أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

أغسطس 03، 2019

أنسنة الناس والأماكن



مقالة الأديب والإعلامي "عارف حجاوي" والتي حملت عنوان "نساء نابلس القويات" خلّفت وراءها عاصفة قوية من الجدل وردود الفعل المتباينة، اتسم أكثرها بالحدة والتطرف، وشابها الكثير من الشتائم، وهذه مسألة متجذرة في الثقافة العربية، ومن الصعب التخلص منها، على الأقل في المدى المنظور، ولكن ما يهمني هنا هو رفض مسألة أنسة الأماكن.. وهي مسألة يمكن الشغل عليها..

ما كتبه "حجاوي" عبارة عن انطباعات شخصية عن مدينة سكنها ردحا من الزمن، ولم يكتبها بصيغة فتوى دينية، أو قرار رسمي، أو حكم نهائي قاطع مانع.. كتب رأيه الشخصي، دون أن يزعم أنه رأي مطلق الصواب، كتب وصفا لمجتمع صغير، مضفيا على صفة الإنسانية؛ أي بوصفه مجتمعا إنسانيا عاديا، فيه كل إيجابيات وسلبيات أي مجتمع آخر.. وبالتأكيد كان سيرحب بأي تعليقات أو انتقادات (في حدود الأدب)..


جاء في مقدمة المقال: "لم تسبق لي تجربة مع الممارسة الجنسية المثلية، رغم أنني ولدت ونشأت في نابلس. وأغلب ظني أن هذا الشيء موجود في نابلس بقدر ما هو موجود في غيرها، إلا أن مؤلفي النكت يحتاجون دائماً إلى عنوان ثابت لكل خصلة بشرية".

وربما يكون هذا المقطع أكثر ما أثار حفيظة وغضب الرافضين، الذين يرفضون وينكرون تماما وجود ظاهرة المثلية الجنسية في مدينتهم، فمثل تلك المقولة تستفز العصابية الذكورية، بل وتُعتبر إهانة!

وسواء رفضنا أم قبلنا الظاهرة (وثقافتنا وديننا بالعموم يرفضها)؛ فهذا لا ينفي وجودها، وحسب منظمة الصحة العالمية، فإن المثلية الجنسية موجودة في أي مجتمع بنسبة قد تصل إلى 5%، بل إن المؤتمرات الطبية العالمية لم تعد تنظر إليها بوصفها شذوذا، أو مرضا يستوجب العلاج..

وكل ما فعله "حجاوي" أنه أشار إلى وجود هذه الظاهرة في نابلس، كما هي موجودة في أي مكان بالعالم، ومعظم المجتمعات تعترف بها، ولكن على شكل نكات، في العراق مثلا، يحظى المغني "سعدي الحلي" بشهرة واسعة تفوق شهرة أبو نواس، بل وتتخطى شهرة كل الشخصيات التي مرت بتاريخ العراق، والفنان سعدي الحلي، يشتهر بمثليته الجنسية، وحوله ألّف العراقيون ما لا حصر له من النكات، حتى أنه صار ملاذهم، وملجأهم في الأزمات، وطالما نفّس العرقيون عن كبتهم، وتحايلوا على أحزانهم كلما اشتدت عليهم المحن والبلايا.. يسهرون الليل بطوله، وهو ينكتون على سعدي الحلي، ويخترعون عنه القصص والحكايات..

المسألة الثانية التي أثارت حفيظة الكثيرين، إشارة "حجاوي" إلى دور نابلس خلال ثورة ال36، فكتب: "نابلس قد أَسبغ عليها لقبها الشهير "جبل النار" ما لا تملك... وأما ثورة عام 1936 التي جاء في خضمها اللقب، فقد كان الفاعل فيها ريف نابلس، وأما المدينة نفسها فاكتفت بنـزع الطربوش ولبس الكوفية بعض الوقت لتمويه تحركات الثوار على القوات البريطانية"... وهذه معلومة تاريخية، وكلنا يعرف أن لنابلس دورا كفاحيا مشهودا، وخاصة في الثورة الفلسطينية المعاصرة.. ولكنها كسائر المدن؛ لا تحب الموت (حتى لو أسبغنا عليه لقب الشهادة)، وتحب الحياة، والاستقرار، ويحاول أهلها أن يعيشوا حياة طبيعية، وحسب تعبير الصديق "فضل عاشور": "أن تكون نساء نابلس قويات وجميلات، أهم من كون نابلس جبل النار"..

انبرى المدافعون عن المدينة بتعداد مناقبها، وذِكر أسماء شهدائها، وتضحياتها الجسام.. وهي مسألة لا ينكرها أحد، ولكن، لا يعيب نابلس (ولا غيرها) أن تكون مدينة عادية، فيها تجار، وصناع، وعاطلين عن العمل، وفيها أكاديميين مرموقين، وأناس غير متعلمين.. فيها نساء جميلات، وأخريات أقل جمالاً.. وفيها عباقرة وأغبياء، وصالحون ومفسدون.. وسائر الظواهر الاجتماعية (جميلها وقبيحها).. ولكن يعيب أي مدينة خلوها من الحوار العقلاني، وعدم تقبلها للرأي الآخر، والادعاء المزيف بالطهرانية والملائكية..

مشكلة من يدافعون عن مدنهم (وهي نفس مشكلة من يهاجمونها) أنهم يفترضون صفات غير موجودة أصلا في المدينة، يفترضون أنها مثالية، ويصورونها على أنها مجتمع الفضيلة.. وإذا ما برزت ظاهرة سلبية، أو وقعت فيها حادثة مسيئة فإما أن يتجاهلونها، أو ينكرونها، أو يبدؤون بسوق التبريرات، بقولهم إن هذه الظاهرة غريبة عن تراث المدينة، وثقافتها وقيمها.. وهذا كله تزييف للحقيقة الاجتماعية.. المدينة كائن حي طبيعي، فيها كل شيء، فيها الجميل والبشع، فيها الطيبون، والأشرار..

وما ينطبق على المدن يسري على البشر.. في عقلنا المتوهم اعتدنا أن نبني صورة مثالية عن الشخصيات التي نحبها، وننسى أن هؤلاء بشرا عاديين.. فيهم نوازع الخير والشر، ونقاط القوة، ومكامن الضعف، ولديهم أخطائهم الصغيرة والكبيرة.. لذا نُصدم حين نسمع عن قصة لقائد سياسي أو شاعر أو فنان أو مفكر ونتكشف أن له صولاته الغرامية، أو أنه طلق زوجته، أو كذب، أو أصابه الضعف والوهن.. أو ارتدى جاكيتا لا يناسب لون البنطال!

حتى رسولنا الأكرم، وصحابته الكرام، لو قرأت سيرتهم الشريفة بتفاصيلها اليومية، وخاصة الجانب الإنساني في حياتهم الأسرية، ستجد الغيرة والشك والنسيان والسهو والعتاب والحب والغضب والمرض والفرح والحزن والانتكاسات... وستجد النوازع الآدمية البدائية.. لكننا نصر بطريقة عجيبة ومرضية على تسويق شخصياتنا التاريخية على أنهم فوق البشر، ولا يخطئون!

وما يسري على المدن والبشر، ينسحب على أحزابنا وفصائلنا وعشائرنا!! خاصة لدى المصابين بداء التعصب والتزمت والانتماء الأعمى.. ستجد هؤلاء يدافعون باستماتة وتشدد عن مواقف أحزابهم وعشائرهم في كل موقف.. مشكلة العقل السياسي العربي أنه تربى على ثنائيات قاطعة (إما أسود أو أبيض، ولا لوجود لأي لون بينهما) وأيضا الحق مقابل الباطل، والخير مقابل الشر، والجمال مقابل القبح.. وكأنَّ الشخص الواحد، أو التنظيم السياسي، أو الجماعة الدينية أو القبيلة أو المدينة.. يجب أن يحمل كل الصفات الحميدة.. فلا نستطيع تقبل فكرة أن فلان إنسان فاضل وشجاع وعبقري، ولكنه يخطئ ويضل وينسى ويضعف ويجبن.. أو أن التنظيم السياسي الفلاني (بفكره وبرنامجه ومواقفه وشخصياته) يمثل الحقيقة المطلقة، ويجسّد الفكرة الجميلة التي لا يعتريها الخطأ.. فإما أن يكون كذلك، أو إنه تنظيم فاسد..

لن نرتقي بإنسانيتنا، ولن نرتقي بفكرنا حتى نؤمن بالحقيقة النسبية، ونقتنع أنه ليس من حقنا، ولا من واجبنا إصدار الأحكام بحق الآخرين..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق