكررة لمجموعات خارجة عن القانون تستهدف المرافق الحكومية.

شكل رئيس المباحث العقيد "نمر" فريق عمل، وعقد اجتماعا سريعا، انتهى بتكليف لجنة أمنية لمعاينة المكان، ورفع البصمات، وسؤال الشهود، وجلب المعلومات... وبالفعل، توجهت اللجنة إلى المركز الصحي، ووجدت كيس نفايات ممزق، ومن حوله بقايا طعام، وعبوات فارغة، وأكياس شيبس.. ولم تقتنع بأن المشكلة فقط في كيس نفايات، لا بد من وجود أعمال تخريب أخرى، فعاينت كل أرجاء العيادة ومحيطها، فوجدت "لمبة" مكسورة، واكتشفت أن زجاج نافذة الحمام كان أيضا مكسورا، وعلى الحائط الجانبي للعيادة عبارات غير واضحة كتبت بخط رديء، بالإضافة لحجارة وحصى وأكياس بلاستكية سوداء ومخلفات بناء متناثرة هنا وهناك.. وثقوا كل شيء في التقرير، ثم بدأوا باستجواب الممرضة "حمدة"، وهي الموظفة الوحيدة في العيادة، ثم باستجواب المارة، والمراجعين، والأطفال.. وبعد ساعتين أعدوا تقريرا مفصلا، من أربع صفحات، قدموه للعميد "مالك"، والذي بدوره اتصل بقائد جهاز الأمن الوقائي، ووضعه في صورة تطورات الأحداث.

كان قائد الأمن الوقائي اللواء "راجي" على قناعة بأن مكمن الخطر يأتي عادة من القرى النائية، حيث تتراخى قبضة الأمن، فقام باستدعاء المجلس الأمني المصغر، وشرح لهم نظريته عن التهديدات المحتملة والعمليات الإرهابية التي تنشط عادة في الأرياف والبوادي، حيث تختارها التنظيمات العالمية الإرهابية ساحة لعملياتها، وتبدأ باستقطاب الشبان وتنفيذ مخططاتها المشبوهة.. وبعد أن أكمل شرحه، أخبره النقيب "خالد" بأن العريف "داوود"، يسكن في تلك القرية المغدورة، وبالتأكيد بإمكانه الإفادة. فاستدعاه على الفور، وقال له بحزم: قبل نهاية هذا اليوم، أريد منك التوصل للفاعلين، وجلبهم على الفور.

تبسم "داوود" بمكر، وقال له أحتاج فقط نصف ساعة، وسيكون لك ما أردت.

جلس "داوود" خلف مكتبه، وبدأ يعصر ذهنه، ويستعرض شريط ذكرياته، ويدون الأسماء المحتملة، والمشبوهين، ومن اعتادوا السهر قبالة العيادة.. ولسبب غامض تذكر زملاءه في المدرسة، خاصة المتفوقين والرياضيين، ومن تنمروا عليه في المرحلة الابتدائية.. وفي النهاية أعد قائمة من ثلاثين اسما، وسلمها لمديره مؤكدا له أن العصابة الشريرة لا بد أن تكون من بين هذه الأسماء.

بعد الظهيرة بقليل كانت قوة أمنية مؤللة تقتحم القرية، وتعتقل كل من ورد اسمه في القائمة، وترسلهم إلى مركز الشرطة..

بدأ التحقيق معهم كلٌ على حدة، ورغم الضرب والتعذيب والتهديد لم يعترف أحد، مؤكدين أنهم لا يعرفون شيئا، وأنه ربما كلاب الشوارع هي من مزقت الكيس في الليل، وأن "اللمبة" مكسورة منذ سنوات، أما زجاج نافذة الحمام فلا يعرفون عنه شيئا.. ومع ذلك، تقرر إيداعهم في السجن ثلاثة أيام لاستكمال التحقيقات.

ثار الأهالي، واحتجوا على اعتقال أبنائهم، وتجمعوا قبالة مركز الشرطة على شكل مظاهرة، طلبوا مقابلة قائد المغفر، لكنه رفض، فهددوا باقتحام المبنى، وأخذوا يصرخون ويرددون الهتافات الغاضبة.. فاتصل قائد المغفر بكل الأجهزة الأمنية، وأخبرهم عن قيام تمرد شعبي وعصيان مدني، وتهديدات بالقتل والاقتحام وحرق المركز على من فيه..

قبيل المغيب، كان قوة هائلة من الأمن المركزي تحيط بالمكان، وبدأت بإطلاق الغازات المسيلة للدموع والرصاص المطاطي لتفريق المتظاهرين، أثناء ذلك تدافعت أعداد إضافية من الأهالي لنجدة المتظاهرين، فبدأت القوة الأمنية بإطلاق الرصاص الحي، حتى تمكنت من قمع المظاهرة وتفريقها، ولكن بعد سقوط العشرات بين قتلى وجرحى.

في اليوم التالي، خرجت جنازات أربعة شبان محمولة على الأكتاف، وفي طريقهم إلى المقبرة مر المشيعون من أمام العيادة، وكان كيس النفايات مكانه، ومن حوله تتناثر بقاياه، ومن خلفه "حمدة" ترقب المشهد وتهذي كالمجنونة: ألم أقل لكم أن هذا الأسبوع سينتهي بمصيبة!

هناك تعليق واحد: