أفرد الجاحظ في كتاب
"الحيوان" فصلا كاملا للكلب، عدّد فيه مناقبه وفضائله، فقال: ومما يدل
على قدر الكلب، كثرة حديث الناس عنه، من استحسان، أو تقبيح، حتى ذُكر بالقرآن، مرة
بالمدح ومرة بالذم، وكذلك في الأشعار والأمثال.. وكانت صلة العرب بالكلب وثيقة،
حتى صار أصدق أصدقائهم، بينما كان الفُرس يمقتونه، ويسخرون من أصحابه..
وميزة الكلب الوفاء؛ حتى لو كان
صاحبه مجرما.. لكنه يغدو لطيفا مع الطفل إذا لاعبه، وعنيفا مع الشرطي إذا دربه على
العنف، وحارسا أمينا مع الراعي، وصيادا ماهرا مع الصياد..
(1)
وصل المنادي سوق "راغبة
خاتون" شرق بغداد، وكان من أجمل الأسواق، وأكثرها ازدحاما، دخله ومن خلفه ثلة
من الشرطة، تظهر السيوف على أجنابهم بوضوح، كان يمشي ببطء، ويتلفت يمنة ويسرة، يتدلى
أمام بطنه طبلا ضخما، مشدودا إلى كتفه، أخذ بعصاه يهوي عليه بضربات منتظمة، والناس
ترمقه بنظرات قلق وفضول، فأخذ يصيح بصوته الجهوري: أيها الناس، يا معشر المؤمنين،
يا أهل بغداد.. ثم يصمت برهة، معاودا قرع الطبل، فاسحاً المجال للناس لتلتف من
حوله، وظل يكرر نداءه حتى تجمع كل من بالسوق، فأخرج من جرابه لفافة، وأطال الصمت،
والناس تترقب ما سيقول، تنحنح بصوت مكتوم، وهو لا يزيح ناظريه عن لفافته، ثم تلا
بصوت عالٍ: أيها الناس، فرمان باسم أمير المؤمنين؛ أنا الخليفة هارون الرشيد، حاكم
بلاد المسلمين من شرقها إلى غربها، قاهر الروم ومذل العجم، أعلمكم بأن ولي العهد
من بعدي هو ولدي الأمين، فمتى رحلت إلى دار الحق، صار خليفتكم، وعليكم السمع
والطاعة، على أن يترك الأمينُ لأخيه المأمون كل ما عهدت إليه من خراسان وبلاد
المشرق: زرعها، وثغورها، وكورها، وجندها، وخراجها، وبيوت أموالها، وزكاتها،
وعشورها، وجزيتها، وبريدها.. قُضي الأمر.. هارون بن محمد المهدي بن أبي جعفر المنصور،
الأول من جمادي الآخرة، للعام 175 هجري.
(2)
فتح الحارس باب الثلاجة، وسحب بقوة
سريرا معدنيا تتكوم فوقه جثة ممزقة، لم يتبق منها سوى الرأس والجذع وعظام الحوض..
سرعان ما فاحت بالمكان رائحة كريهة، كان الدم متيبسا، ومعالم الوجه مشوهة، وعليه
أثر طين ممزوج بالدم، أزاح الأب وجهه للناحية الثانية، وقد غطى بكلتي يديه أنفه
وفمه، ثم رسم بإبهامه علامة النفي وهو على وشك الانهيار.. فتح الحارس ثلاجة أخرى،
كانت كومة عظام يستحيل التعرف على صاحبها، لكن رائحتها تلاشت تقريبا، تابع الأب
والحارس تفقد الجثامين، دون فائدة، فقد كان عدد القتلى كبيرا، وأغلبهم بجثامين
منقوصة، أو بوجوه محروقة، وقد راحت تعابيرها، وانطمست معالمها.. كل هؤلاء مجهولين،
بلا هوية، وبلا أسماء، ينتظرون من يتعرف إليهم، من يدفنهم.. قال الحارس جملته
الأخيرة، ثم ساد صمت رهيب.
(3)
لم يُظهر أحد من العامة مشاعر قلق أو
حزن على صحة الرشيد، الذي كان يئن في فراشه، وقد اشتدت عليه العلة، والأطباء في
قصره في طوس، بين غدو ورواح، يخرجون من ردهته فرادى، ثم يتجمهرون في آخر الرواق،
ويتمتمون بكلمات غير مفهومة، بيد أن الخوف كان بادٍ على وجوههم..
(4)
أحدث
الانفجار الذي وقع في باب المعظم في آب الماضي دمارا هائلا، نحو 20 قتيلا،
وأضعافهم من الجرحى والمشوهين، وتدمير نحو خمسين سيارة، عدا عن تكسير زجاج وواجهات
المحلات.. كان صوته رهيبا، مدويا، سُمعت أصداءه في الأحياء المجاورة، اندلعت ألسنة
النيران في أكثر من مكان، وعمت فوضى شديدة، وسرعان ما تجمع مئات المواطنين في مكان
الانفجار، منهم من أتى لتقديم المساعدة، ومنهم من أراد التفرج، أو التصوير، أو من
باب الفضول.. في نفس المكان، وبعد ربع ساعة، وقع انفجار ثان، هذه المرة تجاوز عدد
الضحايا المئتين بين قتيل وجريح..
انفجار آخر
وقع في حي الشعلة، حي شعبي مكتظ، أغلب سكانه من الفقراء، هذه المرة كان الناس أكثر
حذرا، لم يهبوا لمشاهدة آثار التفجير، بل تريثوا نحو نصف ساعة، أو أكثر، ظلوا خلف
جدرانهم الموصدة، يتملكهم الخوف والقلق، في هذه الفترة كانت النيران تمتد وتلتهم
كل ما في طريقها، وقد قضى كل جريح كان بالإمكان إنقاذه، لو نقل إلى المشفى فورا..
ولكن، من يلوم الناس، فمن يدري إذا كان سيتبعه تفجير ثاني، يودي بمزيد من الضحايا؟
وبالفعل، بعد ساعة، وعلى بعد مائة متر، وقع تفجير هائل..
(5)
ما أن دخل البرمكي بلاط
الرشيد، حتى انحنى له الحراس احتراما، فتقدم الصفوف بخطوات بطيئة، حتى وصل أسفل
العرش، فانحنى أمام الخليفة مظهرا كامل خضوعه، وقال: لو أذن لي أمير المؤمنين
بالحديث. أومأ الرشيد برأسه موافقا، فقال: يا أمير المؤمنين، أخشى أنك تسرعت بمنحك
المأمون خراسان، بكل ما فيها من جند وخيرات..
-
هات ما عندك يا وزيرنا المؤتمن.
-
مولاي، سيكون للأمين وللمأمون جيشين، وأخشى أن
يشب صراعا بينهما..
أراد الرشيد بعد ذلك معالجة هذه
الغلطة، ففعل ما يزيدها شراً؛ فأقطع لأخيهم القاسم الجزيرة وأرمينية، فأحس
المأمون بالغبن، لكنه كتم غيظه، أما الأمين فأدرك أنه مقصوص الجناحين، منزوعاً من
سلطان أعظم بقاع الإسلام وأكثرها أعواناً وجنداً.
(6)
وقع انفجار
آخر في شارع الرشيد، وهذه المرة، رغم دويه الهائل، إلا أن أحدا لم يتوجه إلى
هناك.. من استطاع من الجرحى الزحف بعيدا، ساعده بعض المارة، ونقلوه إلى المشفى، فحاز
على فرصة للنجاة، أما الآخرون فتُركوا ينزفون حتى لفظوا آخر شهقاتهم، ثم تركت
جثامينهم حتى ظهيرة اليوم التالي، وعندما أتت سيارة البلدية، كانت رائحة الدم
المختلطة برائحة البارود، وروائح المجاري لا تُطاق، والذباب يحوم بأعداد لا تحصى
حول الجثث، وكانت الكلاب قد نهشتها ومزقتها، معظم الجثث كانت مشوهة لدرجة يصعب
التعرف على أصحابها..
(7)
في خراسان، همسَ الفضل بن سهل في أذن سيده المأمون قائلا:
مولاي، أرى أن أباك فضّل عليك الأمين، وأنت أسنُّ منه، وأولى منه بالخلافة، ولم
يكن له ليفعل ذلك، لولا أنه ابن زبيدة القرشية، عالية النسب والحسب، والحبيبة إلى
قلبه. أرى لو تغديت به قبل أن يتعشى عليك..
أما
في بغداد، فهمس الفضل بن الربيع، في أذن سيده الأمين قائلا: مولاي: لقد فضلك
مولانا الرشيد لأنك ابن الأصل والحسب الرفيع، من تجري في عروقه دماء العروبة..
وأخشى أن ما سمعته صحيحا، بأن المأمون يستعين بأخواله العجم، ويعد العدة، ويجيّش
الجيوش لخلعك عن سلطانك.. أرى لو تعزل أخاك عن ولاية العهد، وتعطيها لابنك موسى، فتقطع
عليه الطريق.
(8)
تتحول بغداد
في الليل إلى مدينة أشباح، تدثرها العتمة والسكون، فيما تظل مصابيحها ترتجف وحيدة،
وتنوس خائفة، لا ظل لعابر سبيل، ولا صدى لخطوات متعثرة، فقد خلت الشوارع من المارة
تماما، باستثناء بعض الجثث الممددة على الأرصفة، والناس خلف ستائرهم المسدلة،
يقضمون أحلامهم، ويقتاتون على ذكرياتهم البعيدة، لا يجرؤون حتى على الوقوف على
الشبابيك، فمن يجرؤ على الخروج؟ فحتى لو استبعدنا احتمالية وقوع تفجير (لأن
الانتحاريين يفضلون ساعات الذروة في رابعة النهار)، فهناك العصابات، وقطاع الطرق،
والميليشيات المسلحة، والأخطر من كل ذلك، الكلاب الضالة، التي تتزايد أعدادها
باستمرار، وتتضخم أحجامها، وتغدو أشرس وأخطر يوماً بعد يوم.
وحده
"عزيز" من كان يجرؤ على الخروج ليلا؛ أربعيني، طوله يقترب من المترين،
كتلة متراصة من العضلات، بلا قلب، يرتدي بصطارا عسكريا، وقميصا وبنطالا أسودين،
ويغطي ثلثي وجهه بشال أسود، يمشي منتصبا، ببطء، كأنه خارج في جنازة.. على جنبه
يتدلى خنجر طويل، وعلى ظهره رشاش كلاشنكوف، وفي كلتي يديه يمسك بحزامين مربوطين
بكلبين ضخمين، من سلالة "وولف"..
لا أحد يعرف
اسمه ولا حقيقته، ولا من أين يأتي، أو كيف يختفي.. لكنه كان يظهر في كل موقع
تفجير، يأتي متسللا على أطراف أصابعه، ليسلب الأموات، يأخذ ما يجده معهم مهما كان
تافها: حزام، ساعة، محفظة، نقود، أوراق، هويات، خواتم.. كل شيء.. وبعد سلب الجثة
يتركها عشاء لكلبيه..
(9)
بدأ الأمين يحشد الجيوش، ويجري
اتصالاته مع أهل خراسان؛ محرضا إياهم على واليهم المأمون، وما أن دخل عليه وزيره
الفضل بن الربيع هاشّاً باشّاً، يبلغه بجاهزية الجيش، حتى أمر بتحريك قواته للزحف
شرقا، صوب خراسان.. لكن المأمون لم يتأخر بالرد، فطلب الدعم من سادة المقاطعات،
وشيوخ القبائل، ورص صفوف جيشه وجعل على رأسه طاهر بن الحسين، وهرثمة بن أعين.. وحين
تقابل الجيشان في الري، كانت الغلبة لجيش المأمون، وبعد أن كان له الأمر، أكمل
زحفه غربا، قاصدا بغداد.
(10)
جلس "أبو الكلاب" في صالة
كبار الزوار في مبنى البرلمان، في المنطقة الخضراء، مادا رجليه على طولهما، وقد
هبت عليه نسمة باردة من المكيف، نزع نظارته الشمسية السوداء، ووضعها في جيب قميصه،
ثم أخرج سيجاره الكوبي وأشعله، دون أن ينظر إلى محدثه الواقف أمامه بأدب جم.. كان
علاوي قد طلب لقاءه، راجيا منه بضع دقائق، عارضا عليه صفقة يسيل لها اللعاب..
-
إذا طلبتَ من جماعتك دعمنا في
التصويت على مشروع كهرباء البصرة، لك عندي مليوني دولار تستلمها الآن، ومثلها بعد
التصويت.
-
سأنتظر عرض المالكي، فهو أسخى منك
عطاء، وإن كنتَ أعذب منه لسانا..
(11)
في "مرو" أخذ الفضل
بن سهل يرى نفسه صاحب الفضل على المأمون، فهو مدبر أمره، وناصحه المؤتمن، فأراد
أن يستأثر بالأمر، ويتفرد بنفوذه، انتظر أول فرصة للقاء مولاه، فقال له: يا أمير
المؤمنين، إنّ طاهر وهرثمة يتصرفان كما لو أن العراق دانت لهما، يقطعان الأراضي
لأقربائهما، وما زالا يستوليان على البساتين، ويبنيان القصور، ويعيثان في الأرض
فسادا.. وهذا ما نهى عنه رب العزة..
لم يتوان المأمون عن عزل طاهر عن
العراق وما حولها، وتعيين الحسن بن سهل مكانه، وأمر إلى هرثمة بالمثول أمامه في
مرو، فاستجاب طائعاً.
شاع في بغداد بعد عزل الطاهر أن
الفضل بن سهل قد غلب على المأمون، وأنزله قصراً حجبه فيه، وأنه يبرم الأمور على
هواه، فغضب الناس لذلك، واستخفوا بالحسن بن سهل، وهاجت الفتنة في الأمصار، ولم يجد
ابن سهل حوله ناصراً ولا مغيثا، فأرسل إلى هرثمة يستنجد به، فاستجاب، وبعد معارك طاحنة،
سالت فيها دماء كثيرة، عادت الأمور إلى ما كانت عليه.
بيد أن الكوفة لم تهدأ، إذ ثار محمد
بن إسماعيل على المأمون، فتصدى له هرثمة.. وفي مكة كان حسين بن الحسين يشيع
العذاب في كل من له علاقة ببني العباس، حتى اتخذ داراً سمّاها دار العذاب، أذاق
نزلاءها أذل صنوف المهانة، وسوء العقاب.. ولما علم أن هرثمة قضى على جماعته في الكوفة
اجتمع إلى محمد بن جعفر الصادق، وكان شيخاً زاهداً، وقد أحبه الناس
لورعه، فبايعوه خليفةً للمسلمين، فأجاب تحت الإلحاح وبعد تردد، فحشر ابن الحسين الناسَ
إليه فبايعوه طوعاً وكرهاً، وسموه أمير المؤمنين... فأقام على ذلك أشهراً، وليس له
من الأمر إلا اسمه.
أراد هرثمة أن يتوجه إلى المأمون
بمرو ليطلعه على حقيقة الحال، وما ينكره الناس عليه، واستبداد الفضل بن سهل على
أمره... ولكن الفضل سبقه بكيده؛ فأفهم المأمون أن هرثمة قد أفسد البلاد.. ولما
اقترب من مرو خشي أن ينال منه جند الفضل وعسسه قبل أن يلقى المأمون، فضرب الطبول
كي يسمعها الخليفة، فلما سمعها سأل من حوله: ما ذاك؟ فقالوا: إنه هرثمة، جاء يرعد
ويبرق. ولم يكن المغدور يعلم أن المأمون قد انقلب عليه، فلما دخل بلاطه، لم يؤذن
له بالكلام، وأخذه الجند إلى الحبس، وهناك دقوا له رقبته.
(12)
أطلت زينب من الشباك، وكانت
ترتدي قميصا شفافا؛ وزينب لمن لا يعرفها، فتاة بغدادية عشرينية، شعرها كستنائي، لا
تفارقها ابتسامتها العذبة، حتى لو غطت مبسمها ستظهر في عينيها.. أزاحت طرف الستارة بحذر، تلعثمت،
كأنها لم تتعلم الكلام: هذا مكان مألوف، كأني شاهدته من قبل، لكنه
يبدو غريبا، قالت في نفسها، وأضافت: كأني أتوهم! رأت الملثم وكلبيه، هذه المرة كان
يمشي مسرعا، دون أي حذر، تفقد الجثث كعادته، وسلب منها ما وجده صالحا للسلب، وقبل
أن يغادر، لمح ضوءا خافتا من خلف شباك بعيد، فأطلق عليه النار.. كانت طمأنينة زينب
تقف إلى يسارها، وعلى يمينها يقف الأمل، فقتلا على الفور، تكوما فوق بعضهما البعض،
مثل كيسين من التبن..
(13)
ولما بلغ أهل بغداد ما صنع
الفضل بهرثمة، ساد هرج ومرج، وهاج الجند، وساروا فرادى وزرافات صوب بيت الحسن بن
سهل فقتلوه، وخلعوا بيعتهم للمأمون، ونصّبوا منصور بن المهدي أميراً
عليهم، ثم مرت على بغداد أياما مظلمة، وقد خلت من أي شرطة، بعد أن تشظى الجيش
وانقسم، وصار جيوشا تحارب بعضها، وانتشر المفسدون، والفساق والشطَّار، وأظهروا الغلظة،
وقطعوا الطريق، ونهبوا الأسواق، وساقوا النساء سبايا، وأخذوا الغلمان علانية من أحضان
أمهاتهم، وفرضوا الإتاوات قهراً.. ولم يكن أحد ليمنعهم!
رأى الناس شدة البلاء، من نهب وسلب
وتقتيل، وضعف السلطان عن حمايتهم.. فقام صُلَحاء كل محلة، فمشى بعضهم إلى بعض،
واتفقوا على مقاتلة هؤلاء الفساق، ولم يكن الأمر سهلا عليهم، فبعض من قاموا على
نية الإصلاح، صاروا أشد فسادا ممن خرجوا لمقاتلتهم..
كل ذلك والمأمون في مرو لا يصل إليه
شيئا عن أحوال بغداد، وما يجري فيها من ذبح وسلب ونهب، وأخيراً، لما وصلته الأخبار
على حقيقتها، ويقال إن الذي أبلغه بها ولي عهده علي الرضا، فأعلمه بما فيه الناس
من فتنة وبلاء وسوء حال، وأن الفضل بن سهل يغشّه، ويحجب عنه الأخبار، وأنه من كاد لهرثمة،
وأمر بقتله. فغضب المأمون، وأمر الجيش بالتحرك نحو بغداد، وفي الطريق قتل الفضل بن
سهل، وعند النهروان، خرج إليه أهل بيته والقواد فسلموا عليه، ووافاه طاهر بن
الحسين.
(14)
وقع انفجار آخر في حي المأمون، قرب
نفق الشرطة، تناثرت الدماء والأشلاء وزجاج السيارات في كل الاتجاهات، وكما حدث في
الانفجار السابق، هرب كل من هو بالمكان، وامتنعت سيارات الشرطة والإسعاف عن
التدخل، وتُرك الجرحى ينزفون آخر أحلامهم، وفاحت رائحة الجثث والدماء، فأتي أبو
الكلاب يهرول وقطيع كلابه يركض وراءه وأمامه، وقد جذبتهم رائحة الموت، أحاطت كل
مجموعة من الكلاب جثة، لم تكن في حاجة لتشم الأجساد الممزقة، فبدأت تنهشها، وهي
تهمهم بغضب، وصاحبها يفتش جيوب الموتى، ويملأ جرابه بما يعثر عليه..
(15)
بعد عام من الحصار، سقطت الأسوار، وانهار من تبقى فيها
من جوعى، دخل جيش المأمون بغداد، فقتلوا كل من بطريقهم، حتى وصلوا قصر الخليفة الأمين،
فأعدموه، ثم قتلوا الفضل بن الربيع، ثم قتلوا حراس القصر، ثم انتشروا في الأسواق،
ونهبوها، وظلوا على هذا الحال أياما ثلاثة، حتى دانت لهم بغداد، والعراق كله، وبايع
الناس المأمون من جديد، وصار الخليفة الأوحد، بيد أنه عاد يحكم من خراسان.
(16)
اعتاد الناس على رؤية
"عزيز" بعد كل انفجار، لم يعرفوا اسمه، كان يأتي متبخترا هادئا، مطمئنا
بأن أحدا لن يطلق عليه النار من سطح عمارة ما، ولن ينهره أحد من شرفة تطل على
الموت، كل ما فعله الأهالي أنهم أطلقوا عليه اسم "أبو الكلاب"، وأخذوا
يتناقلون أخباره.. وبعد أن كان بكلبين من سلالة معروفة، صار يتبنى كلاب الشوارع،
وأخذ قطيعه ينمو ويكبر، صاروا سبعة، ثم عشرين، ثم خمسين.. فأقام لهم نزلا في بيت
مهجور استولى عليه.. وبعد أن ضاق بهم البيت، اتخذ لكلابه مزرعة عند أقصى حدود
المدينة، فقد صار له جيشا من الكلاب يربو على الألفين.. ثم ضم إليه مساعدين، دربهم
على سوق الكلاب، وكيفية إخضاعها، وصار يرسلهم في مجموعات، بعد أن يسمع الأخبار،
ويعرف مواقع الانفجارات، يعطيهم بعض ما سلبوا، ويستأثر لنفسه بالباقي..
(17)
وصل جيش
المأمون أطراف بغداد، وهناك أقاموا معسكراتهم، وفرضوا حصارا مطبقا على المدينة،
منعوا كل سائر على قدميه أو راكبا دابته من الدخول أو الخروج، ثم أرسل القوادُ
طلائع المستكشفين لتقصي الأخبار، فاقتحموا البيوت عند التخوم، وكانوا إذا لم
يتلقوا إجابات شافية من ساكنيها يسومونهم سوء العذاب، ويستولون على ممتلكاتهم.. في
هذه الأثناء كان جيش الأمين متحصنا في ثكناته، متأهبا لمعركة فاصلة، وكلما قربت
مؤونتهم على النفاذ أخذوا حاجتهم من البيوت المجاورة.. وعندما تنفذ يذهبون إلى
البيوت الأبعد.. وذات مرة، دخلوا بيتا يسألون الطعام، فقال لهم رب البيت: كنا نسرق
من جيراننا بيض الدجاج، ونبقي لهم بيضة أو بيضتين، ثم صرنا نأخذ كل البيض، ثم
أكلنا الدجاجات نفسها، ثم سطونا على البيت، ولما دخلناه، وجدنا كومة عظام هشة
يكسوها جلد رقيق، وقد مات صاحبها من يومين..
هكذا كان
حال بغداد وهي تئن تحت الحصار، جموع من الجوعى تقاتل بعضها، لم يعد فيها مواطنون
وسلاب، صاروا كلهم سلابا.. حتى الكلاب لم تعد تجد ما يقيم أودها.. صارت بغداد مثل بقرة
شاحبة هزيلة، وتكاد تموت جوعا، ومع ذلك، هناك إصرار على حلبها.. في تلك المحنة،
شوهد أبو الكلاب وهو يفجر سيارة مركونة في أول شارع الخلفاء، قرب سوق الشورجة، وبعدها
أطلق كلابه لتلتهم الجثث.
ومع كل ذلك،
كان خطيب الجمعة يحث المصلين على الصبر، ويدعوهم لنصرة الخليفة.. لكنهم كانوا
منقسمين، بعضهم يؤيد الأمين، ويدعو له بالثبات، وبعضهم يؤيد المأمون ويدعو له
بالنصر.. وأكثرهم يكتم رأيه، فلا تعلم في أي صف هم.. ولكل جماعة خطباؤها
وفقهاؤها..
(18)
وقفت سندس
على شرفتها، كان الوقت عصرا، والشمس توشك أن تغيب، وكان أبو الكلاب وقطيعه منهمكون
في سلب الجثث وتقطيعها، أحست بالتقزز، وتقيأت كل ما في جوفها، ثم أسندت ظهرها إلى
الحائط، تراودها الأوهام والتخيلات؛ أحسُّ أني كنت هنا ذات يوم، أعرف هذه الساحة
جيدا، أعشقها كثيرا، كنت ألعب هنا قبل زمن قريب، لم تكن بهذه البشاعة، ولكن ما
الذي يؤكد هذا الشعور؟ فقد يكون مجرد وهم؟ قالت في نفسها، ثم أزاحت وجهها عن بشاعة
المنظر، وأخذت تتخيله من جديد، وتعيد ترتيبه كما كان، الأمكنة نفسها، ولكن من
زاوية أخرى، هناك تماما في ظل النخلات، كنت أركض وألعب بجنون، في شتاءات دافئة
بعيدة، ولكنها حرة.. سمعت صوت العصافير وهي
تزقزق على سعف النخيل، ثم أغمضت عينيها، وأطلقت حزمة من أحلامها.. لكن أبو الكلاب
كان قد لمحها، فأطلق صلية من رشاشه نحوها، لم تصبها مباشرة، فرجعت للوراء مترنحة
مذعورة، تفقدت جسمها، لم تعثر على أي ثقب، لكنها سمعت صوت العصافير وهي تهوي جثة
هامدة، ومعها كل حطام تخيلاتها وأحلامها.. كان صوت ارتطامها بالإسفلت جليا مرعبا.
خبأت سندس
رأسها بين ضلوع حنينها القديم، ضغطت يدها برفق على جرح غائر في أسفل خاصرتها، هرعت
إلى سريرها كي لا تسمع كل هذه الضجة من حولها، وقد أدركت أنها ستحيا لسنوات طويلة،
وأنها سترى الكثير الكثير، وستختبر كل عجيب، وأن ما رأته عصر اليوم، إنما هو جزء
صغير مما حدث لها ولمدينتها، بل هو جزء بسيط من ذاكرة البلد، ومن حاضره وماضيه.. ثم
رأت سحابة بيضاء خفيفة، تقترب منها رويدا رويدا، وتزداد كثافتها شيئا فشيئا..
فأدركت أنها ستمطر مطرا غزيرا، وأن أمطارها ستغسل الدماء عن الأرصفة.. وستترك المدينة
أحقادها مع قطرات الـمطر الأولى، ستصحو على صوت الـماء، وهو يغسل أرواح القتلى، لتصعد
بها إلى السماء، وسيسكن غضبها مع حفيف الريح وهو يهب على سعف النخيل، وستطرد رائحةُ المطر الكلابَ عن الحي، وعن
الأحياء المجاورة.. ومرة ثانية، سألت نفسها: من يؤكد لي أن هذه الغيمة ليست سوى
وهم من أوهامي الكثيرة.. وأنها ليست مجرد حلم..
(19)
دخلت طلائع جيش المأمون أطراف بغداد،
وشاع في الناس أنهم سيقتلون كل من يعترضهم، فدب الذعر في قلوبهم، خرجوا من بيوتهم
في طريقهم نحو الشرق، لملاقاة جيش المأمون بالرايات البيض، وكلما اقتربوا حثوا
المسير، وصاروا يهرولون، وينوحون بصوت جماعي.. كانوا يتقافزون مثل الواويات التي
أكل الذئب جراءها، ففقدت ثقتها بكل جحور الأرض، لم يكن أمامهم من خيار سوى مواصلة
الهروب.. وقف في طريقهم الجند ورجال الشرطة، حاولوا ثنيهم عن المسير، ضربوهم
بالعصي، صرخوا في وجوههم كي يتراجعوا، لكنهم ظلوا يسيرون، انهال الجند ورجال
الشرطة على صفوفهم المتقدمة بالسيوف، قتلوا منهم رهطا، فتراجع بعضهم خائفين، ثم
واصلت الجموع الأمامية تقدمها بفعل ضغط المتجمعين خلفهم.. في المنتصف وقع أطفال
وشيوخ، سُحقوا تحت الأقدام.. كانت الشرطة تلوح بسيوفها، فيظهر انعكاس الشمس على
أنصالها للجمع المتأخر.. لكن سيل البشر واصل زحفه، حتى تلاصقت الأجساد، وداس بعضهم
على بعض، وقد أدرك كل منهم أن هذا آخر يوم له في الحياة..
وجدت الشرطة نفسها بين حجري
الرحى: جموع الخائفين من الأمام، وجيش المأمون من الخلف، فلم يجدوا بداً من مواجهة
الجيش، فالتحم الجيشان، وجها لوجه.. فوقعت مقتلة فظيعة، وقبل مغيب الشمس، كانت
الغلبة لجيش المأمون، لكن الجثث كانت تملأ الشوارع والأزقة والساحات، ورائحة الدم،
وروائح الـماء الآسن في البرك الموحلة تغطي سماء المدينة..
وصل الجيش ومن انضم إليهم قصر
الأمين، يهللون ويكبرون، ويحمدون الله على نصره المبين.
أما أبو الكلاب وقطعانه، فكانوا
ينتظرون مغيب الشمس ليبدأوا حفلة عشائهم الدسمة..
(20)
لم تبقَ
محلة، ولا شارع ولا زقاق، إلا وزارها أبو الكلاب وقطيعه، وبعد أن صار له معاونين
وعمّال، عرف الأهالي بعضا منهم، وبعد فترة وجيزة عرفوا أبو الكلاب شخصيا، عرفوا
اسمه، وعنوانه، وشاهدوا وجهه الحقيقي، نفس الطول، ولكن كان قد برز له كرش ضخم..
وبدلا من مهاجمته، صاروا يحجون إلى بيته، وإلى بيوت أعوانه، ويقدمون له ولهم
الهدايا والأعطيات.. من قُتل قريب له في تفجير، هرع إلى بيت أبو الكلاب يرجوه أن
يسمح له بدفنه، أن يأخذ جثمانه قبل أن تلتهمه الكلاب، "أتوسل إليك يا سيدي
دعني أدفن ابني بسلام، خذ مني ما تريد"، "أرجو سماحتك أن تمهلنا ساعتين،
لنأخذ موتانا قبل أن تتشوه معالمهم"..
لم يتوقف
الأمر عند أهالي القتلى، طلب منه قائد شرطة المنصور أن يستأجر بعض كلابه، لمكافحة
عصابة دأبت على مهاجمة المغفر، وطلب منه أحد كبار التجار أن يرسل كلابه إلى مخازن
تاجر آخر، لقاء مائة ألف دولار، وآخر نفحه بألفي دولار نقدا على أن يجعل كلابه
تلتهم جاره..
لم يكن أبو
الكلاب طائفيا؛ فلا فرق لديه بين سُـنّـي وشيعي، أو بين مسيحي ومسلم.. المهم ما
بجيوبهم.. وحتى كلابه لم تكن طائفية، ما يهمها رائحة الدم، وطعم اللحم الآدمي
الطازج.. ومع ذلك، استخدمته كل الطوائف ضد
بعضها البعض، وحجَّ إليه كل أمراء الحرب، وطلبَ وده كل أثرياء البلد، ونهابها،
ولصوصها..
لم يعد أبو
الكلاب يرضى بالمكافآت الصغيرة، صار يطلب الملايين، ولا يتردد عن طرد صغار
الزبائن، بل إنه كان أحيانا يطعمهم لكلابه.. وكلابه، لم تعد تثيرها لحوم الضأن
والماعز، صارت لا تشبع إلا من لحوم البشر..
رئيس
الحكومة يشاوره بشأن تشكيلته الوزارية، والكتل البرلمانية تتسابق على نيل رضاه،
وكبار المقاولين يغدقون عليه الهدايا والرشاوى، وبعض خطباء الجوامع أفتوا بحرمة
قتل الكلاب، أو وضع السم في طريقها..
مرَّ شهران
كاملان ولم يحدث أي تفجير في بغداد، بدأ أبو الكلاب يشعر بالقلق، فمن أين سيطعم
كلابه.. أمر معاونيه بتفجير بعض الأماكن المزدحمة، لكن عدد الضحايا لم يعد يكفي
جيش الكلاب.. جاعت الكلاب، ونحفت، وصارت أكثر شراسة.. أخذت تنبح وتعوي، وقد أصابها
الجنون.. وعندما دخل عليها أبو الكلاب، لم تتردد عن مهاجمته، تجمعت عليه، ونهشت
رأسه أول الأمر، وأبقت على عينيه تلمعان بالفزع والدهشة، ثم التهمت باقي جسده، ولم
تبقِ منه سوى البصطار..
تقاتل
معاونو أبو الكلاب على تركته، فاتفقوا أن يأخذ كل واحد منهم نصيبه من الكلاب، ويرحل
إلى منطقته.. منهم من استقر في الأعظمية، ومنهم من سكن الكاظمية، وآخر في حي
الأمين، وآخر في الكرادة.. ثم ظهر آخرون في البصرة، وفي الموصل، وفي الأنبار،
وبعقوبة.. ثم ظهر غيرهم في الرقة، وفي إدلب، وفي صنعاء، وطرابلس، والرياض،
وسيناء.. وصلوا حتى صعيد مصر..
(21)
أسبوع واحد، كان كل شيء قد انتهى
تقريبا، أمر الخليفة أن تدفن الجثث في قبور جماعية، وأن يُصلّى على القتلى من
الطرفين، وتعاون الأهالي على تكنيس الشوارع من الأشلاء، وشطف الأرصفة من بقايا
الدماء والبراز.. وفتحت المحال أبوابها، وأعاد التجار ترتيب ما تبقى من بضائع
متهالكة، وأصلح من استطاع بيته، ومن لم يستطع لجأ إلى أقربائه، وأخذت الأمور تهدأ
بالتدريج، وأحوال الناس تتحسن رويداً رويدا.. وفي غضون أشهر قليلة، كانت الأسواق
قد عادت مزدهرة كسابق عهدها، وبدأ الناس يتناسون جراحهم وثاراتهم.. وكأنَّ بغداد
عادت إلى عصر الرشيد، بكل ألقها ونضارتها..
وكان علماء الكلام، وأصحاب
المذاهب المخالفة لما عليه عامة الناس لا يجرؤون على إظهار آرائهم، فلما جاء
المأمون أفسح لهم المجال، بل وشجعهم على ترجمة كتب اليونان، وكان يجمع إليه
المتكلمين والفقهاء وأهل الحديث، ويجعل لهم مجالس مناظرة.. وفي عهده ظهرت
الخرَّمية؛ فرقة تدين بما تريد وتشتهي، ولقبوا بذلك لإباحتهم ما حرم الفقهاء من
الخمر وسائر الملذات، وداعيها بابك الخرمي، يُقال إنه كان يقطع الطرق، ويفسد في
الأرض، وقد انتصر بابك على جيوش المأمون في بعض المواقع، وظل كذلك، حتى قضى عليه المعتصم.
(22)
خرجت زينب من بيتها، على محياها
ابتسامتها العذبة، وعلى كتفيها طمأنينتها الجريحة، ثم تبعتها سندس تجر حطام
أحلامها، وفي طريقهما انضمت إليهما بعض الصبايا بأمانيهن الكسيرة، حتى وصلوا ميدان
التحرير، هناك التحق بهن عدد كبير من الشبان، وأخذت الجموع الغفيرة تتزايد، وتتجه
صوب المنطقة الخضراء، وهي تهدر بصوت واحد.. وهناك كانت الكلاب بانتظارهم..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق