أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

يناير 05، 2019

في الطريق إلى هوكايدو



(1)
هناك في هوكايدو، لا عمارات شاهقة، ولا طرق مزدحمة، ولا ضجيج سيارات.. الشوارع شبه خالية من المارة، والصمت سيد المكان.. المدن صغيرة، ومتباعدة، تربطها طرق جميلة تحفها الأشجار عن جانبيها، حيث لا تتنشق دخان المصانع.. البيوت أنيقة، يغلفها السكون، حتى الناس هناك أهدأ بالًا، وبالكاد يحتكون ببعضهم البعض..
صحيح أن بردها قارص، ويكسوها الثلج شهور عدة.. لكنها جنة اليابان.. إرحل إلى هوكايدو.. لتعش بأمن وسلام، في أحضان الطبيعة البكر.. وعش ما تبقى من أيامك دون أسئلة.. في واحة اليقين..

(2)
على بعد ميلين، إلى الشرق من الشارع العام بين مدينتي "أكيتا" على الساحل الغربي لبحر اليابان، ومدينة "أوموري" الرابضة بهدوء على البحر المؤدي إلى جزيرة هوكايدو في أقصى الشمال، وفي كوخ قديم مهجور، عند مدخل غابة القيقب، عثرت الشرطة على جثة شبه متحللة لشخص مجهول..
كان يمكن لمثل هذا الحدث أن يمر سريعا، دون أي ضجة إعلامية، بيد أن هذه الجثة بالذات أثارت ريبتهم..
كانت عبارة عن هيكل عظمي يكسوه جلد متشقق، ممددة فوق أريكة متآكلة، فوق العينين الغائرتين نظارة طبية، واليدين النحيفتين تمسكان كتابا قديما عنوانه "أسرار الطبيعة"، وهو مترجم عن الأدب الصيني لمؤلف غير معروف.. لم تكن على الجثة آثار دماء أو عنف، أو ما يشير إلى أن الوفاة كانت انتحارا.. ومع ذلك، تظل الأسئلة المحيرة: هل مات صاحبها مقتولا بطريقة خفية؟ كيف يموت شخص بهذه السهولة، وبين يديه كتابا؟ من هو هذا الشخص؟ لا بد أن أهله يبحثون عنه بحسرة وخوف..
سأل الضابط المسؤول الشابين اللذين بلّغا عن الحادثة كل الأسئلة التقليدية، وحقق معهما لساعة أو أكثر، حتى تيقن أنَّ لا علاقة لهما بموت هذا الشخص المجهول، فأطلق سراحهما، بعد أن دوَّن عناوين إقامتهما وأرقام هواتفهما..
فتش أفراد الدورية كل أجزاء الكوخ ومحيطه، بحثا عن بصمات، أو ما يفسر ظروف وملابسات الوفاة، أو ما يشير إلى هوية الميت، دون أن يعثروا على شيء محدد ينهي حيرتهم، ويفك لغز الوفاة الغامض..
حسنا، طوله 172 سم، ووزنه التقريبي 60 كغم، يمكن القول أنَّ شهرين أو ثلاثة هي الفترة المتوقعة لحدوث الوفاة.. هذا ما قاله الطبيب الشرعي، الذي أمر بوضع الجثمان داخل كيس جلدي أسود، وتحميله إلى معهد الطب العدلي بطوكيو، لتشريحه هناك، ورسْـم صورة تقريبية للمتوفى عبر الحاسوب، لنشرها في الصحف المحلية، لعل أهله يتعرفون عليه، ويدفنوه بطريقة محترمة..
(3)
في اليابان، تعثر الشرطة أسبوعيا على عشرات الجثث لمنتحرين، تجدهم على أطراف الغابة، أو على قارعة الطريق، وداخل الشقق.. وفي الغالب يترك هؤلاء وصية ما، أو رسالة غاضبة، أو ما يدل على وصولهم حافة اليأس، أو على الأقل يتركون هوياتهم الشخصية.. وحتى من تنقضي آجالهم بحوادث سير، أو بجرائم قتل، تتعرف عليهم الشرطة بقليل من الجهد؛ ففي اليابان لا يُسمح باقتناء أي سلاح ناري، لذلك حوادث القتل تتم بالسكين، أو بحبل، أو بطرق أخرى بدائية.. وغالبا، بموت هؤلاء، تموت حكاياتهم، وينساهم الناس سريعا.. إلا صاحبنا هذا؛ فقد شغل موته اليابان بأسرها، ولوقت طويل، وحيكت حوله عشرات القصص والروايات.. حتى بعد أن تم التعرف على هويته الحقيقية..
(4)
"يامازاكي"، صحفي شاب، طموح، يعمل في مجلة مصورة، تهتم بالأخبار الاجتماعية، مقرها في "يوكوهاما"، أثارت صورة المتوفى المحوسبة، التي نشرتها الشرطة في الصفحات الداخلية في ثلاث جرائد محلية، أثارت انتباهه، فدفعه فضوله ليقرأ تفاصيل الخبر.. لكنه لم يجد سوى معلومات مقتضبة، ومناشدة لمن يتعرف عليه الاتصال بالشرطة..
توجه "يامازاكي" لمركز الشرطة، وفي ذهنه صورة متخلية لقصة صحافية مثيرة، ستكون خبطة الموسم الإعلامية، مع مشهد درامي مصور لأم الميت، وهي تحتضن جثمان ولدها بدموع سخية، ولأبيه المكلوم، وهو يدفنه بوقار..
أعطته الشرطة عنوان الكوخ الذي عثرت فيه على الجثة، وسمحت له بتصوير نسخة عن محضر التحقيق، وتقرير الطبيب الشرعي، ونسخة عن الكتب والوثائق التي وجدوها بحوزته، وأهمها دفتر متوسط الحجم كان يدون عليه مذكراته.. بالطبع بعد أن تأكد لمحققي الشرطة أن هذه الوثائق ليس فيها ما يثير الريبة، أو يستدعي التكتم والسرية.. بل إن هذا الإجراء من الممكن أن يساعد في التعرف على الميت..
لم يتأخر "يامازاكي" عن الشروع في إعداد قصته الصحافية؛ إذ نشر على موقع المجلة الإلكتروني، وعلى صفحته على فيسبوك صورة المتوفى المجهول، ومناشدة لمن يتعرف عليه بأن يتواصل معه.
وجلس ينتظر الردود..
فيما، ظل الجثمان يرتجف بردا في ثلاجة الموتى، بانتظار من سيدفنه..
(5)
 أكثر ما توقعه "يامازاكي"، أن يأتي أحدهم، على الأغلب أحد أقارب المتوفى، ويقول هذا فلان، ثم يبلغ أهله، ويصورهم في مشهد الوداع الأخير، ويسرد حكايتهم في بضعة سطور، وينتهي الأمر.. إلا أن الأيام والأسابيع التالية ستفتح عليه سيلا من الحكايات، بما فاق كل توقعاته..
في أول يومين، تداول عدد لا بأس به من الناس صورة المتوفى المجهول، وأخذوا يشاركون نشرها على صفحاتهم، على الأغلب لدوافع إنسانية، ومع اتساع دوائر المشاركات، أخذت قصته بالانتشار، وبدأت الناس تكتب تعليقات متنوعة، منهم من يطلب السلام لروحه، ومنهم من ادعى أنه رآه ذات يوم، ولكنه لا يعرف اسمه..
في اليوم الرابع، كتب أحدهم تعليقا تحت صورة المرحوم، مما جاء فيه:
"أنا أعرف هذا الشخص، أذكره جيدا، اسمه "يوسوكي"، كنت أراه يوميا في القطار القادم من كوبيه صباحا، في طريقه إلى أوساكا، والعائد منها مساء حتى محطة جسر أكاشي.. لا أعرف أين يسكن، لكني مثل كل الركاب المعتادين على التنقل في هذه الأوقات، نعرفه جيدا، كان مسافرا مثلنا، لا نعلم بعد أن ينزل من القطار إلى أين يذهب، وماذا يشتغل!؟ لكنه كان أثناء مسير القطار، وخاصة في رحلة العودة التي تستغرق نحو ساعتين، يعمل على إيقاظ الركاب النائمين، فأي شخص يريد أن ينام قليلا، يخبره اسم المحطة التي سينزل فيها، وقبل المحطة بدقيقتين يوقظه، كان يشفق عليهم، يحس بتعبهم بعد يوم طويل وشاق، وكان يعلم أنه في كثير من الأحيان، يصحو راكب ما عند آخر محطة، فيضطر للعودة، وبالتالي سيواجه مزيدا من التأخير، ومزيدا من التعب.. كان هذا قبل سنوات عدة، لكنه انقطع فجأة، ولم نعد نراه، أنا شخصيا فقدت الإحساس بالأمان، ولم أعد أنام في القطار، وربما يشاركني الرأي من اعتادوا النوم في ذلك القطار..".
تضاربت مشاعر "يامازاكي" إزاء هذه القصة، فقد شعر بفرحة خفية من اهتمام الناس بالموضوع، وأحس بالإثارة لكونه أمسك طرف الخيط، بعد أن عرف اسم المتوفى، لكنه شعر بالحزن على خسارة شاب طيب ونشيط، يحب مساعدة الناس..
نشر القصة كما وردته في المجلة، وعلى صفحته على فيسبوك، على أمل أن تنتشر أكثر، حتى تصل إلى أهله، فالمعلومات في القصة لا تفيد كثيرا في التعرف عليه، حتى اسم "يوسوكي" من الأسماء الشائعة جدا..
لكنها كانت فاتحة خير، على كل حال..
(6)
في اليوم الخامس، تلقى "يامازاكي" رسالة جديدة عبر بريده الإلكتروني، جاء فيها:
"أذكر هذا الشخص تماما، اسمه "يوشيرو"، كنا في مصنع فرعي متخصص بإنتاج الأبواب للثلاجات وأفران الغاز، يقع في منطقة ناغويا الصناعية، ويشتغل لحساب باناسونيك.. كنا نحو 40 عاملا فنيا، وكان أصغرنا تقريبا، اشتغل معنا ما يقارب الأربعة أو خمسة شهور فقط، وقد كان دائم التحريض على إدارة المصنع، طالب بزيادة الأجور، وبتخفيض ساعات العمل، إلا أن الإدارة تجاهلت طلباته كليا، فدعانا للإضراب.. طبعا كما تعرف هذا إجراء غريب عن الثقافة اليابانية، فلم نتعاون معه.. بعد أن يأس منا، ومن الإدارة لم يعد للعمل، حتى أنه غادر فجأة، دون أن يأخذ مستحقاته المالية..".
أثارت الرسالة حيرة "يامازاكي"، فقد ظهر اسم ثاني للمرحوم، ولا يمكن له الحسم أي الاسمين هو الصحيح! كما ظهرت له مهنة جديدة، وموقع آخر، يمكن التنبؤ أنه عاش بالقرب منه.. فبدأ بتجميع أجزاء اللغز، ووضع كل معلومة جديدة في مكانها مع ربطها بالبيانات الأخرى.. حتى تتقلص دائرة الاحتمالات.. ومن ناحية ثانية، جمهور المتابعين متعطشون لكل جديد يثري القصة، ويضيف إليها تفاصيل جديدة، ومزيدا من الغموض والتشويق.
لكن الأهم، أن "يامازاكي" بدأ يشعر بعلاقة حميمية خاصة تجاه المرحوم، وكأنه يعرفه منذ زمن بعيد.. ولم تعد القضية بالنسبة إليه مجرد سبق صحفي..
(7)
رسالة ثالثة تصل بريد "يامازاكي".. رسالة مطولة، مشحونة بالعواطف، سأختصرها قدر الإمكان:
"أنا "ياسكو إميديت"، صاحب الصورة اسمه "سوروكو"؛ وقد التقيت به قبل عشر سنين، أو أكثر، كان مغامرا جوالا، يحمل على ظهره حقيبة جلدية، كانت شبه فارغة حين التقيته أول مرة، وكان شديد النحول، ورائحته منتنة، وقد نال الإرهاق منه من طول المسير.. دعوته إلى منزل العائلة، تناول وجبة العشاء بنهم غير عادي، ثم استحم، وغط في سبات عميق فوق الأريكة..
في الصباح أقنعه والدي بأن يمكث عندنا في غرفة ملحقة بالمنزل، وأن يعمل معنا في حقول الشاي، فقد كنا نستعد حينها لمهرجان الشاي العالمي، الذي ستستضيفه مقاطعتنا "شيزوكا"..
كنا نعمل جنبا إلى جنب طيلة النهار.. علمته أصول قطف الشاي؛ "لتحقيق أحسن جودة ممكنة أقطف البرعم مع أعلى ورقتين، يجب قطف البراعم برفق مرة كل أسبوع، قبل أن تنمو الأوراق أكثر، ويصبح قطفها أكثر صعوبة".. يبتسم لي، ثم يمضي بتعبئة سلته على طريقته الخاصة..
في هذه المنطقة الساحرة، المطلة على جبل فوجي، أينما نظرت، سترى ودياناً وسفوحاً وتلالاً خضراء على مد البصر، تكسوها شجيرات الشاي المشذبة على شكل قالب حلوى، وهي تموج مع الرياح، فيصير صوتها موسيقى الطبيعة.. هذه المنطقة تنتج نحو نصف الشاي الأخضر لليابان..
أحبَّ سوروكو المنطقة، وأهلها، كما كان محبوبا من الجميع، وقد تطورت علاقتنا بشكل خاص، كنتُ أحدق في عينيه، فأهيم بهما، وأغيب عن الوجود، لونهما بلون البن المحروق، ضيقتان عند الأطراف، فيهما سحر أخّاذ، ونظرة تشعُّ بالطيبة.. يديه خشنة، لكنها تفيض حناناً.. صارحته بحبي له، وعرضت عليه الزواج، وأن يصبح فردا من عائلتنا.. كان ماهرا في التهرب، يجاملني بعبارات رقيقة، لكنه لم يفصح عن مشاعره..
في إحدى المرات، دار جدال بينه وبين رجال الدين في المعبد البوذي، فقد أخبرهم عن أفعى كوبرا سوداء ضخمة لمحها أكثر من مرة بالقرب من شجيرات الشاي، وعلى سور المعبد.. وأنه همّ بقتلها، لكنه جبن وتراجع.. فما كان منهم إلا أن وبخوه، وأخبروه أنها حية مقدسة، ولا تؤذ أحداً.. لم يصدقهم، بل تجرأ على الصراخ في وجوههم قائلاً: تخافون على مشاعر أفعى مقدسة، وهي في حقيقة الأمر أفعى سامة، ولا تفكرون بمشاعر العاملات اللواتي تتقطع ظهورهن وهن يحملن سلال الشاي ساعات طويلة!! 
كان دائما يصوب ناظريه نحو قمة فوجي، يتأملها لساعات طويلة.. "يقولون إنَّ منظر الشروق هناك نادر وفريد على مستوى العالم، لا بد أن أخوض التجربة، وربما أسكن الجبل.. سأنتظر انتهاء الموسم.."، بيد أنه لم ينتظره، اختفى حتى دون أن يودعنا.. كم أشتاق لهذا الوغد".
(8)
بعد تدفق الرسائل، وتشابك المعلومات لدرجة صار من الممكن نسج قصة واقعية تفسر الأحداث، وتبدد بعض الغموض.. قرر "يامازاكي" أن ينشر تباعا مقتطفات من مذكرات المرحوم، تلك التي صورها عن دفتر مذكراته..
"في كل صباح، أستيقظُ في تمام السادسة صباحا، أمارس حماقتي الفسيولوجية، ثم أغسل وجهي وافرك أسناني، وبذلك يكون قد انقضت ربع ساعة، وأتناول فطوري في عشر دقائق، ثم أرتدي نفس الملابس، وأمشي عشر دقائق حتى أصل محطة القطارات المركزية في "كانويا"، ينطلق القطار بنفس التوقيت، حتى يصل منطقة "كوماموتو" الصناعية بعد عشرين دقيقة، ندخل المصنع، ونأخذ مواقعنا دون أن نتحدث، يبدأ الدوام وينتهي بمواقيت بالغة الدقة، نحصل على استراحة غداء نصف ساعة، تبدأ الساعة الثانية عشر ظهرا، نتناول نفس الوجبة، وطوال الثماني ساعات من العمل، وأنا أقف وراء ماكينة صماء، تُخرج قطعة معدنية رقيقة شبه مستطيلة، أحملها، وأضعها في الجهة الثانية لنفس الماكينة، التي تتولى تثقيبها بمقاسات محددة سلفا، وهكذا.. أقوم بهذه العملية أربعمائة مرة يوميا، بنفس الآلية، دون توقف، لا أدري ما هي هذه القطعة، وأين ستذهب، ولا اسم الآلة التي أشتغل عليها، بالكاد أعرف اسم المصنع، وقد عرفت لاحقا أنه يعمل لصالح شركة ميتسوبيشي للسيارات..
بعد شهور قليلة، بدأت أنسى نفسي، صرت أحس أني مجرد قطعة من آلة، لها وظيفة محددة، جزء بسيط من خط إنتاج، محصور في نطاق معين.. بدأت أختنق.. أختنق..".
 (9)
في اليوم الثامن، تلقى "يامازاكي" رسالة جديدة، هذا نصها:
"أنا الدكتورة "هيلدا"، مديرة حديقة الأزهار الوطنية في جزيرة أواجي، أذكر هذا الشاب جيدا، وأظن أن اسمه "كينون"، وقد عمل متطوعا في الحديقة لشهرين، في البداية كان مبهورا بجمال الحديقة، وقد تمنى لو يعيش فيها طوال عمره، وكان دائما يقول: لا عجب أن حديقة أواجي هي الأجمل في العالم، فمن هذه الجزيرة خرج الإنسان الأول، حسب الأسطورة البوذية..
لكنه سرعان ما بدأ يتذمر من تنسيق الحديقة، ومن بشاعتها؛ مع أنّ الأزهار مرتبة بعناية فائقة، الشجيرات مشذبة كما لو أنها خرجت من بين يدي كوافير.. فأي غصن يخرج عن النمط ستقضم أطرافه بلا رحمة.. صار يعترض على طريقة التنسيق المبنية على مبدأ التناظر، والتشكيل وفق نسق محدد.. كان يحب أسلوب الجمال المتوحش البري، حيث يُسمح لأي نبتة أن تنمو كما يحلو لها..  
في النهاية فشل في إقناعنا بوجهة نظره، وأذكر آخر ما قلتُ له: إذا أردت الحرية والفوضى، أخرج إلى الغابة المتوحشة، حيث الطبيعة مجنونة، وكل شيء ينساب بلا ضوابط..
أظن أنه فرح بهذا الاقتراح؛ فلم أشاهده بعد ذلك اليوم".
(10)
أخذت معالم شخصية المرحوم تتضح شيئا فشيئا، رغم أنه في كل مرة يظهر له اسم جديد؛ فتعدد الأسماء إما بسبب تشوش الذاكرة؛ فمعظم من قدموا شهاداتهم قالوا إنهم التقوه قبل سنوات بعيدة، وإما أنهم يقصدون أشخاصا آخرين، لكنهم يتشابهون في سمات الشخصية العامة..
لكن ما يرجح أنه نفس الشخص، أن تصرفاته وخطواته في رحلته الغامضة تسير وفق نمط محدد، من الواضح أن خط المسير بدأ من أقصى الجنوب، وها هو يتجه بشكل مقصود نحو الشمال..  
(11)
"التقيت بصاحب الصورة قبل ثلاث سنوات، تحديدا على أطراف مدينة "نارا"، أوصلته بسيارتي، في طريقي إلى "كيوتو"، وقد نزل بالقرب من بحيرة "بيوا"، لا أذكر اسمه، لكني أذكر وجهه جيدا؛ أنفه دقيق، شعره طويل ينسدل على كتفيه، ملامحه لطيفة، يتكلم بصوت منخفض.. تحدثنا كثيرا، في مواضيع متنوعة، كان قلقا من شيء ما، يبحث عن شيء غير واضح، أخبرني أنه يكره المدينة، ويحب الطبيعة، والمشي في الأدغال، وأنه يجد نفسه حرا بين الجبال والوديان.. حين نزل من السيارة، نصحته أن يسلك جانب الطريق العام، فهو أكثر أمنا من الغابة، على الأقل لا يتيه، ولا يفقد اتجاهه، في الغابة وحوش ضارية، وثعابين وحشرات من كل نوع. ابتسم لي وهو ينحني بامتنان، ودعني بنظرات حائرة وبكلمات مقتضبة.. بقيتُ واقفا أرقبه نصف ساعة أو أكثر، إلى أن دخل الغابة، وأحسست حينها أنها ابتلعته بطريقة ما".
كتب "يامازاكي" تعليقه على هذه الرسالة: إذا فشل الياباني في عمله، أو زادت عليه ضغوطات الحياة، سيرغب في الانسحاب الاجتماعي والانعزال لفترات طويلة.. فهل كان المرحوم يعاني من متلازمة "هيكيوكوموري"؟! أو من ظاهرة ال"كاروشي"، التي قد تقود إلى الانتحار؟
(12)
بينما "يامازاكي" جالسٌ في مكتبه، يلملم أطراف القصة، دخل عليه رجل سبعيني، ألقى عليه تحية الصباح، تبادلا الانحناء لبعضهما، ثم اقترب منه وصافحه بحرارة، وبنظرات امتنان؛ أشكرك يا ابني على اهتمامك بهذه القصة، أشكرك من قلبي، فقد أرحتني من قلق فظيع، كاد يقتلني..
أشار إليه بالجلوس، وناوله كوب ماء، وقد أدرك أن هذا الشخص هو والد المرحوم.. وأنه سيجيب على كل التساؤلات المحيرة، وأنه أمام اللحظة الفارقة التي انتظرها بشغف..
أنا تاناكا، وصاحب الصورة هو ابني، واسمه يوداي، ويوداي تعني البطل العظيم.. هكذا بدأ الوالد بالحديث، بصوت متحشرج، ينم عن حزن عميق.. اعتدل في جلسته وتابع بصوت مكلوم:
نحن أصلا من بلدة كانويا، في أقصى الجنوب.. كنت شابا يافعا حين رزقت بطفل وسيم، أعمل حارسا في الميناء، كانت مناوبتي تبدأ في المساء وتنتهي صباحا، في حين كانت أمه معلمة.. وما أن بلغ الشهرين حتى أدخلناه في حضانة، لحسن حظ الأطفال اليوم، فإن الحكومة تمنح الأم إجازة أمومة سنة كاملة، والأب ثلاثة شهور.. هذا لم يكن متاحا في ذلك الزمن البعيد.. لذلك، وحتى بعد أن دخل المدرسة كنت لا أراه سوى دقائق قليلة كل يوم، وحتى أمه، كانت بعد المدرسة تشتغل في نادي صحي إلى ساعات المساء.. فنشأ الولد وحيدا..
يتنهد الوالد، وقد لمعت عينيه بدمعة ساخنة، يشرب ما تبقى من كوب الماء، ثم يواصل حديثه باضطراب، مرة يدين نفسه، ومرة يلقي اللوم على الظروف الصعبة، ومرة يبرر لنفسه، بأنّ ما كان يفعله إنما لتحسين وضع الأسرة..
كما تعلم يا بني، في هذه البلد، إذا لم تشتغل بكل جهدك، ستظل فقيرا، وربما تموت جوعا.. هذه كانت ظروفنا سابقا، وهي أحسن قليلا هذه الأيام، لكننا أدمنا على الشغل، لا نعرف الراحة، لا نجد وقتا للتأمل، ولا حتى للعائلة.. وبسبب ذلك ربما، ولأسباب أخرى لا أرغب بالإفصاح عنها الآن انتهت علاقتي بزوجتي، انفصلنا، ومضى كلٌ في طريقه.. وعاش يوداي متنقلا بين والديه، إلى أن أنهى الثانوية، بعدها رغب بالعيش لوحده، وصرنا نسمع أخباره من حين لآخر، عبر الهاتف.. وضمن لقاءات قصيرة في الأعياد..
ينتظر الأب ردا من محدثه، بيد أن "يامازاكي" يواصل صمته واستماعه باهتمام لكل كلمة يقولها الأب..
لا أعفي نفسي من المسؤولية، وأنا نادم على كل يوم فاتني بعيدا عن ابني.. لكن الدولة والنظام تتحملان جزءا من المسؤولية.. أليس كذلك؟
صحيح، صحيح.. أرجوك أكمل.. يجيبه بسرعة، وهو يواصل تدوين ما يسمعه على دفتره الصغير..
(13)
يقلّب "يامازاكي" النسخة المصورة من كتاب "أسرار الطبيعة"، الذي كان آخر ما قرأه المرحوم يوداي.. ويركز على الأسطر المظللة بالأخضر الشفاف، وعلى ما خربشه يوداي على هوامش الصفحات:
- يصدّق البعض حكايات اللامعقول والأساطير، ربما لأنهم بحاجة لشيء ما يهزهم، ويخرجهم من حالة الرتابة والملل، ويمنحهم نشوة الشعور بالدهشة، أو بعض اليقين والطمأنينة..
- الإنسان منذ أن وُجد وهو معذَّب، وكلما تقدمت به الحضارة ازداد ألمه وبؤسه..
- سعادة الإنسان تنبع من داخله، وحتى ينالها عليه أن يتخلى عن شهواته وأنانيته ويقضي على بذور الشر فيها، عندها سيستطيع أن يتحد مع الإله وينال السعادة الأبدية.. وأمام هذه العبارة خط بيده: "هلوسات دينية، لا أظن أنها تناسبني"..
- لتخليص الروح من شقائها، لنتحد مع الطبيعة، ولا حاجة لنا لأي إله، لنعتمد على قوتنا الداخلية وحدها. إطلاق طاقاتنا الروحية والعقلية يعطينا شحنة علوية تمكننا من الانسياب التلقائي مع الطبيعة، فنتقبل عملها كما هو دون اعتراض، الطبيعة هي التي تحررنا، وتسمو بنا..
(14)
يواصل يامازاكي نشر مقتطفات من مذكرات يوداي:
"أحتاج أن أنعزل مع ذاتي، وأن أسبر أغوارها، لأفهم نفسي أكثر.. لأغسلها من آثامها.. وأحررها من قيودها.. لأحلّق في عوالم ليس فيها إلا الحب، وصدىً بعيد لموسيقى عذبة، وينبوع مياه..".
"أُمضي نهاري بجمع الثمار، لأتعشى عليها في المساء تحت شجرة خوخ بكل سلام، بعيدا عن مشاكل العصر وتناقضاته وصراعاته، فلا حاجة لي لكل تلك المخترعات وأساليب العيش المعقدة.. ولكن هل حقا أنا سعيد ومرتاح؟ في الحقيقة، تجتاحني مشاعر البرد والخوف والرجفة والحيرة..".
- بقي في الخزانة علبتين من فول الصويا، ونصف كغم من الأرز، وخمس حبات من البطاطا، وربع كيس من الشاي، وثلاث شموع..
- أحتاج 10 عبوات من القهوة الجاهزة، قلم، سكين من النوع الجيد، أعواد ثقاب، بطاريات، قناني ماء، دواء مسكّن لألم المفاصل، رواية جديدة..
- الأربعاء القادم، موعد وصولي إلى مدينة سينداي، سأمكث فيها أسبوع واحد..
(15)
"في مطلع شبابي، كنت مفتونا بالقوة، وبي رغبة جامحة للانتقام، فقد كنتُ فريسة سهلة لكل المتنمرين في المدرسة، وطالما عدت للبيت بكدمات نفسية غائرة، قررت الانضمام للمافيا.. بعد بحث طويل، عرفت اسم زعيم المنطقة لإحدى الجماعات التي تسيطر على حينا، ذهبت إلى الحانة التي قيل لي أنه يرتادها، كان جالسا على البار ويحتسي الويسكي، عرفته على نفسي، فلم يعرني اهتماما، ثم وبكل بساطة قلت له: أريد أن أصبح جزءا منكم.. رمقني بنظرة استخفاف.. وسألني بأعصاب باردة: هل لديك استعداد لقتل شخص لا تعرفه؟ هل تستطيع قطع سبابتك للدلالة على ولائك؟ هل بمقدورك الانتحار على طريقة "الهارا كيري" إذا أخفقت بتنفيذ مهمة ما قد نطلبها منك؟ أجبته بالنفي بكل تلقائية، فرد عليّ بهدوء: إسمع يا بني، من حسن حظك أنني في مزاج عالي، فلو جئتني في وقت آخر، أو لو أنك قابلت شخصا غيري، لكان هذا آخر يوم في حياتك.. فاغرب عن وجهي قبل أن يتعكر مزاجي..
وفي سنواتي الجامعية سمعتُ عن جماعة "أوم شينريكيو" الدينية المتطرفة، وتابعتُ محاكمة أفرادها الذين أطلقوا غاز السارين في مترو أنفاق طوكيو.. كنت متعاطفا معهم، معتقدا أنهم ضحايا، وأن الحكومة شوهت صورتهم، ولم تقدم لنا روايتهم الحقيقية.. أثارتني بشكل خاص شخصية "شوكو أساهارا"، زعيم الطائفة، بحثت عنه كثيرا، إلى أن تعرفت بفتاة تؤيد الجماعة بحماسة، لكنها كانت شديدة الحذر مني، إلى أن توثقت علاقتنا، وبدأت تثق بي.. كنا نتمشى في حديقة الكلية، ونتجاذب أطراف الحديث، عرفت منها أن أفكار جماعة "الحقيقة السامية" هي مزيج من البوذية والهندوسية.. كانت "ياسيكا" تؤمن بشدة أنَّ نهاية العالم وشيكة، ويوم القيامة قريب جدا، وكل من هم خارج الطائفة سيذهب إلى الجحيم، إلا إذا قُتل على يد أعضاء الطائفة، حيث أن قتلهم سيطهر أرواحهم الملعونة..
اختفت "ياسيكا" بعد ذلك، على الأرجح اعتقلتها السلطات، ولم أجد بعدها أثرا لتلك الجماعة المتعصبة، ومع الوقت تلاشت أفكارهم المجنونة من ذهني، ولم أعد أفكر فيهم، بل إني صرت أصدق ما تقوله الحكومة عن جرائمهم، وعن حالات الاغتصاب والخطف التي تورطوا بها..
بعد طردي من مصنع قطع الغيار، واستقالتي من ثلاث شركات.. ساءت حالتي النفسية، وتدهورت أوضاعي المالية، حتى دخلتُ في طور كآبة.. تركت غرفتي الصغيرة، بعد أن تراكمت عليّ أجرة شهور عديدة، وحينها توجهت إلى شاطئ سوما، بالقرب من كوبيه، هناك تخيم مجموعات صغيرة من المشردين، الذين يطلق عليهم Homeless، وهم خلافا لمعظم المشردين في بقية أنحاء العالم، أناس لطيفين، وودودين بشكل ملحوظ، قليلو الكلام، لا يتحرشون بالنساء، ليست لهم مطالب سياسية، ولا يعبئون بحقوقهم المدنية، حتى أن الشرطة لا تطاردهم، والحكومة تتجاهلهم.. كل ما في الأمر أنهم كسالى، أو استولى اليأس على قلوبهم، ارتضوا العيش على هوامش المجتمعات، حياتهم رتيبة، ومملة، لكنها قاسية.. يعيشون بلا قضية محددة.. لم أتحمل عيشتهم أكثر من شهر..
قلت لنفسي لأجرب الاعتكاف في محراب الدين؛ صعدت جبل فوجي، وقد رحب بي رهبان معبد الشنتو، وأعطوني غرفة صغيرة بسيطة، تكاد تخلو من الأثاث، شعرت بطمأنينة غير عادية.. المنظر هناك خلاب بطريقة خرافية، ليس في الدنيا ما هو أجمل من شروق الشمس وغروبها هناك، لا تسمع سوى صوت شهيق النباتات وهي تتنفس الصبح بتأن.. رغبت أن أعتزل الناس، لأتأمل حياتي بصمت وهدوء..  
تُعلّم الشنتو مبادئ الأخلاق، ولكنها تخلو من أية وصايا، ولا تؤمن بإله محدد، وليس لها نبي مؤسس، وقد خاب ظني بها حين علمت أنها ليست وسيلة لفهم العالم، وإنما لاتصال الإنسان بالكامي، أي لتقديس الأرواح، وبالتالي فهي لن تجيب على أسئلتي.. ومع ذلك كنت مستعدا لأن أمكث هناك مدة أطول، بيد أن صراع الرهبان على منصب كبير الكهنة عكر مزاجي، وبعد أن قتل "توميوكا" أخته ليخلو له المنصب، تركت المعبد صبيحة اليوم التالي، لأواصل رحلتي شمالا..
حين دخلتُ طوكيو أول مرة، هالني المشهد، وأصبت بالفزع.. أخذت أتجول في شوارعها على غير هدى، إلى أن وصلت ميدان شيبويا، وهي محطة قطارات مركزية، تعد الأكثر إزدحاما في العالم، صعدت إلى الطابق الثلاثين في عمارة هيتشاموتو، بعد أن أفرغت مثانتي، جلست على شرفة مقهى صغير تطل على الميدان، طلبت فنجان قهوة، وأخذت أتأمل المشهد، كان منظرا مرعبا.. ما لا حصر له من الناس، يمشون في كل الاتجاهات، وبسرعة محمومة، كأنهم يطاردون شيئا ما، كأنهم طوفان بشري نجم عن تسونامي.. الكل مشغول بعوالمه الخاصة، ملايين الناس، ما يعني ملايين الحكايات، منها ما يُفرح، ومنها ما ينز بؤسا وشقاء..
اليابانيون شعب دمث، إذا تقابل شخصان ما أن يبدءا الحديث حتى يطلقا ضحكة مدوية، لكن لا نعلم خلف تلك الضحكات كم من المآسي والأحزان يخفيانها..
بعد ساعات من التأمل والشرود، نزلت للشارع، وقفت أمام تمثال الكلب هاتشيكو، الذي ظل ينتظر صاحبه أمام المحطة لعشر سنوات متواصلة، في عشرينات القرن الماضي، ثم دخلت زقاقا ضيقا يفضي إلى ساحة واسعة، حيث تصطف على جوانبها مئات المطاعم الصغيرة التي تبيع الوجبات الجاهزة، روائح الكاري والتوابل والأسماك تزكم الأنف، لمحت سيدة طاعنة في السن، لا بد أنها تجاوزت الثمانين، نحيلة مثل عود القصب، اشتريت منها وجبة سوشي، تناولتها ببطء واستمتاع، ثم ممدت يدي بورقة ألف ين، أخذتها مني وفي عينيها بريق رضا غامض..
حين هبط المساء، كنت قد وصلت حيا شعبيا، أزقته مبلطة، لا تصلها السيارات، تعجبت كيف يعيش الناس في تلك الشقق الضيقة المكدسة فوق بعضها.. روائح الخشب الرطب تنبعث من كل مكان، شعرت بضيق نفسي، وأن الهواء يخنقني.. دخلت حانة قديمة، اخترت طاولة منفردة في الزاوية المعتمة، طلبت قنينة ساكي مصنوعة من الأرز المخمر.. اقتربت مني سيدة أربعينية، ترتدي كومونة تقليدية، وتضع على وجهها كميات إضافية من المساحيق الملونة، جلست إلى جانبي، وطلبت قدح تاكيلا.. لم يحتاج الأمر سوى عشر دقائق من الحديث المرح، حتى كنا نخرج من الحانة وأيدينا متشابكة مثل عاشقين..
شقتها لا تتجاوز الثلاثين مترا مربعا، لكنها أنيقة ونظيفة، ورائحة عطر قديم تنبعث من السرير، فتحَت باب خزانة علوية، وأخرجت قنينة نبيذ أحمر، وضعتها على منضدة صغيرة في وسط الغرفة مع قدحين زجاجيين، ثم أدخلت قرصا مدمجا في جهاز ستيريو موضوع فوق الرف العلوي، لتنطلق منه موسيقى فرقة كيرورو، بأغانيها العاطفية الشهيرة.. ثم دلفت إلى الحمام، وخرجت بعد دقائق ترتدي روبا شفافا، جلست أمام المرآة تصفف شعرها، كانت قد تخلصت من كل مكياجها، فبدى وجهها محايدا، بجمال عادي، هادئ، وبريق عينين يخبئ حزنا دفينا.. ثم وبحركة واحدة كانت تقف أمامي بكل عريها وفتنتها..
في الصباح، صحوت على قرع عنيف للباب، وبرجلٍ عريض المنكبين ووجه متجهم يصيح بغضب.. لطم السيدة التي لم أعرف اسمها الحقيقي على وجهها، ثم أمرني بصوت حاد أن أدفع خمسة آلاف ين.. وقبل أن أساومه على المبلغ كان قد لطمني على وجهي مرتين، فترنحت للوراء، ثم ركلني بقوة على مؤخرتي فسقطت أرضا، ليأتي رجل آخر، ويسحبني خارج الشقة والدماء تنزف من أنفي ومن بين أسناني.. وأنا في حالة ذهول وخوف..
غادرت طوكيو على عجل، وقد تملكني إحساس من نجا من سجن مؤبد".
نشر "يامازاكي" ما دونه "يوداي" في مذكراته الشخصية كما هو تقريبا، مع تحويرات طفيفة اقتضتها متطلبات التحرير، ونظرا لكثرة الرسائل والتعليقات، ومتابعة الجمهور لأحداث القصة، كان "يامازاكي" بعد كل تدوينه ينشر تعليقه وأسئلته:
ماذا يدور في ذهن يوداي؟ عمَّ يبحث في رحلته الطويلة؟ ولماذا هو مسكون بكل هذه الأسئلة والمخاوف والقلق؟ وإلى أين سيتجه بعد طوكيو؟ هذا ما سنعرفه في الحلقات القادمة..
ثم جلس بتوتر، ينتظر تعليقات الجمهور ومشاركاتهم..
(16)
"جزيرة "كيوشو" ثالث جزيرة من حيث المساحة والثانية من حيث السكان، كنتُ في السادسة عشر من عمري حين غادرتها لأول مرة بصحبة والدي، وصلنا "كيتاكيوشو" قبيل الظهر، ثم عبرنا الجسر إلى "شيمونوسكي"، هناك انفرج وجه أبي بابتسامة عريضة، واثقة، قائلا: هنا في بـرِّ "هونشو"؛ من "هيروشيما" وحتى "أوموري"، مرورا بِ"أوساكا" و"طوكيو".. وعشرات المدن.. ستجد ما لا حصر له من الفرص؛ مئات المصانع الضخمة، والشركات العملاقة، والجامعات العريقة.. وملايين البشر.. ما عليك إلا أن تجتهد، وتعمل بجد.. لتحقق نجاحك ومستقبلك..
اليوم، أُكمل الرابعة والثلاثين من عمري، وقد مضى على بداية رحلتي أربعة عشر عاما.. بدأتها من "نارونو"، مرورا بجزيرة "أواجي"، ثم برحلة بحرية على متن عبارة ضخمة تضم مئات السيارات وألوف المسافرين الباحثين عن أمل وفرصة.. في رحلة استغرقت ساعة ونصف حتى وصلنا "أكاشي".. لكني، وخلافا لرغبة والدي، لم أكن أبحث عن فرصة عمل.. كنت أفتش عن إجابات لأسئلة مبهمة مقلقة تعتريني منذ صغري.. واتجاهي دوما نحو الشمال..
كنت أتجنب ركوب السيارات والقطارات، إلا في حالات نادرة، مشيا على الأقدام، جبت البراري الفسيحة، وتهت في الغابات، وبين الأودية، صعدت قمم الجبال، على ظهري حقيبة صغيرة، ليس فيها سوى قنينة ماء، وبعض المؤونة، والأدوات البسيطة، وكومة قلق.. خالطت صنوفا شتى من البشر.. زرت المعابد والأضرحة والقصور الخشبية العتيقة، وحتى بيوت الدعارة، نمت فوق الشجر، وتحت الجسور، تجولت في الشوارع الرئيسة، المليئة بالأضواء واللافتات، وبين الحواري والأزقة الفقيرة، من أطلال "ناغازاكي" المهدمة، حتى حي "جينزا" البرجوازي في ضواحي طوكيو.. الأفخم في العالم..
     
حتى إني نمت في غابة "آوكيغاهارا"، تلك الغابة الرابضة مثل وحش مخيف على سفح بركان "فوجيسان"، والتي طالما سمعت عنها قصصا غريبة وأساطير مرعبة عن أشباح وأرواح شريرة تسكنها. وما شدني إليها محاولة لمعرفة لماذا صارت هذه الغابة المكان المفضل للمنتحرين! ولماذا يسمونها غابة الموت!؟
بعد تجربة الرهبنة الفاشلة في جبل فوجي، واصلت المشي شمالا، وقد تملكني شعور بالإحباط، خطر ببالي في لحظة جنون أن أمرَّ من غابة "آوكيغاهارا"، لم أكن أفكر بالانتحار، بل ربما رغبت بتجربة تدفق الأدرينالين، وخوض مغامرة مثيرة تعيد لي توازني، أو تزيد من حيرتي، أو تبدد بعضا منها.. كان عليّ أن أجرب..
وصلت طرف الغابة عصرا، الشمس ترسل أشعتها بكسل، فترسم ظلال الأشجار طويلةً ممتدة، مثل سيقان مارد أسطوري، شعرت برهبة المكان، وترددت طويلا قبل أن أغوص في عمق الغابة.. استجمعت شجاعتي، وقلبي يخفق بشدة، مثل طبل، صرت أحدث نفسي بصوت مرتفع: كل ما ستراه عبارة عن تخيلات، أو هلوسات بصرية.. ليس هناك سوى أشجار بائسة، وبعض من حطمهم اليأس، أو تملكهم الجنون.. يأتون هنا لينهوا حياة تعيسة..
الغريب أنه بعد ساعات قليلة، أخذت تجتاح بدني طاقة سلبية غامضة، وقد ارتخت عضلاتي، وتملكني شعور بالحزن، صرت أتذكر شريط حياتي، فلم أتذكر سوى المشاهد الكئيبة، واللحظات التي كنت أخبئها عميقا في تلافيف النسيان.. خفت أن تنال مني الأوهام.. تذكرت مقولة أن الأوهام هي ظل الحقيقة.. ندمت، ولعنت غبائي الذي قادني إلى هنا، وحيدا في هذه العتمة البهيمة، حاولت الخروج من الغابة، لكني بالفعل فقدتُ أحساسي بالاتجاهات، فالغابة كثيفة على نحو مرعب، وأصوات الرياح وهي تحرك أعالي الأشجار تدفعني نحو حافة الجنون.. بدأت أرى أطيافا لكائنات غريبة، وأسمع عويلا حزينا آتيا من البعيد.. تقوقعت على نفسي عند جذع شجرة باسقة، ودفنت رأسي بين صدري ويدي، وقد أدركت أن كائنا ما سيبتلعني في لقمة واحدة، صرت ألملم ما تبقى من عقلي، وأستجمع شجاعتي التي خذلتني في لحظة ضعف.. ربما كانت تلك الليلة الأصعب والأطول في حياتي.. وقبل أن يشق الفجر عنان السماء، كنت قد نجحت في الوصول إلى السهل، على بعد ميلين من الشارع العام".
(17)
يقولون إن شعب اليابان ربما يكون الأكثر سعادة بين شعوب الأرض، ذلك لأنه تخلى عن إلهه بعد أن وقّع صك الاستسلام في نهاية الحرب العالمية الثانية، فجعل الدين من خلفه، وانطلق نحو المستقبل.. شعب عملي، مفتون بالمجلات المصورة وألعاب الفيديو، ومسكون بروح الساموراي.. يقدس العمل، ودقة المواعيد، لكن حياته تسير بشكل رتيب وممل.. لا يمر الياباني من أمام شيء، مهما كان تافها، إلا ويلتقط له صورة..
فكرت مرات عديدة بالهجرة للعالم الخارجي، وكنت في كل مرة أعود لرشدي، بعد أن يخيب ظني من الإجابات: بماذا تختلف نيويورك عن طوكيو؟ في إزدحامات الشوارع، والاختناقات المرورية، وعذابات الإنسان المقهور، المطحون بلا رأفة بين مسننات الآلات المعقدة.. بماذا تختلف شلالات فنزويلا وكندا عن شلالات كيجون وفوكورودا اليابانية؟ في الارتفاع وتدفق المياه.. بماذا تختلف قمة كليمنجاروا في تنزانيا عن قمة فوجي؟ كلتيهما تكسوهما الثلوج، ويقصدها المغامرون الباحثون عن الإثارة.. بماذا يختلف قطار شنغهاي الصيني، وقطار أيس الألماني عن قطار الشين كانسيل الياباني؟ كلها قطارات مجنونة، تنقل أناس مجانين.. هل حقا تتميز زهرة الساكورا اليابانية عن الأقحوان والحنون في فلسطين، أو عن أية زهرة في العالم، حتى تأخذ تلك الرمزية؟؟
كنت مؤمنا بأنه وسط هذا الجحيم العالمي، ثمة جنان صغيرة، لكنها جميلة؛ حيث ترابُط الأسرة الممتدة، ودفء العاطفة، وحميمية العلاقات، وعفوية الناس.. حيث سُكون النفس الملتاعة، وصفاء العقل من أسئلته المربكة.. ربما أجد ذلك كله في هوكايدو.. لا بد أن أصلها، وأتحقق من ذلك.. أو أقايضها بحريتي..
(18)
كان "يامازاكي" يواصل نشر فصول القصة، وقد حقق ما لم يحلم به من الإعجابات ومشاركات الجمهور، وشغفهم.. خاصة بعد أن نشر مقطع مصور لوالد يوداي وهو يستلم جثمان ابنه، ثم وهو يركب إلى جانبه في سيارة نقل الموتى، استعدادا لدفنه..
وفي تعليقه على الحدث، كتب: عرفنا هوية يوداي، وتتبعنا مسيرته المثيرة، وخضنا معه مغامراته الشيقة، لكننا لم نعرف بعد كيف ولماذا مات؟ ولم نعرف الإجابات على أسئلته.. وهل ستكون هوكايدو فردوسه المفقود، أم جحيمه الموعود؟
قرر "يامازاكي" نشر القصة بكاملها في كتاب، وكان واثقا أنه سيكون الأكثر مبيعا..
(19)
أخيرا، بعد ستة عشر عاما من بدء رحلتي المُتعِبة، وصلتُ "أوموري".. سأشتغل في مطعم قريب لشهر أو شهرين، ريثما أجمع ثمن تذكرة الباخرة.. وسأستريح هنا لبعض الوقت، لأكمل بعض الاستعدادات، وأهيئ نفسي للوصول..
عثرتُ على كوخ صغير مهجور في منطقة نائية، على بعد نصف ساعة من الشارع العام، أصلحت المدفأة، وجمعت كميات وافرة من الحطب، هنا البرد لا يحتمل..
أحتاج للراحة، ولبعض الوقت.. لأستعيد صحتي، وأكسب بعض الوزن، على الأقل حتى أصل 50 كغم، فربما ألتقي بفتاة جميلة في سابورو.. لا بد أن تقتنع بأنني إنسان كامل..
حين أصل، سأجري بعص الفحوصات الطبية في مستشفى سابورو، فهذا الألم في صدري، بدأ يقلقني، خاصة مع كل وخزة تأتيني فجأة من حين لآخر، فأحس أن قلبي سينخلع..
هناك، ربما في سابورو أو في نايورو.. سأشتري منزلا متواضعا، سأحوطه بأشجار السرو والكرز، وبكل أنواع الورود، وسأقتني كلبا..
هل ستكون هوكايدو جنتي الموعودة؟ أم سأجدها مجرد وهم، وخيبة أخرى ستضاف إلى خيباتي الكثيرة؟ في الحقيقة، هذا السؤال يرعبني، بل يقتلني..
من على سريرٍ خشبي مهترئ، وأمام كومة حطب مشتعلة، في كوخ متروك، يبعد ألف ميل أو أكثر عن منزلي الأول.. وبعد سنوات من المشي.. تذكرتُ سريري الدافئ الوثير، ولمسة أمي الحانية، التي ماتت دون أن تودعني، تذكرت غرفتي الصغيرة، وأحلامي البسيطة.. تملكتني مشاعر الشوق والحنين، شعرت بنسمات لطيفة من السعادة تهب عليَّ، وتغمرني بالسكينة.. لأول مرة.. بينما أغمض عينيّ استسلاما لنعاس لذيذ..
كان ذلك آخر ما كتبه يوداي.. وكانت تلك إغماضته الأخيرة..


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق