أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

يناير 27، 2018

في المتحف


كان يوم الجمعة، هو اليوم التي اعتاد فيه رئيف الذهاب مع والده إلى المتحف، ولا عجب في ذلك، فهو يوم عطلته.. اسمه رئيف، أو رؤوف، وأحيانا يناديه أصدقاؤه عبد الرؤوف، وفي الواقع لم يكن يعترض على أي تسمية.. رغم أزمة المرور وصلا المتحف باكرا.. بناءٌ فخم، واجهته زجاجية، تحيط به حديقة بديعة واسعة.. ربما كانت هذه المرة الألف التي يزور فيها المتحف، والغريب أن والده الأبله لا ينتبه أن كل شيء فيه يظل على حاله.
اجتازا البوابه الرئيسة بعد تفتيش سريع، في البهو الرئيسي المبلط بالرخام البارد تتوزع بعض المقاعد الخشبية، وفي نهايته مكتب طويل يقف خلفه موظفو الاستقبال، يوزعون كتيبات صغيرة وخرائط تشرح أقسام المتحف وأهم مقننياته..
بدءا جولتهما المعتادة في قسم الصور واللوحات.. كانت الجموع الغفيرة من الحمر الوحشية ما تزال تجتاز النهر، والتماسيح تحاول الإمساك بها.. والعصفورين المزركشين بشتى الألوان لم ينتهيا من بناء عش الزوجية، والفهد المرقط ما زال يمسك بخناق الغزال الصغير، والدم يتدفق من عنقه..
في الجناح المجاور، ثمة تماثيل بديعة منحوتة من الشمع بدقة بالغة..
تيمورلنك، بعينيه الحادتين، ونظراته الغاضبة، وهو يمتطي حصانه البني، الذي يظل واقفا على رجليه الخلفيتين، وكأنه يتأهب للقفز.. وفي الخلف منه يقف رجل غامض، بلحية بيضاء تتدلى من أسفل فمه مثل مثلث مستدق، ويحمل بين ذراعيه كتاب "الياسق"..
أما هتلر فما زال واقفا خلف المايكروفون، ملوحا بقبضته بعصبية، ومن عينيه يتطاير الشرر.. وفي الخلف منه صورة كبيرة مثبتة على الحائط لكتابه الشهير "كفاحي"..
يواصلان السير، حتى يصلا أمام مجسمات بديعة لقبيلة بدائية؛ الزعيم يجلس باسترخاء، وعلى يمينه ويساره حارسين متأهبين برمحيهما وسيفيهما.. وإلى الأمام يقف الساحر المقنع، اسمه سيهارتو، كان يمارس الطب والعرافة أيضا، وقد أخذ يقذف من يديه ذرات رمل ناعمة، كلما ألقاها يزيد اشتعال النار..
في منتصف الصالة، كانت كتيبتين من الجنود تقفان قبالة بعضهما البعض، بعضهم يحمل بندقيته، وبعضهم مسجى على الأرض، تحيط بهم برك من الدماء، وجميعهم طليت وجوههم بطلاء الحرب، وفي الخلف منهم كان يقف رجلين بزي أنيق، على صدريهما علقت نياشين مزركشة، ويتابعان سير المعركة من خلال الناظور..
وفي الخلف منهم كان شبان غاصبون من قبائل الهوتو والتوتسي، وآخرون من داحس والغبراء يسنون رماحهم.. ويتربصون..
أما التمثال الأجمل؛ فكان لصبية يافعة، تحمل فوق رأسها كومة حطب، كان ثوبها ضيقا ومتسخا، لكنه يكشف عن ساقين منحوتتين ببراعة، يلمعان ببريق ناعم أخاذ، فيما ظهر ثلي نهديها، اللذين برزا كحبتي رمان طازجتين، بينهما مجرى دقيق يفيض عذوبة ونضارة.. بدت أنوثتها مستفزة على نحو غير عادي.. في الواقع كان رؤوف في كل زيارة يطيل التأمل في هذه اللوحة الرائعة..
واصل رئيف ووالده تجوالهما في ردهات المتحف..
رأى كورش الفارسي وبيده هاتفه المحمول من نوع جلاكسي، كان يتصل بزربال، الذي كان محاطا بمجموعة من الكهنة والحاخامات، وهم يحملون أقلاما وقراطيس..
وسيف الدولة الحمداني يجلس على مقعده الوثير، حوله وزرائه ومريديه، يهز رجله بتوتر، وينظر في ساعته الرولكس بقلق، من المؤكد أنه ينتظر قدوم أبو الطيب المتنبي..
جموع الغوغاء تطارد هيباتايا، تظفر بها، تجردها من ملابسها، ثم تتركها جثة ممزقة.. وفي الخلفية مكتبة الإسكندرية تتصاعد منها ألسنة اللهب وعواميد الدخان..
كان الزوار يروحون ويجيئون، يكبرون، ويتكاثرون، ثم يأتي أولادهم.. ونفس الفهد اللعين، ما زال ممسكا بعنق الغزالة المسكينة.. وهتلر لم ينهي خطبته الحماسية بعد.. وهيباتايا ممددة على الأرض، بثيابها الممزقة الملطخة بالدماء..
خرجا للبهو لأخذ استراحة قصيرة وتناول بعض المشروبات، كان ثلاثة رجال يقفون باستعراض مصطنع، ويتجادلون حول اللوحات الفنية، وكل منهم يستعرض مصطلحاته المعقدة، بصوت مرتفع مزيف، لتسمعه تلك المرأة المثيرة الواقفة خلفهم مباشرة..
في ردهة التاريخ، بدأت الأمور تختلط على رئيف؛ كان خفرع يتكئ على كرسي مدولب ويقرأ ملحمة جلجامش.. يوليوس قيصر، يتجادل بعصبية مع ماوتسيتونغ على دور الجماهير، سرجون الثاني يلعب الشطرنج مع نابليون، الإسكندر المكدوني يترجل من سيارة الليموزين، ويصافح ترومان.
رأى كولمبوس على مقدمة سفينته عند شاطئ هيليوبوليس وهو يلتقط لنفسه صورة سيلفي، رأى دهشته حين تنبه في خلفية الصورة لمجموعة شبان من الهنود الحمر، كانوا ينظرون إليه بحذر..
صورة أخرى تجمع فان ريبيك مع هرتزل، وخلفهما خارطتين: الأولى لرأس الرجاء الصالح والثانية لفلسطين.. وصورة جماعية يظهر فيها ستالين، والحجاج، وبول بوت، وبوش، وتشرشل، وعيدي أمين، وشيانغ كاي شيك، ونيرون، وباتيستا، وشاوشيسكو، وشارون.. كانوا يمسكون أيادي بعضهم البعض وهم يرقصون الدبكة..
أخذت جموع الزوار تحتشد أمام الصور، فيما أخذ أشخاصها يحدقون في عيون المتفرجين.. وشيئا فشيئا، صار الزوار هم مقتنيات المتحف..
في نهاية الردهة رأى صورة جماعية لعائلة صغيرة؛ شاب مفتول العضلات، والده الأربعيني بوجه متجهم، جده الثمانيني بشوارب معقوفة، وطفلة في الخامسة عشرة من عمرها، ويبدو على وجهها أثر كدمات، ومن أنفها تنساب بقايا دم متجمد.. دقق في الصورة، ولشدة دهشته كان الشبه كبيرا بينها وبين صورة عائلته المعلقة في صدر الصالون.. اقترب أكثر وأمعن النظر، فرغ فاه مندهشا.. كان هو نفسه.. وأبيه، وأختهم التي قتلتها العائلة قبل زمن بعيد..
بدأت تتحول التماثيل إلى مرايا.. ولم يعد يرى سوى صورته...
بدأ يشعر بالدوخة، لم يعد يدري هل ما يراه مجرد هلوسات، أم أن الصورة تتضح أمامه لأول مرة.. صار أينما يولّي وجهه يرى رجلا طاعنا في السن، كأنه شبح، لا يدري لماذا تذكر حينها سيهارتو الساحر المشعوذ، وكهنة زربال.. بدت لحيته كثة، ومن عينيه تبرز نظرة محيرة، فيها شيء من الوقار والهيبة، وشيء من الدهاء والمكر، وكان دوما يحمل في يده كتابا مقدسا..
أحس رئيف بالخوف والحيرة، أفلت يد والده، وعلى الفور غادر المتحف راكضا..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق