أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

أبريل 27، 2019

مشاعر جماعية - الحج



في صيف العام 1988، حظينا (أنا ومعاوية) بفرصة زيارة "العتبات المقدسة" في كربلاء، وتحديدا في يوم "عاشوراء".. بتنا تلك الليلة في بيت صديق عراقي، في "طويريج"، لنتمكن من الوصول إلى كربلاء في الصباح الباكر، أي قبل ازدحام الطرقات بأفواج الحجيج.. لم تكن في ذهني صورة واضحة عمّا سيكون عليه الوضع في اليوم التالي، حدثنا صديقنا "رضا" عما سنراه في الغداة، لكني لم أقدّر الأمر حق قدره.. قال لنا غدا ستبكون حزنا وخشوعا، رغم أنكم "سُـنّـة".. قلت له هذا لن يحدث أبدا، ليس هناك أي سبب يدفعني للبكاء، وأنا أصلا غير مؤمن بهذه الطقوس الدينية.. قال سنرى..

ولما كان الغد، انطلقنا مبكرين.. المسافة تحتاج ساعة أو أكثر في السيارة، أثناء الطريق شاهدنا ألوفا من الحجيج، رجالا ونساء، من كل الأعمار، أتوا مشيا على الأقدام، في عز لهيب الحـر، كان تموزا قائظا.. ومع ذلك، ومع توفر المواصلات العامة، إلا أن الكثيرين اختاروا المشي والتعب والحـر.. منهم من بدأ المشي قبل شهر كامل..

وصلنا قبيل الظهيرة، تجولنا في شوارع المدينة المقدسة، في هذا اليوم العظيم، يمكنك دخول أي بيت، ستجد وجبتك جاهزة بكل كرم وترحاب، سيقدمون لك أكلة شعبية تسمى "قيمة"، العشرات يوزعون المياه والمرطبات مجانا، الناس تصطف على أرصفة الشوارع، والنسوة على الشرفات، وفوق الأسطح، والحشود تزداد تباعا، وبسرعة رهيبة.. كان نظام صدام حينها يضع الكثير من الحواجز، ورجال الأمن، لضبط الأمور، وحتى لا تقع قلاقل أمنية، ولمنع بعض المظاهر والطقوس، مثل التطبير (ضرب الشخص لنفسه بالجنازير والساكاكين..) رغم ذلك، قبل صلاة الظهر، كانت المدينة قد استقبلت ملايين الأشخاص فوق سكانها الأصليين.. (يتجاوز العدد حاليا 20 مليون).

في الشارع الرئيس المؤدي إلى المرقد المقدس، تركزت الكتلة البشرية الضخمة، الملايين محصورين في منطقة واحدة، وجميعهم يهتفون بصوت واحد: "يا حسين"، على وقع أصوات ضربات الأيدي وهي تهوي على الصدور، بكل خشوع، وبتناغم مدهش، وحزن غريب؛ حزن دفين يخرج فجأة وتنتقل عدواه بلا توقف.. موسيقى بشرية حزينة، لا يقطعها سوى بكاء النسوة، ونحيب الشيوخ، ودموع حبيسة، تذرفها أعين الشبان..

بدأنا نقترب من ساعة الذروة، حين تصطف الجموع المحتشدة، وتبدأ بالهرولة (الركضة) فتدخل الصحن الشريف، وتقف قبالة ضريح الحسين، وهناك يعلو النحيب والبكاء.. وتهيج الجموع، وتبدأ حالة هستيرية تستولي على الجميع..

في تلك الساعة، كان قد مضى نصف النهار، وكنتُ أقف وسط الجموع، بكل ارتباك، وقد أخذت تستولي عليَّ مشاعر فياضة، من الرهبة والخشوع، وحزن غامض، ورغبة جامحة في البكاء.. أينما أولي وجهي، أجد عيونا دامعة، منكسرة، ولا أسمع سوى البكاء والعويل، وزغاريد النسوة التي تقطر أسى وحسرة.. فسيطرت عليَّ طاقة سلبية رهيبة، وجدت نفسي مجرد نقطة في بحر هائج.. أحسست أني شخصيا مسؤول عن مقتل الحسين، وأن دمه على يدي، وعليّ أن أندم، بكيتُ كما لم أبكِ من قبل.. امتلأتُ بمشاعر السخط والغضب والكراهية على من قتلوه.. حينها بالضبط، كنتُ جاهزا لتقبل أي فكرة، ولتصديق أي قصة يرويها لنا من يبكون مقتل الحسين، ومن يسردون قصة كربلاء بألحان ممزوجة بالحزن والأسى..

في بداية الثمانينات، كان كلٌ من نادي الوحدات والرمثا قطبي الدوري الأردني.. وفي ذروة البطولة، كان مقررا أن تقام مباراة حاسمة، في ذلك الوقت، كان كل أصدقائي يشجعون الوحدات، وقررنا مشاهدة المباراة في الملعب.. وصلنا إستاد الحسين، تدبر أصدقائي مسألة دخول الستاد دون تذاكر، بعضهم تسلق السور، وبعضهم تحايل على الحراس، أما أنا فوجدت نفسي وحيدا، توجهت إلى شباك التذاكر، ودخلت إلى منطقة الدرجة الأولى.. ولم أكن أعلم أنها المنطقة المخصصة لمشجعي الرمثا، حيث كان مشجعو الوحدات في الدرجتين الثانية والثالثة.. بدأت المباراة، وكانت المرة الأولى في حياتي التي أشاهد فيها مباراة حقيقية مباشرة.. بعد مدة قصيرة سجل الوحدات الهدف الأول، وبشكل تلقائي قفزتُ مصفقا فرحاً.. كنتُ وحدي من فعل ذلك، بين جموع غاضبة، الكل يحملق بي، ولسانهم يقول: من هذا الأهبل؟ كيف يتجرأ على استفزازنا؟ أدركت على الفور أني في المكان الخطأ، وأنَّ صغر سني هو من شفع لي، وجنبني "علقة ساخنة"، لذا، عليّ أن أكتم مشاعري، وأن أتظاهر بأني رمثاوي.. وفي حقيقة الأمر، كان لهتافات الجمهور وحماسهم مفعول السحر، صرت أتفاعل معهم دون وعي، سجّل الرمثا هدف التعادل، فقفزت فرحا مع القافزين، ثم جاء الهدف الثاني، كنت سعيدا بالفعل بفوز الرمثا، وطوال الوقت وعيناي تتابعان اللاعبين بالزي الأبيض، وقد تحولت تدريجيا من وحداتي إلى رمثاوي..

حدثني أحد الأصدقاء عن رحلته للحج، وهو غير متدين، ولم يكن له أن يزور الديار المقدسة لولا أنه اضطر لذلك، حيث ذهب مرافقا لأمّه المسنّة.. يصف رحلته بمشاعر مختلطة بين الرفض والانبهار، بين الإنكار والخضوع.. يقول إنه كان سابقا لا يعجبه منظر الحجيج، ولا يحب أصوات ابتهالاتهم.. بيد أنه بمجرد أن دخل الصحن الشريف، حتى أبهره منظر الكعبة، وقف قبالها بكل خشوع، وعندما بدأت أصوات ملايين الحجيج تلهج بالدعاء والتراتيل، سرت في بدنه قشعريرة لذيذة، وصار يردد معهم بعيون دامعة: لبيك اللهم لبيك.. وعند الحجر الأسود، انتظر طويلا ليقبله، هاله منظر الحجيج وهو يبكون أمامه، ويتبركون بلمسه.. يصف كيف انهال حاج إفريقي على الحجر لثما وتقبيلا، وهو يتمتم بكلمات غير مفهومة، ثم بدأ بالصراخ الهستيري حتى خـرَّ مغشيا عليه..  

مثل هذه القصص (وهي مجرد أمثلة) تعطينا فكرة عما تفعله الحشود، كيف ينسى الفرد نفسه، ويتخلى عن استقلالية فكره، حين تبتلع الدهماء شخصيته، وتمحقها، وينساق معها طائعا.. وكيف يستغل رجال الدين مشاعر البسطاء والفقراء، فيهيجونهم بالاتجاهات التي يريدونها.. خاصة الشحن الطائفي، وتسويق الأيديولوجيات، وتبرير المواقف السياسية للسلطة الحاكمة..

هذا يحدث مع جميع الأديان، فموسم الحج عند الهندوس مثلا، ويدعى "كومبه ميلا" يعتبر أكبر تجمع بشري في العالم، حيث يتوافد عشرات الملايين لغسل ذنوبهم في نهر "الغانج". ولدى البوذية موسم حج، يرتحل إليه الرهبان والنساك زحفا على بطونهم لمئات الأميال.. وتتكرر الصورة في ساحة الفاتيكان، حيث يستمع ملايين الكاثوليك لعظة قداسة البابا.. في تلك المواسم الدينية، وبفعل الروح الجماعية، يشعر المؤمن بفيض من السعادة، والسكينة والطمأنينة، ويقتنع بأن خياره هو الصواب الحقيقي، بالذات حين يرى الملايين يؤمنون بما يؤمن، ويفعلون ما يفعل.. فيدرك أنه مع الجماعة الصحيحة..



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق