أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

أكتوبر 28، 2017

معلم مدرسة


عندما كنت صغيرا، كانت أمنيتي أن أصير أستاذ مدرسة، وحتى بعد أن كبرت، ظل هذا الحلم يراودني.. كنت أتخيل نفسي بكل الحبور والرضا وأنا أعطي تلاميذي العلم والمعرفة، وأسعد أكثر، وأنا أتخيلهم أصدقائي وبيننا علاقة ودية، فيها الكثير من المزاح والحب والاحترام.. نتبادل الآراء، ونتناقش، ونطرح مواضيع مختلفة خارجة عن كل سياق، يرهقوني بالأسئلة المحيرة، وألبي بعض فضولهم في اكتشاف ما يودون معرفته.. تماما كما كنت أتمنى شكل العلاقة بيني وبين أساتذتي حين كنت طالبا..


حين كنتُ طالباً ظلت أحلامي تتحطم سنة بعد أخرى بأن أحظى بعلاقة مميزة مع أساتذتي؛ أو أن يأتينا أستاذ استثنائي بشخصيته وأسلوبه.. أغلب من درسوني نسخ مكررة لمعلم متجهم، يحشو المعلومات في رؤوسنا حشوا.. (مع استثناءت هنا وهناك بالطبع)، وحين حظيتُ بتجربة قصيرة في التعليم أُصبتُ هذه المرة بخيبة أمل من الطلبة، وعجزتُ أن أبني معهم تلك العلاقة التي طالما حلمت بها؛ علاقة متوازنة من الجد والمزاح، ومن اللعب والتعلم.. فإما أن الخلل بضعف خبرتي في مجال التعليم، أو أنه خلل في الطلبة.. أو أنه على الأرجح خلل في العملية التعليمية والنظام التربوي السائد..

بعد تجربة قصيرة ومحدودة في التعليم، أيقنت أني لا أصلح لهذه المهنة المقدسة، المتعبة.. شقيقات وأشقاء لي وأصدقاء كثيرون برعوا فيها، وكانوا مثالا للمعلم الإنسان..

في الفترة الماضية، تطوعتُ لتدريب طلبة الصف الحادي عشر في مواضيع القيادة المجتمعية، ضمن مشروع خاص بمؤسسة إنجاز، يهدف إلى توعية الطلبة بقضايا المجتمع، وتحفيزهم على التفكير الخلاق، وتنمية روح المبادرة، وتشرّب سمات الشخصية القيادية.. البرنامج تطلب زيارة ثماني مدارس ثانوية، بواقع ست ساعات لكل صف، تقع تلك المدارس في قرى نائية بالقرب من الجدار، أو بالقرب من مستوطنات.. التجربة كانت مثيرة وغنية، تعلمت منها الكثير، وقد خرجت بعدة انطباعات، أحببت أن أشارككم إياها:

الملاحظة الأولى، أن الفتيات أنشط من الفتيان، وأكثر شغفا وتفاعلا، لدى الكثير منهن فضول التعلم، والرغبة بالتطور، إلى جانب انضباطهن دون أية حاجة للتنبيه.. خلافا للطلبة، الذين يفتقرون للشغف، وليس لديهم أي فضول بتعلم أي شيء جديد، فقد كانوا بصورة عامة أقل ميلا للمشاركة والتفاعل، وأكثر شغبا.. وجل همهم انتهاء الحصة (نفسي أعرف على إيش مستعجلين!!).. مع أن الحصة تتضمن ألعابا وتسلية ومعلومات في أشياء جديدة..

الملاحظة الثانية تتعلق بالمدارس المختلطة، وهي منتشرة أكثر في القرى، ولأسباب ليس لها علاقة بالتطور الاجتماعي، بقدر ما هي أسباب مرتبطة بعدم القدرة على افتتاح مدارس جديدة.. في تلك المدارس لاحظت أن الطلاب والطالبات يتعاملون مع بعضهم بشئ من الأريحية الإيجابية، وأن علاقات الزمالة بينهم تنمو في إطار الاحترام المتبادل، وليس للطلبة الذكور صفة السيطرة والهيمنة، بل إن الفتيات يتمتعن بشخصيات مستقلة، ونشطة.. ولو أن باحثين متخصصين يدرسون الأمر بعناية لخرجوا علينا بنتائج مبهرة وغير متوقعة..  

كما لاحظت أن مستوى الطلبة في المعرفة والمعلومات العامة ضحلا، وبالكاد لديهم اهتمام بسيط بالقضايا العامة، فضلا عن وجود طلبة في صفوف متقدمة لا يجيدون القراءة!!! ومن ناحية ثانية، وجدت حالات متميزة جدا، أبهرتني بوجهات نظرها، بما في ذلك بالقضايا السياسية، وأعجبني تمكّنها وفصاحتها وشغفها بالعلم.. ما يعني أنه يتوجب علينا التخلي عن فكرة أن الطلبة بحاجة للتلقين والتوجيه.. الطلبة بحاجة للاهتمام بهم وتشجيعهم وتحفيزهم واحترام وعيهم والتفاعل معهم بإيجابية.. الطالب بحاجة لمعلم صديق، لا لمعلم ملقن وواعظ.. بحاجة إلى بيئة مشجعة، إيجابية، مفتوحة، لا إلى مدرسة تشبه المعتقل..

حين دخلتُ بعض المدارس، لاحظتُ عددا من المعلمين يحملون عصا، أو بربيشا بلاستيكيا (إما للضرب، أو لمآرب أخرى)، كانوا يتعاملون مع الطلبة بصرامة وخشونة واضحة، وتصادف وجودي مع اتصال هاتفي ورد للمدير، فهمتُ منه أنَّ ولي أمر طالب يشكوه، ويعبر عن رفضه لأنه انهال على ابنه بالضربات والصفعات.. كان رد المدير بأنه مجرد "بربيش" واحد، لأنه الولد قل أدبه.. بعد ذلك، استدعى المدير الطالب، ووبخه بشدة لأنه اشتكى لأهله، وصادر هاتفه المحمول.. في تلك المدرسة، وغيرها من المدارس التي من الواضح أنها تستخدم الشدة والعنف في التعامل مع الطلبة.. لاحظتُ أن الطلبة يميلون أكثر للمشاغبة، ولا ينتبهون للشرح، وأنهم كانوا يستغلون فرصة "الحرية"، و"التسامح" بطريقة خاطئة، أي أنهم كانوا يحاولون جعل الحصة حالة من الفوضى والفلتان..
إحدى المرات قلت للطلبة: "أي شخص لا يرغب بحضور الحصة يمكنه المغادرة"، وهذا تكنيك متبع لتفريغ الصف من طالب أو اثنين يشوشون على زملائهم.. كانت النتيجة أن ثلثي الصف همًّوا بالمغادرة.. لولا أني تراجعت عن العرض، مصابا بالصدمة.. كان عليَّ أن أتوقع ذلك، لأن حالة الكبت والضغط التي يعيشونها تجعلهم يتصرفون مثل حبة الذرة في طنجرة الضغط..

في مدارس أخرى، لم ألحظ أي مظهر للعنف، بل بالعكس، كانت الملاعب تعج بالطلبة وهم يمارسون أنواع مختلفة من الرياضة، المكتبة والمختبر وغرف النشاط مشغولة بالكامل، فرق كشفية ورياضية ودبكة، حدائق منسقة وساحات نظيفة، وطلبة نشيطون تفيض وجوههم بالضحك والابتسامات.. المعلمون منتشرون في الساحات يبادلون الطلبة اللعب والمزاح.. في تلك المدارس، قدّمتُ أفضل ما عندي، وأنا في غاية الراحة والسعادة.. لا أجزم إذا كان ما شاهدته هو القاعدة، أم الاستثناء؟؟

حتى لا نعمم، لا أشكّك بوجود معلمين ومديرين أفاضل، متفانين في عملهم، ومخلصين في أداء واجبهم، ومنهم مبادرون، ومتميزون... لكني أخشى أن يكون هؤلاء قلة، وأن الأغلبية يمارسون التعليم بأقل قدر من الشغف والاهتمام..

المشكلة ليست في المعلم، ولا في الطلبة.. هما جزء من المشكلة ونتاج لها.. المشكلة في النظام التعليمي التقليدي، هذا النظام السائد منذ عشرات السنين، هو الذي يجعل الطلبة يكرهون مدارسهم (المعلمون أيضا لا يجبون المدرسة، ويأتونها متثاقلين)!؟ ويجعلهم يخرجون من المدرسة بعد انتهاء الدوام بإحساس من خرج من السجن؟!

التعليم التحرري هو الحل..


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق