أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

أغسطس 20، 2017

رحلة الإنسانية من المشاع إلى العولمة


قبل عشرين ألف عام، كان البشر عبارة عن مجموعات هائمة في البراري تبحث عن طعامها، ولا تتقن شيئا سوى صنع أدواتها من الحجر، وتعقُّب قطعان الحيوانات، إلى جانب تنويعات فنية بدائية تمثلت في رسوم لحيوانات في أعماق الكهوف، تدل على نزعة طوطمية.
وقد أجبرت قسوة البيئة وشح الموارد الإنسان الأول أن ينوع مصادر غذائه، فتعلم فنون الصيد، ولما كان الإنسان بلا مخالب وبلا قرون وبلا أنياب، وجلده رقيق، لا تغطيه فروة أو حراشف، وسرعته بطيئة بالمقارنة مع سرعة المفترسات، وقوته البدنية أقل بكثير منها، فقد دفعه ذلك للاعتماد على سر قوته الذي مكّنه من التعايش مع الوحوش ثم التفوق عليها، والانتقال من مرحلة الرميّة إلى الصيد: إنه ذكاؤه، الذي تطور في تلك المراحل على نحو لافت.

 كان تطور ذكاء الإنسان ضرورة اقتضتها متطلبات التكيف مع توالي فصول البرد والحر، ومن أجل تأمين بقاءه في عالم لا يرحم، الأمر الذي دعاه أن يوظفه بدايةً في الصيد، ولأن الصيد يتطلب التخطيط والتعاون الاجتماعي، صار حتميا أن تنشأ اللغة، ومن ثم النظام الاجتماعي.
وقبل اثني عشر ألف عام، وبعد انتهاء عصور الجليد، بدأت هذه المجموعات بالدخول في طور الحضارة، إذْ اهتدت للزراعة وتدجين الحيوانات الأليفة، وصار ممكنا بل ضروريا لهذا الإنسان أن يستقر.
ظهر حينها نوع من القمح في منطقة أريحا على ضفاف نهر الأردن، التي عرف سكانها  كيفية حصاده وطحنه قبل أن يعرفوا سر زراعته. وكان هذا إيذانا بتدشين عصر الثورة الزراعية. وقد وجَد حينها كل من النبات والإنسان ضالته في الآخر.
وإذا كانت الزراعة سببا لاستقرار الإنسان، ومن ثم سببا لتنازع المُلكية ونشوء مناطق النفوذ، فإن تدجين الحيوانات وامتطائها ما هو إلا رمزاً لسيادته على بقية الكائنات، ولكن الزراعة واستئناس الحيوانات سيتطلبان بالضرورة ابتكار بعض الأدوات كالمعول والمنجل والسرج، أي بعبارة أخرى، قادت الزراعة إلى أولى الخطوات نحو الثورة الصناعية.
في تلك المراحل المبكرة، لم يكن الإنسان يعرف الملكية، بل كان يعيش نوعا من التضامن والمشاعية البدائية؛ فلم يكن بمقدور الفرد مواجهة قسوة البيئة لوحده، وبسبب ضآلة الإنتاج وبساطته، لم يكن هناك استغلال لعمل الآخرين وجهدهم، لأن العمل كان كله موجها نحو تلبية الحاجات الضرورية المباشرة.
في أعقاب تلك المرحلة نشأ نمط معيشي عُرف بأسلوب الإنتاج الآسيوي، أفضى إلى نشوء نظام الرق، ولكن الانتقال من المشاعية إلى العبودية تم بشكل متدرج وبطيئ. فالانتقال من عصر لآخر لا يتم دفعة واحدة، أو على شكل قفزات، لأن العصور تتوالد من بعضها، وحركة التاريخ تسير في اتجاه لولبي صاعد، وكل مرحلة تاريخية تحمل في أحشائها سمات المرحلة القادمة، وحتمية قدومها.
وكانت نقطة التحول من المشاعية إلى العبودية، هي تقدم القوى الإنتاجية إلى الحد الذي لا يعود الإنسان ينتج فيه من أجل تلبية حاجاته المباشرة، بل أصبح إنتاجه فائضا عن حاجته الخاصة، وكان هذا الفائض بداية التقسيم الطبقي بين البشر، ونشوء الاختلاف والتمايز بينهم، وتعمُّق الفروقات بين الغني والفقير، والقوي والضعيف. وكان هذا التمييز بداية استغلال الإنسان للإنسان.
ولم يتخذ هذا الاستغلال شكل الرق في جميع الأحوال، إذْ اختبر العالم القديم نظما اقتصادية متقدمة بنيت على أساس سلطة استبدادية مطلقة، تميزت فيها طبقة الحكام والكهنة عن عامة الشعب، ولكنها لم تتخذ من عامة الشعب عبيدا بالمعنى الصريح. وفي ظل هذه النظم ازدهرت حضارات هامة وعظيمة، مثل الحضارة المصرية القديمة.
أما النموذج الصارخ للعبودية، فقد مثلته اليونان القديمة. فعندما اتسع نطاق الحروب، أصبح الأسرى المهزومين يُجلبون إلى البلاد لكي يُستعان بهم في الأعمال المنـزلية في بداية الأمر، واكتسبوا بالتدريج صفة الرقيق الذي يتحكم سيده، لا في عمله فحسب، بل في شخصه أيضا، وأصبح لهذه الصفة أساس قانوني ينظم العلاقة بين العبد وسيده.
وللمفارقة، فقد شكّلَ نشوء العبودية خطوة لمصلحة العبيد، اذْ تحوَّلوا من أسرى يجري قتلهم، إلى طبقة باقية على قيد الحياة، ولم تكن العملية مجرد عطف وإحسان، بل كانت لمصلحة الإنتاج. كان الإنتاج في مرحلة المشاعية البدائية شحيحا، ولذلك لم يكن بإمكان الجماعة المنتصرة أن تُبقي على حياة من تأسرهم وتطعمهم وتؤويهم، فكان قتلهم الحل الأسهل. ولكن تطور الإنتاج في الصيد والزراعة وتدجين الحيوانات أصبح كافيا لمعيشة الجماعة، ولإعالة أناس لا يمارسون العمل، الكهنة مثلا. وهنا ظهرت إمكانية الاستفادة من هؤلاء الأسرى، عوضا عن قتلهم.
وبسبب نضالات العبيد ومحاولاتهم للحصول على بعض حقوقهم ظهرت حركات تمرد عديدة، ولكي يستطيع الأسياد الإبقاء على إخضاعهم للعبيد واستغلالهم، كان عليهم أن يجدوا الأدوات اللازمة لذلك؛ فكان نظام الدولة أحد هذه الوسائل وأهمها؛ فالدولة آنذاك كان هدفها الرئيسي المحافظة على نظام العبودية. وقد أفضت ثورات العبيد في نهاية المطاف إلى نشوء المجتمع الإقطاعي، الذي حول العبيد إلى فلاحين، يعملون في الأرض ويخدمون صاحبها مقابل أكلهم وإيوائهم والسماح لهم بالتكاثر.
وقد مثل التحول من العبودية إلى الإقطاع خطوة أخرى في مسلسل التقدم الإنساني. فمن كون الإنسان عبدا وحسب، أصبح إنسانا بمعنى ما، وكان الإقطاع أحيانا أرحم من العصر الرأسمالي، لأنه كان يمنح الناس قدرا من الأمن والحماية على الأقل.
ولم تكن القوى المنتجة في مرحلة الإقطاع تختلف كثيرا عنها في نظام العبودية، كذلك فإن شكل الإنتاج لم يطرأ عليه تغير أساسي، إذ ظل في أساسه زراعيا، فضلا عن أن حجمه كان محدودا.
وما ساهم في اتساع نظام الإقطاع وتعاظم نفوذه، كثرة الحروب التي أوجدت فئة العسكريين المحترفين. ولأن الملوك لم يكن لديهم ما يكفي من المال لمكافأة القادة العسكريين، صاروا يمنحونهم قطعا من الأراضي جزاء لهم على حسن بلائهم في المعارك. كما ساهم رجال الدين بدورهم في إكمال صورة العصر الإقطاعي، فنشروا بين العامة قيم الزهد، وصوروا حياة الإنسان على الأرض بأنها مرحلة مؤقتة، وأن عليهم انتظار الآخرة التي سيجدون فيها تعويضا عن شقائهم في الدنيا.


في أواخر عصر الإقطاع طرأ تحول جوهري على شكل الإنتاج، إذ لم تعد الزراعة هي المصدر الأساسي لثروة المجتمع، وحلت محلها الصناعة، وظهرت فئة الصناع كطبقة منتجة مستقلة، والتي يمكن اعتبارها مرحلة وسطى بين الاقتصاد الإقطاعي (الزراعي)، وبين المرحلة الصناعية المكتملة في العصر الحديث. هذه الطبقة لم تكن قد انفصلت تماما عن الواقع الذي تنتج فيه ومن أجله، بل كانت ولا تزال لها صلات قوية بإنتاجها وبالأغراض التي تنتج من أجلها. والفرق الآخر بين الإقطاع والرأسمالية، أن الأخيرة سمحت بخلق فئة الرأسماليين الذين ملكوا وسائل الإنتاج، وحققوا ثرواتهم ومكانتهم الاجتماعية بجهودهم الشخصية، أو من الفرص المتاحة، خلافا لبرجوازية عصر الإقطاع الذين امتلكوا ثرواتهم ومكانتهم بالوراثة.  
وإذا كانت التجارة قد عُرفت منذ أبعد العصور، إلا أن دورها في هذا العصر كان متميزا؛ فقد أصبح التاجر يعتمد على نوع جديد من الثروة، لم يكن يعرفه العصر الإقطاعي, الذي كانت ملكية الأرض فيه هي الشكل الوحيد للثروة، إنه رأس المال التجاري، الذي اكتسب أهمية فعّالة في شراء المواد والأدوات اللازمة للإنتاج، ولتخزين المنتجات، فضلا عن أهميته في الائتمان والمعاملات المصرفية، وهكذا صارت النقود هي القوة الاقتصادية، وصارت وسيلة لتخزين الثروة، ومقياساً للقيمة.
مع حلول القرن السادس عشر، بدأت المجتمعات الأوروبية تتخلص من السيادة المطلقة لنظام الإقطاع، وقد تم تسديد الضربة القاضية للإقطاع في عهد الثورة الصناعية على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، وفي عهد الثورة الفرنسية على المستوى السياسي.
وبدأت الرأسمالية في عهدها الأول، تشق طريقها بفضل روح المغامرة والاكتشاف، وكانت الأعمال الاقتصادية الناشئة في ذلك العهد تسعى إلى تحقيق أكبر قدر من إشباع الحاجات الاستهلاكية للإنسان. أما عندما اكتملت خصائص الرأسمالية فقد انعدمت روح المغامرة، وأصبح رأس المال "جبانا"، وتحولت المنافسة التي كانت من أبرز سماتها في البداية إلى احتكار يعمل على تخفيف حدة التنافس وتنظيمه لصالح أصحاب الأعمال وضد مصالح المستهلكين. وبدلا من أن تعمل الرأسمالية على إشباع الحاجات الحقيقية للإنسان، أخذت تخلق لديه عادات زائفة، لا هدف لها سوى فتح أبواب جديدة للربح، ولكن على حساب الاستخدام الرشيد لموارد المجتمع. أي باختصار صارت رأسمالية متوحشة.
وهكذا أنجبت الرأسمالية مذاهبها الأخلاقية الخاصة، مثل المنفعة والبرغماتية. وهذين المذهبين كانا تعبيرا عن الطابع العملي لعصر التصنيع، وعن نوع من الأخلاق يقوم بحساب كل فعل تبعا لمقدار المنفعة المترتبة عليه، ولمدى نجاحه العملي، بغض النظر عن قيمته. وصارت هذه القيم تعبيرا عن أشد نزعات المجتمع الرأسمالي تطرفا. وكانت "المكيافيلية" هي التعبير عن أخلاق العصر الرأسمالي "المتوحش"، وعن القيم العقلية السائدة فيه، والتي جعلت من كل نشاط إنساني (بما في ذلك القيم والمبادئ) مجرد سلعة تنطبق عليها قوانين السوق.
وأصبحت الغاية هي إزدهار الأعمال وزيادة الأرباح، لا تلبية الحاجات، وصار مستحيلا أن يصل صاحب العمل إلى نقطة يمكن أن يتوقف عندها ويقول: كفى.
وفي المجتمع الذي لا تحكمه غاية سوى تحقيق الأرباح؛ يصبح الاغتراب من أبرز سماته، والاغتراب هو فقدان العنصر الإنساني في المعاملات الرأسمالية، وهو ناجم عن المنافسة الحامية التي تسود الاقتصاد الرأسمالي، يباعد ما بين البشر، وينشر بينهم العداوة والبغضاء، ويجرد الروح الإنسانية في المعاملات التجارية.
وحتى لو أراد الرأسمالي أن يكون إنسانيا في معاملاته، فإنه لا يملك ذلك، لأن قوانين المنافسة هي التي تملي عليه طريقة معاملته للعمال، وهي التي تحدد طبيعة علاقاته مع منافسيه. فهو ليس حرا؛ بل إن هناك ما يشبه القدر الذي لا يرحم، والضرورة المحتومة التي تتحكم في تصرفاته. ذلك لأن رأس المال، يختنق إذا لم يتوسع، والتوسع يقتضي عمل حساب قوانين المنافسة. وأيضا فإن المستهلك بدوره سيغدو مغتربا عن نفسه في المجتمع الرأسمالي؛ لأن هذا النظام يخلق له حاجات زائفة.
وطالما تغنّى النظام الرأسمالي بالحرية، ولكن سرعان ما تكشّف وجه هذه الحرية الحقيقي، فإذا بها عبودية لمعظم طبقات المجتمع. عبودية ناجمة عن استغلال الطبقات لبعضها، وعن صراع الفرد مع المجتمع، عبودية اقتضتها ظروف الفقر والبطالة والعجز لدى الفئات المسحوقة والمهمشة، وظروف وقوانين العمل التي أُعدت خصيصا لصالح المنتجين.
وكل ما تدعيه الرأسمالية من حريات هو في حقيقته مقيد، فحرية الصحافة الرأسمالية في جوهرها مقيدة، بسبب اعتمادها على الإعلان. وهذا ينطبق بشكل ما على النقابات والاتحادات والمنظمات المحلية، التي تحكمها صراعات مراكز القوى وتوازناتها وعلاقاتها مع مراكز صنع القرار وأصحاب النفوذ. وعلى حرية تكوين الأحزاب، لذلك فإن الأحزاب في الدول الرأسمالية أشبه ما تكون بلعبة مسلية بين الحكومة والمعارضة، تتغير فيها الوجوه، دون تغيير حقيقي في السياسة ذاتها.
لا ننكر أن الحضارة الرأسمالية أحرزت انتصارات ومكاسب لم تتوصل إليها أية حضارة سابقة؛ فقد سيطرت على العالم المادي كمّاً وكيفاً، وسخّرت الطبيعة لخدمة الإنسان، ووفرت للناس سلعا وخدمات شتى، وكافحت الأمراض والكوارث الطبيعية بكفاءة، وأبدعت روائع الفن والأدب، وأحرزت تقدما هائلا في العلوم والتكنولوجيا. وعلى الرغم من هذا النجاح، فقد كانت هناك نقطة ضعف كبرى للنظام الرأسمالي، هي ارتباطه الوثيق بالجريمة، وبالحرب؛ وهما عنصرين أساسيين في صميم بنائها وتركيبها الباطن.
وهكذا، وبعد أن عانت البشرية كثيرا من مثالب الرأسمالية وأزماتها، اجترحت الاشتراكية نظاما بديلا، ليس بوصفها منقذة للبشرية وحسب، بل وأيضا باعتبارها المرحلة الحتمية اللاحقة للرأسمالية، وقد حاولت النظم الاشتراكية بناء نموذجها الهادف إلى نقل المجتمع الإنساني إلى مرحلة جديدة يتخلص فيها من نقائص الرأسمالية، وكانت نقطة البدء في التفكير الاشتراكي هي محاولة استرداد القيم الإنسانية التي أهدرها النظام الرأسمالي. ولكن بؤس التطبيق في معاقل الأنظمة الاشتراكية، والأخطاء القاتلة التي ارتكبها زعماؤها أدى إلى فشل التجربة وموتها، وفي أعقاب ذلك دشنت البشرية عصرا جديدا، إن كان بحد ذاته امتدادا للرأسمالية، إلا أنه يختلف عنها في بعض جوانبه، إنه عصر العولمة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق