أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

مايو 02، 2018

مجرد دردشة



عندما يقول لك طبيبك الخاص أنك تعاني من التهاب حاد في مجاري التنفس، سببه بكتيريا اسمها "مايكوبكتيريوم تيوبركلوسيس"، وحالتك تستدعي الحجر الصحي، وقد تتطلب عملية إذا لم تلتزم بالدواء الفلاني...إلخ. في مثل هكذا حالة هل ستثق بكلام الطبيب؟ وتشتري الدواء دون اعتراض؟ أم ستذهب إلى جوجل وتسأله عن هذه البكتيريا اللعينة، ولزيادة في التأكد، ستستعين بمراجع طبية معتمدة، وهكذا..

وإذا قال لك الميكانيكي أن موتور سيارتك بحاجة إلى تغيير عامود الكرنك، وتجديد فحمات البريك.. وهذا يكلفك المبلغ الفلاني.. هل ستمتثل لأمره؟ وتدفع ما عليك مع قليل من المساومة؟ أم ستذهب بالسيارة إلى معهد أكاديمي مرموق، أو إلى وكيل السيارة المعتمد، وتطلب منه أن يشرح لك تفاصيل آليات عمل عامود الكرنك، وموقعه من الموتور، وأهميته...

في واقع الأمر، أغلب الناس تسلك الخيار الأول؛ تصدّق الطبيب مهما قال، وتثق بتشخيص الميكانيكي، والنجار، والمهندس، ومصلّح بوابير الكاز.. ببساطة لأننا لا نفهم كثيرا في هذه الأمور المتخصصة.. أحيانا نشك، أو نريد مزيدا من الاطمئنان والتأكد.. والأمر ليس صعبا، يكفي أن تسأل طبيبا آخر، أو أن تقود سيارتك إلى الكراج المجاور، وهكذا تحصل على رأيين أو ثلاثة، ويرتاح قلبك وتتأكد..

طيب، إذا قرأت خبراً مفاده أن علماء "الناسا" اكتشفوا كوكبا يشبه الأرض، ويصلح للحياة، وهو على بعد مليار سنة ضوئية.. كيف سنتأكد من صحة الخير؟ هل نشغل مسباراتنا وحواسيبنا ونقتفي أثر ذلك الكوكب؟ أم نسلّم بالخبر؟ أم نكذبه جملة وتفصيلا؟

وإذا قرأت مقولة فلسفية، من مثل: "في كل الأحوال تزوج؛ لو حصلت على زوجة جيدة ستكون سعيداً، ولو حصلت على زوجة سيئة ستصبح فيلسوفاً ."وقيل أنها لسقراط.. كيف يمكن أن نتأكد أن سقراط قالها بالفعل؟ حيث أن جميع زملائه الفلاسفة ميتون، أما كُتبه، وكتب كل الفلاسفة الأولين، إما مفقودة، أو مخزن بقاياها في مكتبات خاصة، ولا يسمح لأحد بتصفحها..

هذه المقولات عادية، ولا تضر أحدا، ولذلك ليس مهما إذا كان سقراط قالها أم لا.. أو أنه تم تحريفها فيما بعد.. ولن نتأثر بوجود كوكب يبعد عنا تلك المسافة الضوئية، فمن المؤكد أننا لن نسافر إليه..

لكن المشكلة في المقولات الفلسفية التي ستؤثر على حياتنا ومواقفنا، وتحدد اتجاهاتنا الفكرية، والتي يصعب التحقق منها.. مثلا يقول البعض إن ابن رشد كان عقلانيا متنورا، في حين كان ابن الجوزية نصوصيا متزمتا.. أو أن ابن سينا كان ملحدا، وأن ابن تيمية شيخ الإسلام.. في واقع الأمر، لا ندقق كثيرا في صحة هذه المقولات، فكتب هؤلاء مفقودة، وكل ما وصلنا عنهم أقاويل منقولة ومنسوبة إليهم.. وليس بوسعنا أن نعود إلى ما توفر من نتاجهم ونقرأه ونتحقق منه.. والمشكلة أن خصوم كل طرف هم الذين نقلوا نتاجه الفكري، مع إضافة قراءاتهم الخاصة.. أو أن مؤيدوهم نقلوا تراثهم مع كثير من التنقيح والإضافات والتهذيب..

اعتقد أن الموضوع يعتمد على الثقة، وهذه الثقة تختلف من شخص لآخر، وفي هذه الحالة، ستكون مرجعياتنا الثقافية هي المعيار. وبعبارة أدق، الثقة والتسليم تعتمدان على ما هو مخزن في الذاكرة، أي على ما نشأنا عليه، وما شكّل نفسياتنا، وشخصياتنا الفكرية، وما تلقيناه من معارف وأفكار ومواعظ في طفولتنا..

عندما يتعلق الأمر بعلوم الفلك، والطب، والجيولوجيا ووو.. لا نملك خيارات كثيرة، في الأغلب سنصدق ما نقرأه وما نسمعه، خاصة وأن الأمر خارج تخصصنا أولاً، ولأنه لن يضر بنا، ولن يؤثر على حياتنا بشكل مباشر ثانياً..

ولكن حينما يتعلق الأمر بشؤون الدين والسياسة سيختلف الأمر، فمن السهل على البعض ترديد أحاديث نبوية ضعيفة وموضوعة، ولا نملك إمكانية التحقق منها.. أو أن ينسب البعض مقولات لعلماء دين مرموقين، ويحمّلوها مواقفهم الأيديولوجية والحزبية الحالية، في محاولة منهم لجعلها في نطاق المقدس والتابو..

هذه النقطة تحديدا، يدركها السياسيون والدعاة جيدا، وبعضهم يستغلونها إلى آخر حد، فيبدؤون بالإفتاء والترويج لأفكارهم بأسلوب شعبوي، يخاطب عواطف الناس، في محاولة منهم لكسب الشهرة ونيل ثقة الناس..

لحد الآن قد تبدو المسألة هينة، لكن المشكلة تنشأ حين يبدأ هؤلاء بتسويق أفكارهم مستغلين بساطة الناس وطيبتهم.. سيبدؤون بمقولات بسيطة، مثلا: "من السُنّة تناول عدد فردي من حبات التمر".. ثم يأتي آخر، ويدعي أن عالما يابانيا أثبت أن تناول عدد فردي من التمر مفيد للصحة ويقوي المناعة... سيخدعنا الأول لأنه جعل كلامه في سياق المقدس الديني، وسيخدعنا الثاني لأنه أعطى لكلام الأول بُعدا علميا أكاديميا.. وسيستهين البعض بذلك: ما ضرك لو تناولت خمس حبات من التمر بدلا من أربعة؟!

بعد أن يكتسب القائل هالة المقدس، ويسبغها على نفسه، وينفد إلى قلوب البسطاء بتلك المقولات "البسيطة"، لن يتوقف به الأمر عند ذلك الحد.. ما هي إلا فترة بسيطة حتى يبدأ بتطعيم كلامه بالسياسة، وبزج أفكاره الأيديولوجية ومواقفه الحزبية، وإقحامها في إطار المقدس، ثم يبدأ بتحويل القسمات الدينية الروحية والمواعظ الأخلاقية التي بدأ بها إلى مقولات ومواقف طائفية.. سيصبح وكيلا عن السُنّة، أو مدافعا عن الشيعة.. وسيكون الناس قد ابتلعوا الطعم.. وصاروا أدوات طائفية وحزبية بيد ذلك الداعية "البريء"..

نظرة سريعة إلى أغلبية "السياسيين" و"الدعاة" الذين يملؤون الفضائيات ومواقع الإنترنت، ويعتلون المنابر، أو يشغلون مقاعد في البرلمانات والأحزاب السياسية.. ستثبت كيف نجح هؤلاء بإحاطة أنفسهم بهالات القداسة، وهم في حقيقة الأمر جامعي ثروات، وطامعي مناصب، ومصاصي دماء الفقراء، ومروجين للطائفية في أبشع صورها..
ل
يس ضروريا أن تعرف كل ما يتعلق ببكتيريا السل، المهم أن تذهب للطبيب الأخصائي الذي تثق به.. وليس ضروريا أن تقرأ كل كتب ابن رشد والفارابي وابن تيمية.. وليس ضروريا أن تسافر للفضاء البعيد لتتأكد من معلومة عن الثقوب السوداء، أو أن تضع يدك داخل الفرن لتقيس درجة حرارته.. المهم أن تستخدم عقلك..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق