أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

نوفمبر 29، 2018

عن الخلافة العثمانية



في كل عام تحيي بعض الأحزاب الإسلامية (وكل دعاة عودة الخلافة) الذكرى السنوية لهدم الخلافة العثمانية، منطلقةً في دعوتها تلك من الاعتبارات التالية:

·      اعتبار الدولة العثمانية تجسيدا حقيقيا لدولة الخلافة الإسلامية، التي بدأت بالخلافة الراشدة، ثم انتقلت للأمويين والعباسيين والفاطميين والمماليك.. وصولا للعثمانيين..
·      الدولة العثمانية كانت منيعة وقوية، يهابها جيرانها، ويحسبون لها ألف حساب.
·      حفظت وحدة البلدان العربية والإسلامية، ودافعت عن المسلمين داخل وخارج حدودها.
·      بعد سقوط الدولة العثمانية بدأ مسلسل التراجع والانهيار في العالم الإسلامي، حتى وصل إلى هذا المستوى من الحضيض.
ما مدى صحة هذه الادعاءات أمام حقائق التاريخ؟ للإجابة بموضوعية ودقة، تعالوا نحللها، دون تشنج، ودون تحيز.

الخلافة الراشدة تقوم على العدل والمساواة، ويتم تنصيب الخليفة بالشورى والبيعة.. بينما الدولة العثمانية، كما كانت من قبلها الأموية والعباسية وو.. كانت في حقيقتها مُلكا عضودا، قائم على التوريث (حتى هذا التوريث كان كثيرا ما يمتزج بالدم والاغتيالات والدسائس)، وكان "الخليفة" يتمتع بمزايا ومكتسبات لا تختلف عمّا يتمتع به الأباطرة والملوك، من قصور وخدم وحشم وجواري وعبيد.. وتكفي زيارة واحدة لقصور السلاطين في أسطنبول لتعرف إلى أي مدى كان ينعم فيها السطان العثماني بالترف، بينما كانت الشعوب العربية تكابد الفقر والعوز والمجاعات.. فهل شكل ومضمون تلك الإمبراطوريات له علاقة بحقيقة وجوهر الخلافة الراشدة؟!

صحيح أن الدولة العثمانية (1299~1922)، كانت في النصف الأول من عمرها قوية ومنيعة، وتخشاها الدول الكبرى، إذ اهتمت بالجيش، والتسليح، وبناء القلاع والحصون، والفتوحات، وخاضت العديد من المعارك.. لكنها أهملت العلم والثقافة والفنون والآداب.. فهل هذا هو هدف الدولة ورسالتها؟

حَكم العثمانيون البلدان العربية أربعة قرون، في تلك القرون شهدت أوروبا عصر النهضة، والاكتشافات الجفرافية، والثورة الصناعية، وازدهرت فيها الفنون والاختراعات والاكتشافات العلمية.. في تلك الفترة أصدر السلطان "بايزيد الثاني" فرمانا يقضي بتحريم المطبعة، ومنع دخولها أراضي الدولة العثمانية، واستمر منعها مائتي سنة.. المطبعة كانت حجر الزاوية في النهضة الأوروبية.. لذلك، عاشت الأمة العربية فترة سبات تاريخي، في عزلة عن العالم، وانقطاع عن تطوراته وحركته الدؤوبة، حتى انتهى بها الأمر عبارة عن حطام أمة، متأخرة عن ركب الحضارة الإنسانية سنين ضوئية..

في آخر قرنين من عمرها، أخذت الدولة العثمانية تعاني من الترهل والتفكك والفساد، حتى صارت توصف بالرجل المريض، تراقب الدول الكبرى احتضارها تمهيدا لوراثتها، وفي هذه الفترة انقض الاستعمار على أطراف وقلب العالم العربي، فاحتل الجزائر والمغرب والخليج العربي واليمن، ومصر.. ولم تتمكن من الدفاع عنها..

يعتبر البعض أن السلطان عبد الحميد كان السد المنيع الذي وقف في وجه التهديدات والإغراءات الصهيونية، رافضا التنازل عن شبر من فلسطين.. وفي واقع الأمر، شهد عهده ذروة النشاطات التأسيسية للحركة الصهيونية، حيث تضاعف عدد اليهود في فلسطين ثلاث مرات، من أربعة وعشرين ألف عام 1882 إلى ثمانين ألف عام 1908، وازداد عدد المستعمرات من مستعمرة واحدة (بتاح تكفا) عام 1878، حتى 33 مستعمرة إلى جانب (68) مستعمرة زراعية وتجارية في العام 1908. كما تواصلت الاستثمارات اليهودية في فلسطين وازدادت كمّا ونوعا، وتواصلت عمليات تسريب ملكية الأراضي لليهود، حتى تجاوزت الأربعمائة ألف دونم في نفس العام. وهذه المنجزات والأرقام كانت في غاية الأهمية بالنسبة للمشروع الصهيوني، وقد شكلت الأساس المادي له. ولا شك أن السلطان كان متابعا لأدق التفاصيل لما يحصل في فلسطين، وكان على دراية بالمخططات الصهيونية، وفي ذلك الوقت كانت الحركة الصهيونية في بداياتها، ولا تتمتع بالقوة والنفوذ التي هي عليه اليوم؛ وبالتالي فإن الأرقام ودلالاتها التي تحققت في عهد عبد الحميد تعني أن هناك تسهيلات في الهجرة اليهودية، وغضٌ للبصر عن بناء المستوطنات والنشاطات التهويدية الأخرى، وتسامح إزاء عمليات تسريب الأراضي لليهود، والتي ساهمت فيها الضرائب الباهظة على الفلاحين الفلسطينيين.. رغم أن موقفه الرسمي (المعلن والمضمر) كان التشدد في رفض التنازل عن فلسطين مقابل المال اليهودي. وعدم التفريط بها، لكن سياساته العملية على الأرض افترقت واختلفت مع ذلك الموقف، وأتت بنتائج معاكسة.

والتاريخ يقول إن مسلسل التراجع والانهيار في العالم الإسلامي بدأ فعليا في القرن الثاني عشر ميلادي، أي قبل العثمانيين بكثير؛ حين انتصرت المدرسة السلفية الفقهية على الفلاسفة والمفكرين وعلماء الكلام.. منذ ذلك الوقت، والعالم الإسلامي في تراجع وانحطاط مستمرين، حتى أنه توقف كليا عن المساهمة في ركب الحضارة الإنسانية..

في ذلك الوقت، ولفترة طويلة، لم يكن للعالم الإسلامي خلافة موحدة، كانت الدولة العباسية في بغداد، والفاطمية في القاهرة، والأموية في الأندلس.. وبدأت تظهر على الأطراف دويلات وجماعات منقسمة، متنازعة.. فجاء الفرنجة واحتلوا أجزاء واسعة من بلاد الشام لمدة 200 سنة، ولم تحرك الدولة الأندلسية (ولا العباسية) ساكنا للدفاع عن البلاد المحتلة! كما لم تحرك الدولة العثمانية ساكنا لمنع سقوط الأندلس.. وعندما اجتاح التتار المنطقة.. هزمهم "قطز"، في عين جالوت، وفي طريق عودته من المعركة المظفرة قتله السلطان بيبرس!

فكرة أن يكون للمسلمين دولة واحدة قوية مزدهرة، وقائد واحد عادل ونزيه.. فكرة رائعة، وأظن أن الجميع يحلمون بذلك.. علما بأن عشرات العلماء والمفكرين الإسلاميين بما في ذلك أحزاب إسلامية لا يعتبرون إقامة الخلافة واجبا شرعيا.. سيما وأن هذه الفكرة لم تنجح تاريخيا.. بعد الخلافة الراشدة لم تقم خلافة إسلامية حقيقية.. قامت إمبراطوريات تحكم ظاهريا باسم الدين، لكنها كانت بعيدة جدا عن جوهره ومضامينه.. كانت عبارة عن تجارب بشرية تاريخية، لها حسناتها وإيجابياتها كما لها مساوئها وسلبياتها.. وأظن أننا في هذا العصر بحاجة إلى دولة عصرية تنسجم مع المعطيات الجديدة..

إذا لم نتعظ من التاريخ، فعلى الأقل لنفهم الحاضر..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق