أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

أكتوبر 28، 2017

تحصين التخلف

 (1)
نحن العرب والمسلمون، متخلفون، بل وصَلنا قاع التخلف، وصرنا أرذل الأمم، وبيننا وبين العالم فجوة حضارية رهيبة، وأية مقارنة بين أحوالنا وأحوال باقي الشعوب، في أي مجال، ستكون صادمة ومحبطة.. ومن يرى عكس ذلك، لا يكمل قراءة المقال. وهذه ليست دعوة لليأس، بل لمعرفة مكمن الخلل..

الحقيقة، أن تخلُّفنا ليس جديدا؛ بل نحن متخلفون منذ زمن قديم.. في مستهل القرن العشرين نبّه رواد النهضة العربية لحقيقة تخلفنا، 
وطرحوا السؤال: لماذا، وكيف تخلف العرب والمسلمون؟ وبدلا من الإجابة عليه، وعوضا عن البدء بمشروع النهضة، وبعد أكثر من قرن، لم نعد نطرح هذا السؤال! بل ترسخت لدينا قناعة بأننا خير الأمم، ولأننا مسلمون نحن أفضل من سائر الشعوب.. رغم أننا قطعنا خلال القرن الماضي أشواطا إضافية نحو المزيد من التخلف!!


يربط البعض سبب تخلفنا بالغزو الخارجي والاستعمار.. لكنَّ الصليبيون والتتار خرجوا من المنطقة العربية في القرن الثالث عشر الميلادي، ولم تتعرض البلاد لأي تهديد أو غزو خارجي من بعدهم، ولمدة خمسة قرون متواصلة، حتى مجيء نابليون أوائل القرن الثامن عشر.. فماذا أنجز العرب خلال هذه المدة؟ لا شيء..

صحيح أنَّ الاستعمار يتحمل نصيبا من المسؤولية، لكن، لنتذكر أنَّ شعوبا كثيرة تحررت من الاستعمار بنفس الفترة التي تحررت فيها الدول العربية، مثل ماليزيا، سنغافورة، كوريا، الهند، الصين، ودول أخرى خرجت من الحرب العالمية الثانية مدمرة ومهزومة، مثل اليابان وألمانيا.. أين وصلت تلك الدول؟ وأين وصلنا نحن؟؟ اليابان مثلا ما زال مجبَرا على الاحتفاظ بقواعد أمريكية، ويخضع لاشتراطات دولية، حتى أنه لا يستطيع تغيير بند في دستوره إلا بموافقة أمريكا.. ومع ذلك، هل استطاعت أمريكا منعه من التطور؟ كذلك ألمانيا!
ويوعز غيرهم السبب لعدم وجود دولة إسلامية، وإسقاط دولة الخلافة.. ولكن، هل كانت الأمة الإسلامية في عصر دولة الخلافة العثمانية متطورة ومتقدمة؟ أعطونا مظهرا واحدا من مظاهر هذا التقدم.. الحقيقة أن الإمبراطورية العثمانية طوال فترة حكمها ظلت مشغولة بالفتوحات والتوسع والحروب وتجهيز الجيوش وبناء القلاع.. وآخر قرنين من عمرها كانت تسمى الرجل المريض.. ولم تحقق أي منجز علمي، ولم تترك أي معلم حضاري حقيقي.. بل عزلت العرب عن العالم، وأخرجتهم من دائرة التأثير.. وعندما غادرت تركت وراءها حطام أمة.. ومن قبلها المماليك والعباسيين والأمويين.. كلها كانت أنظمة شمولية استبدادية وراثية..

ويقول آخرون أن السبب ابتعادنا عن تعاليم الدين.. لكنَّ الحقيقة التاريخية أن العصر الذهبي للإسلام، وكل المنجزات الحضارية والعلمية تحققت قبل أن تتمكن المنظومة الفقهية من السيطرة على الحكم، والهيمنة على المجتمع؛ أي ما بين القرنين الثاني والرابع الهجري، بعد أن تمّ نقل التراث الإغريقي واللاتيني إلى العربية وهضمه بالتدريج، والتفاعل مع الحضارات الفارسية والهندية واليونانية.. وكل العلماء والشعراء الذين برزوا في تلك الفترة، كانوا متحررين من سطوة الفقهاء، بل أن الفقهاء ناصبوهم العداء، وكفروهم..

لا يعني هذا أن الدين كان سببا للتخلف؛ وكما يقول "سيد القمني": "الدين في حد ذاته ليس طرفا في الموضوع، وكما أنه لم يكن له دور في التخلف، لن يكون له دور في التقدم؛ فمتطلبات التقدم أو عوامل التخلف لا علاقة لها بأي دين.. الإسلام كدين في حد ذاته لم يكن عنصرا في إنجازات ابن سينا وابن رشد والرازي والفارابي وابن الهيثم وغيرهم، وليس سببا في اختفاء العلماء من بلادنا من بعد تلك الكوكبة اليتيمة من العلماء".
ودليل على أن الدين ليس هو السبب، نرى دولا إسلامية مثل سنغافورة، وماليزيا، وتركيا تقدمت وتطورت، ولكن بآليات لا علاقة لها بالدين نفسه، بينما بقية الدول الإسلامية ما زالت قابعة في قاع التخلف، وفي مؤخرة الأمم، ولكن ليس بسبب الإسلام أيضا.. ما يؤكد أن المشكلة ليست في الدين. لكنها في كيفية فهم الدين والتعامل معه؛ فهناك من استثمره في التقدم، وهناك من استغله لتكريس التخلف.. هناك من وظف العناصر الإيجابية فيه، وهناك من جعله غطاءً لمقاصده السياسية..
وللإجابة على سؤال سبب تخلف العرب والمسلمين، قال المفكر المغربي "أحمد عصيد": "إن أول وأهم سبب لتخلف العرب هو تنحيتهم العقلَ جانبا، والنظر إليه باعتباره قاصرا، ونسبيا، وعاجزا.. ولأنه نسبي يجب أن يكون تابعا للنص المقدس الذي هو مطلق، ولأنه قاصر ومحدود فليس له من دور سوى تفسير النص، والعمل على تطبيقه، والتقيد به.. أي حبس العقل في حيز النص، وجعل النص متقدما على العقل ومرجعا له، وضابطا لحدوده.. وهكذا نصّب الفقهاء أنفسهم حراسا على النص، واحتكروا تفسيره وتأويله، وألغوا دور العقل النقدي والمعارض، ومنعوا أي تحليق له خارح فضاء النص.. الأمر الذي جعل العقل محدود القيمة ومحدود الجهد، وبالتالي لم يعد قادرا على المغامرة والاكتشاف والتفكير خارج الإطار الذي حدده رجال الدين.. وهكذا بدأت رحلة التخلف على المستوى العلمي والمعرفي".

بدأ هذا التحول وبشكل تدريجي منذ القرن الرابع الهجري، وتواصل إلى الآن، وخلال هذا الزمن الممتد على نحو ألف عام، جرى بناء أسوار عالية من الدوغما، لحماية النص المقدس من أي أية محاولة لفهمه بطريقة نقدية أو حداثية، أي أن ما جرى تكريس للتخلف، وحمايته من الاختراق!!!

العامل الثاني (حسب عصيد)، هو عدم اعترافنا بأننا متخلفون، والنظر باحتقار وفوقية لباقي الأمم، بوصفهم كفارا، ومصيرهم النار.. فبينما كانت الشعوب الأخرى (الكافرة) تبني دولها على أسس علمية، وتصنع الحضارة الإنسانية، كنا نحن نزداد تخلفا، وبدلا من الإنصهار في المنظومة الحضارية الإنسانية، ودخول عصر العولمة والحداثة، تقوقعنا على أنفسنا، ورفضنا الإندماج مع الشعوب المتحضرة، واعتبرنا أن مشروع الحداثة العالمي هو مشروع أجنبي استعماري، يجب معاداته.. ورفضنا كل ما أتى من الغرب (باستثناء المنتجات الاستهلاكية والأسلحة، التي استوردناها دون الفكر العلمي الذي أنتجها)..
ويعدد "عصيد" أسبابا أخرى للتخلف، منها الإمبريالية، وقيام إسرائيل، ونشوء الأنظمة العربية الاستبدادية، وغياب الديمقراطية، وظهور حركات الإسلام السياسي، واستحكام منظومة القوى التقليدية المحافظة التي عرقلت التطور، بسبب عقليتها الماضوية السلفية..
 (2)

قدَّم المفكر المغربي "أحمد عصيد" مرافعته لفهم أسباب تخلف الأمة العربية، وتقدُّمِ غيرها من الشعوب.. فخلُصَ إلى أن أوروبا بدأت رحلة التطور حين تخلصت من سلطة الكنيسة، ومن سطوة الكهنوت، وشرعت بافتتاح الجامعات العلمية، التي بدأت تعلّم خارج إطار المؤسسة الكنسية، أي أنها نقلت العلم والمعرفة من الكنيسة إلى الجامعة، وأطلقت للعقل العنان.. على عكس ما حصل مع العرب، الذين لم يشهدوا هذا النوع من التطور..

ففي بلادنا، وبعد عصر الإبداع والعقل والتسامح والتعددية، ضعفت الدولة العباسية، وظهرت دولة المرابطين في المغرب والأندلس، ودولة السلاجقة في الشرق، فدخلت المنطقة عصرا جديدا تقوده العقلية المتزمتة، والعصبيات الدينية والمذهبية المتطرفة لتي انقلبت على المشهد الثقافي والديني الذي دام في القرنين السابقين، لتختفي بالتدريج إيجابيات ومنجزات الفترة السابقة..

ومع ترافق غزوات الفرنجة والمغول، وضعف الدولة المركزية، وظهور الدويلات (المتناحرة)، واستشراء الفساد، والصراع على السلطة.. بدأ الارتكاس الحضاري.. فانتهى عصر العلوم الطبيعية، وبدأ عصر العلوم الشرعية، وأخذ دور الفقهاء يتعاظم، ودور العلماء يخبو ويتلاشى.. بعض الباحثين حمّلوا أبو حامد الغزالي مسؤولية هذا التحول، والبعض حمّله للوزير السلجوقي إسحاق الطوسي "نظام الـمُلك"، وآخرون نسبوه لابن تيمية وابن الجوزية.. وفي حقيقة الأمر، لا يتحمل شخص بعينه مسؤولية هذا الانحدار، فهي عملية مستمرة، لم تحدث فجأة، بل أخذت وقتا كافيا، ومن نافل القول أنها ما زالت فاعلة..

في مستهل القرن العشرين ظهر مجددون وإصلاحيون كبار، وبدا قرناً واعداً، بأفكار "عبده" و"الأفغاني" و"الكواكبي".. بيد أن مشروعهم النهضوي مُني بانتكاسة أخرى على يد الإخوان، فانتهى القرن بتنظيم القاعدة والطالبان ومحاكم التفتيش الصومالية.
أفكار "قاسم أمين"، التنويرية في بدايات القرن العشرين، أصبحت هرطقة في نهاياته، وما كان يقوله "علي عبد الرازق" في العشرينات عن أصول الحكم، أصبح جريمة في الثمانينات، وأفكار "هدى شعراوي" التحررية في الثلاثينات صارت فسقا ومجونا في السبعينات، وما كتبه "سيد قطب" في الأربعينات عن الفن والجمال، أصبح كفراً في الستينات، بقلم "قطب" نفسه!!

لماذا، وكيف حصل هذا التراجع المحزن؟

في البداية تحالف الإخوان مع الوهابية، وبالمال السعودي والنشاط الإخواني امتد تأثير هذا التحالف في البلاد الإسلامية أولا، ثم انتقل إلى أوروبا وبقية العالم.. طبعا لم يكن الأمر مجرد نشاط دعوي لجماعات أيديولوجية ذات هدف سياسي؛ فقد ترافق ذلك مع متغيرات وأحداث كبيرة ساهمت بطريقة غير مباشرة في خدمة الإسلام السياسي.. فمثلا أدى قيام إسرائيل ونشوء الأنظمة الاستبدادية العربية (وبين الحدثين علاقة عضوية) إلى تكون واقع اجتماعي سياسي اقتصادي بالغ السوء، من أهم مظاهره تكريس التحالف الأوليغارشي، وفساد النخب الحاكمة والمسيطرة، واتساع الهوة بين الطبقات، وتكون الشرائح الاجتماعية المهمشة التي تكدست على أطراف المدن وفي العشوائيات، فضلا عن الهزائم العسكرية على يد إسرائيل وأمريكا، وحالات القمع والإذلال على يد الحكومات.. كانت نتيجة ذلك كله بطالة وفقر وإحباط وانغلاق أبواب الأمل لدى الشباب..

وبالعودة للتحالف الإخواني الوهابي لفهم العلاقة بينه وبين تلك المتغيرات، سنجد أن الإخوان جاؤوا بشعار "الإسلام هو الحل"، الشعار الذي تلقفه الشباب المسلم المحبط، واعتبروه مفتاح الولوج إلى المستقبل، وبوابة الفرج، من كل تلك المصائب..
ولتعزيز قوة هذا الشعار، بدأ الخطاب الإخواني يروج لفكرة "عداء الغرب الكافر للإسلام"، وأن "الإسلام في خطر"، وأن "الحضارة الغربية هي المسؤولة عن كل مآسي المسلمين، وبالتالي هي العدو الأول"..

ثم بدأ الخطاب الإخواني يقدم إجابات غيبية مبهمة وغامضة لمواجهة أسئلة العصر ومشكلاته وأزماته، وبدلا من وضع التصورات العلمية لفهمها، والحلول المبنية على أساس التطلع لمستقبل، كانت الإجابة تتمثل بضرورة العودة للماضي، هذا لأنه عجز عن الولوج للمستقبل، أو حتى مسايرة الحاضر بروحه ومفاهيمه وقوانينه، فكان الحل الأسهل هو الاختباء في الماضي، الذي هو في الذهنية الإسلامية ماضي جميل ومزدهر، كله عز وانتصارات وعلماء ومفكرين.. وهذه الصورة المثالية للتاريخ جعلتهم يحلمون بالعودة للوراء..

وهكذا، بدأ العقل العربي مقتنعا بأن هناك مؤامرة على الإسلام، فأصبح كل همه إنقاذ الإسلام وحمايته.. وأصبح مقتنعا أن الغرب هم العدو، عدو لأنه كافر، (وليس إسرائيل والسياسات الأمريكية).. وبات مرتاحا لفكرة "السلف الصالح"، فغرق في أمجاد الماضي، حتى انسلخ عن حاضره البائس.. وطالما أن الإسلام هو الحل، فما علينا إلا أن نمكّن الإسلاميين للوصول للحكم (بالانتخابات أو بالتفجيرات)، وحينها ستقوم دولة الخلافة بحل كل مشكلاتنا دفعة واحدة.. وإن تعذر ذلك فعلى الأقل تطبيق الشريعة (سواء من قبل الحكومات العربية، أو في المناطق التي تسيطر عليها الجماعات الجهادية).. وهكذا صار مطلوبا من الناس أن تنسى مشاكلها الاقتصادية والسياسية، أو يتناسوها، ويناموا مطمئنين بإنتظار الحلول الشاملة مع تطبيق الشريعة..

وبما أنه لا توجد دولة خلافة، أصبحت المعركة ضد كل من لا يريد الخلافة.. وبما أن تطبيق الشريعة غير متحقق بالشكل الذي يرضيهم، أصبح كل علماني أو غير متدين هو العائق أمام الحل، وبالتالي هو العدو الذي يتوجب محاربته أولا.. وقد يكونوا هؤلاء أغلبية في المجتمع (أي الناس التي لا ترى أن الأولوية هي تطبيق الشريعة)، فأصبح المجتمع هو العدو، ثم أصبحت المرأة أخطر عدو، لأنها متبرجة وفتنة وحليفة للشيطان، ومع الكبت الجنسي والاجتماعي، أصبح لباس المرأة أكبر وأهم قضية يتوجب حلها..

ماذا كانت نتيجة هذا الانحدار؟ في المجتمعات العربية استحكمت القوى التقليدية المحافظة، وعرقلت كل مشاريع التحديث، في أوروبا امتنع أبناء الجاليات المسلمة عن الاندماج، لقناعتهم أنهم أفضل من الأوروبيين لسبب واحد فقط لأنهم مسلمون..

وهكذا، أجهض الفكر الأصولي مشروع الإصلاح التنويرى لصالح الهدف السياسي السعودي، واستطاع نشر المفاهيم الوهابية المتشددة والمتخلفة، داخل السعودية بكرباج هيئة الأمر بالمعروف، وخارجها بفيلق من المنتفعين، أو المغرر بهم.. الذي نشروا البداوة والتصحر في العالم، تحت اسم الدعوة الإسلامية، والإسلام براء من كل هذا..


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق