أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

نوفمبر 21، 2018

قصة رواندا



يستعرض فيلم Hotel Rwanda قصة حقيقية جرت في العاصمة الرواندية "كيغالي"، أثناء فترة الإبادة الجماعية، حيث تمكن "بول روسيساباجينا" من إنقاذ حياة نحو ألف ومئتي لاجئ من "التوتسي"، ممن هربوا إلى الفندق الذي كان يديره آنذاك. الفيلم إنتاج إيطالي، وقد تم تصويره في جنوب إفريقيا 2004، وهو من بطولة دون شيدل، وإخراج تيري جورج.

يتناول الفيلم جانبا مهما من قصة رواندا، التي فاقت في بشاعتها وغرابتها حدود الخيال، إذ يبدأ الفيلم بمقاطع يبثها راديو رواندا الرسمي، يحث أتباع قبيلة "الهوتو" على قتل مواطنيهم من قبيلة "التوتسي"، الأمر الذي تسبب بمجزرة جماعية تعد الأفظع في تاريخ إفريقيا.

ولفهم القصة، يجدر الرجوع إلى خلفياتها التاريخية، وفهم طبيعة الدور الذي لعبته الدول الاستعمارية في التمهيد للمذبحة.

لعقود طويلة ظل شعب راوندا يعيش بأمن وسلام (تعداده حاليا بحدود 12 مليون نسمة)، إلى أن جاء الاستعمار الألماني أولا، واستخدم ملك راوندا لخدمة مصالحه الاستعمارية، ثم جاء الاستعمار البلجيكي، وثبت التقسيم العرقي في البلاد بين قبيلتي "التوتسي" (15% من السكان)، و"الهوتو" الذين يشكلون الأغلبية، وذلك بفرض خانة "القبيلة" على الهوية، بهدف تقسيم البلاد، وتسهيل السيطرة عليها، ونهب مواردها.. وكان هذا التقسيم العامل الرئيسي للمجزرة الرهيبة التي ستقع بعد سنوات.
تصاعدت حدة التوتر بين القبيلتين، وبلغت ذروتها في الثورة الرواندية عام 1959؛ التي أسقطت آخر ملك رواندي، ويدعى "موتارا الثالث" (وهو من "التوتسي")، واستولى "الهوتو" على الحكم، وبدأوا بقتل "التوتسيين"، مما أدى إلى نزوح مئات الآلاف منهم إلى الدول المجاورة.

في أوغندا، التي ضمت معظم اللاجئين "التوتسيين"، حدثت في منتصف الثمانينات عدَّة حوادث عرقية، أدت إلى طرد 40 ألف لاجئ "رواندي" إلى المنطقة الحدودية، ليعيشوا هناك ظروفًا صعبة ومهينة، ومن هؤلاء تشكلت نواة الجبهة الوطنية الرواندية، التي ستصبح الممثل السياسي لأقلية "التوتسي" في المنفى، الذين يطالبون بالعودة إلى وطنهم.
في مستهل التسعينات قام مقاتلو "التوتسي" باجتياز الحدود الرواندية (بدعم من أوغندا)، مما تسبب في اندلاع الحرب الأهلية الرواندية الثانية، والتي ستستمر أربع سنوات، وستشهد مستويات قتل غير مسبوقة، ارتقت إلى مستوى الإبادة الجماعية، إلا أنّ الحكومة الرواندية وبمساعدة من بلجيكا وفرنسا والكونغو تمكنت من صد الهجوم، إلى أن تدخلت الأمم المتحدة وفرضت على الطرفين توقيع معاهدة سلام.
بيد أن الطبقة الحاكمة (من الهوتو) رفضت الاتفاقية، ومن بينهم زوجة الرئيس، وبدأت بحملة تحريض ضد "التوتسي"، وقد مثلت حادثة إسقاط طائرة الرئيس الرواندي "جوفينال" الحجة التي تنتظرها الميليشيات المتطرفة للبدء بالمذبحة.
اتهمت الإذاعة الرواندية "التوتسي" بقتل الرئيس، ووصفتهم بالصراصير، أي نزعت عنهم الصفة الإنسانية. ومع التحريض المستمر، بدأ الجار يقتل جاره، والزوج يقتل زوجته، في حملة ذبح هستيرية استمرت مائة يوم، أدت إلى مقتل 800 ألف إنسان، أغلبيتهم الساحقة من "التوتسي"، لم تستثنِ عمليات القتل الممنهج لا شيخا ولا طفلا ولا امرأة، حتى الذين حاولوا الفرار خارج البلاد.. قُتلوا جميعا بأبشع الوسائل، وكان هدف "الهوتو" إبادة جميع "التوتسي"، وتطهير البلاد منهم، وجعلها من لون عرقي واحد..
لم تتوقف المجزرة إلا بانتصار ثوار "التوتسي"، بقيادة "بول كاجامي"، في صيف العام 1994. ليبدأ الفصل الثاني من قصة البلاد، وهو فصل لا يقل غرابة ودهشة عن فصلها المظلم والعنصري.

ستمر البلاد بفترة انتقالية مضطربة، إلى أن توج "كاجامي" رئيسا لرواندا عام 2000. الذي قام بإعداد دستور جديد للبلاد، مهمته توحيد الشعب المنقسم، حيث منع خانة "العرق" في هويات المواطنين، وجرّم استخدام كلمتي "هوتو" "توتسي"، ليكون انتساب المواطن لرواندا فقط. وفي نفس الوقت قام الرئيس بحملة ضد المعارضين، أغلق فيها عددًا من الهيئات والصحف، وشن حملة على الفساد.

نفذ "كاجامي" حملة اعتقالات لعدد من القادة السابقين لميليشيات "الهوتو"، لتقديمهم للمحكمة الدولية بتهمة الإبادة الجماعية، أما المتورطين في أعمال القتل (وعددهم كبير جدا)، فقُدّموا لمحاكم شعبية محلية، قضت عليهم بأعمال الخدمة الاجتماعية، بهدف إعادة دمجهم بالمجتمع..
للاتعاظ من دروس الإبادة الجماعية؛ فرضت الدولة على مواطنيها تجاوز الأحقاد والثارات، وفرضت السلم الأهلي، ثم بدأت بخطة إصلاح اقتصادي، نجحت بنقل البلاد نقلة نوعية، لتصبح رواندا القبلة السياحية الأولى في إفريقيا، والبيئة المفضلة لجلب الاستثمارات، ولتحقق واحدة من أعلى معدلات النمو في العالم، تقارب 8% سنويًا، وهو ما مكنها من مضاعفة ناتجها المحلي ثلاث مرات، من 500 مليون دولار في عام 2000 إلى أكثر من 1.6 مليار دولار سنة 2016 بحسب البنك الدولي.
 وقد شملت الإصلاحات قطاعات الصحة والتعليم، والمرأة، التي أصبحت تشكل 30% من البرلمان، وهي أعلى نسبة تمثيل للمرأة في العالم.
كما اهتمت الدولة أيضا بالنظافة؛ أي نظافة الشوارع والمرافق العامة، وحتى البيوت، لدرجة أنها أصبحت الدولة الأنظف في العالم..
أثارت هذه النجاحات المثيرة لرواندا انتباه العالم، سواء في التنمية الداخلية، أو في تجاوز المحنة وإعادة الأمن للمجتمع، أو في شبكة العلاقات الخارجية التي اكتسبتها، وجعلت منها وسيطا مقبولا للتدخل في الصراعات الإفريقية.. خاصة وأن هذه الإنجازات تحققت بفضل القبضة الحديدية للرئيس "كاجامي".
ما أثار الجدل حول تجربة رواندا، أن الرئيس "كاجامي" بسط سيطرته المطلقة على البلاد، وغيّر الدستور، ليضمن بقاءه في السلطة ثلاثين سنة، وأن الانتخابات التي يجريها شكلية، وأن مستوى الحريات متدني، وأن الفقر ما زال يعم البلاد..
بيد أن الدرس الأهم في التجربة الرواندية، هو عبثية وعقم أي فكر عنصري، أو نظام شمولي، يسعى لجعل البلاد من لون واحد، أي تطهير البلاد من الأقليات العرقية والدينية والطائفية.. فهذا النمط من التفكير لا يقود إلا للكوارث والمذابح وفوضى الحروب الأهلية (العراق وسورية مثلا).. حتى تنميط المجتمع ليبدو متماثلا بدعاوى أيديولوجية (كما في تجربة الخمير الخمر البائسة والدموية)، أيضا لا يقود إلا للفشل والانهيار.. وقد أثبتت الوقائع أن الدول التي تنطوي على تعددية عرقية ودينية وطائفية وحتى لغوية، هي الدول الناجحة والمزدهرة، خاصة إذا عرف المجتمع كيف يتعايش بأمن وسلام تحت مظلة القانون.. أي قانون المواطّنة..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق