أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

أغسطس 20، 2017

ظهور الإنسان (البدايات، والانتشار)


{هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا}
كيف ومتى، جاء الإنسان إلى الأرض؟ هل هبط عليها من السماء؟ أم نبت منها؟ تقدم الأديان والعلوم إجابات مختلفة عن هذه التساؤلات.. التوراة تقول أن عمر الأرض (بما في ذلك عمر الإنسان) فقط ستة آلاف سنة. بينما يقول العلماء أن عمر الأرض 4.7 مليون عام.. وأن الإنسان آخر ما جاء في سلسلة تطور الكائنات الحية.. بعيدا عن الدور الوظيفي للإنسان، ورسالته على الأرض، وبالتركيز على قصة أصوله البيولوجية، تعالوا لنذهب في رحلة إلى ذلك الزمن السحيق، لنتابع رحلة أسلافنا الطويلة والمضنية، من بداياتها المشوقة والغامضة.

إذا كان للإنسان أن يتباهى بأنه سيد الأرض بلا منازع، فعليه أن يتذكر بأن الديناصورات كانت سيدة الأرض من قبله، وأنها ظلت محتفظة بسيادتها المطلقة مدة 130 مليون عاما، إلى أن سقط عليها نيزك هائل أدى إلى فنائها، حيث نجم عنه غيوم كثيفة من الغبار حجبت الشمس لمئات السنين، وتسببت بعتمة الكوكب، ودخوله عصور البرد القارص، ولم ينج من هول الانفجار سوى عدد قليل جدا من الكائنات المتكيفة، التي حفرت تحت الأرض أو احتمت بالكهوف، وهناك تناسلت من جديد لتعيد إنتاج الحياة بعد خرابها. إذْ اكتسبت تلك الكائنات المختبئة ميزة جديدة لكي تؤمّن بقاء نسلها، وهي حمل البيضة في داخلها، لتعطيها أمانا أكثر في بيئة قاسية معادية.
وبينما كانت آخر الديناصورات تودع الكوكب، قبل 65 مليون سنة، فاسحةً المجال لتكاثر الكائنات الجديدة، عبر عملية طويلة جدا وبالغة التعقيد من التطور، انتهت بظهور الرئيسيات العليا، والتي من نسلها جاء الإنسان.
لا أحد يعلم على وجه اليقين متى بالتحديد ظهر أول إنسان، فتحديد بدايات الشيء عملية صعبة، فالبدايات تكون غير واضحة، لأن التغيرات التي تؤثر عليها تحدث دائما عبر عملية طويلة، لذلك لا نستطيع تحديد تلك النقطة التي يسعنا عندها القول: "تلك هي نقطة البداية بالضبط". كما هو الحال في صعوبة تحديد بداية للكون، أو بداية أصل الحياة، ولكنا نستطيع تحديد حقب زمنية معينة شهدت بدايات التغيرات على الرئيسيات العليا التي أفضت لظهور الإنسان.
يقدم لنا علم الأحفوريات أدلة دامغة على نظريات كانت تثير الشك، ويجيب على الكثير من الأسئلة التي طالما حيرت العلماء؛ فمعظم الكائنات الحية التي عاشت في الماضي تحللت أجسادها، أو كانت عشاءً لحيوانات أخرى، لكن بعضها حالفه الحظ فطُمر فجأة تحت طبقات من الطين نتجت عن انجراف أرضي فجائي، أو غطاها الجليد، فتحولت إلى أحفورة.
تشير الأحفوريات إلى أنه قبل 35 مليون عام ظهر أوائل الأسلاف المشتركين للإنسان وللقردة، أي الرئيسيات العليا، التي انعزلت في إفريقية، وقبل نحو سبعة ملايين سنة طرأ حادث جيولوجي في إفريقية، أدى إلى انخساف وادي "ريفت"، وصعود بعض أطرافه شيئا فشيئا لتشكل جدار كبيرا، كان هذا الانهدام الهائل قد شق إفريقيا كلها، وعلى إثر ذلك انقلب المناخ، فاستمرت الأمطار تهطل في غرب الشق، وراحت تتناقص في الشرق، والذين ظلوا غرب الشق تابعوا حياتهم الشجرية، أما الذين وجدوا أنفسهم معزولين في الشرق فواجهوا السافانا والسهول، وقد أمكن لهذا التقسيم البيئي أن يحرّض نوعين مختلفين من التطور؛ فأجيال الغرب انتهت بالقردة والغوريلا الحاليين، أما أجيال الشرق فانتهت بالإنسان، أي أن المسألة برمتها عبارة عن تاريخ التباعد.
وقد عثرت البعثات العلمية في شرق أفريقيا على 2000 عظم بشري وشبه بشري، تعود إلى نحو 3 ملايين عام. ولعل أشهرها وأكملها عظام الجدة "لوسي"، وهي أنثى شابة عاشت قبل نحو 3 ملايين عام، ومن خلال هذه الأحفوريات أجزم العلماء أن الإنسان ولد بداية في شرق أفريقيا، تلك المنطقة التي كانت تنجو على الدوام من عصور الجليد، وبالتالي فإن أفريقيا هي مهد الإنسانية وموطنها الأول. وما يؤكد هذه النظرية أنه لم يتم العثور في منطقة غرب أفريقيا على أي عظام لإنسان أو أشباه الإنسان تعود لتلك الحقب القديمة، ولم يعثر أيضا على عظام لقرود أو غوريلا في شرق أفريقيا تعود لنفس الفترة.
وقد أجبرت بيئة الجفاف وتقلب المناخ في شرق أفريقيا تلك الرئيسيات العليا أن تنتصب واقفة، وأن تبحث عن طعامها وتعمل على تنويعه، وأن تستخدم أياديها، وهذا كله ترافق مع تطور تدريجي في حجم المخ وشكل العظام، ولكن هذا التطور لم يأخذ مسارا وحيدا، فقد شهدت إفريقيا خلال السبعة ملايين سنة التالية ظهور العديد من الرئيسيات العليا التي تشبه الإنسان.
وعند النقطة التي تفرعت فيه فصيلة الكائنات الشبيهة بالإنسان عن غيرها من الفصائل في رتبة الثدييات، لم يعد أمامها غير أحد احتمالين: إما أن تصبح بشرية أو أنها تعجز عن البقاء. وفي واقع الأمر فإنَّ الصنف الوحيد من فصيلة الكائنات الشبيهة بالإنسان الذي استمر في البقاء هو جنس الإنسان (هومو سابينس)، والنوع الوحيد من جنس الإنسان الذي استمر في الوجود هو نوع الإنسان العاقل.

لكي نفهم أصول نوعنا على نحو أدق، ينبغي الأخذ بعين الاعتبار ليس فقط المعطيات التي توفرت عند لحظة ظهور الإنسان المعاصر "الهومو سابينس"، لكن أيضاً المعطيات والأحداث السابقة، التي تضيع منا كلما توغلنا أكثر في التاريخ القديم.
وفي دراسة حديثة أجريت عام 2011, لإحصاء تعداد البشر الذين عاشوا منذ 1.2 مليون سنة وحتى يومنا هذا، بالاعتماد على الهندسة الوراثية، وبتحديد "عدد السكان الفعّال"، وهو عدد الأفراد القادرين على الزواج والإنجاب، (وهم أقل بكثير من التعداد السكاني المتعارف عليه)، وقد اعتمد الباحثون في دراستهم على التسلسل الجيني الكامل ل 6 أشخاص وهم (2 أوروبيين, 2 أفارقة, 1 كوري, 1 صيني) حيث قاموا بمقارنة جميع الجينات، لمعرفة آخر سلف مشترك بينها، ثم حسبوا معدل الطفرات التي تحدث فيها، ومن ثم تحديد "عدد السكان الفعّال".
الدراسة خلصت إلى أن البشرية - وتحت تأثير المناخ القاسي - واجهت خطر الانقراض مرتين؛ الأولى كانت قبل حوالي مليون سنة، والثانية قبل حوالي 50,000 سنة حيث انخفض عدد السكان إلى سبعة آلاف شخص فقط.
هذه الدراسة تثبت أن عدد السكان لم ينخفض إلى مستوى شخصين فقط خلال فترة 1.2 مليون سنة الأخيرة؛ أي حتى قبل مجيء الإنسان الحديث. وهي تثبت أيضا أن التنوع الجيني الموجود في الإنسان الحديث أكبر من أن يزوده شخصين فقط. وتشير الدراسة أيضا إلى أن الحمض النووي للميتوكندريا في جميع البشر اليوم ينحدر من امرأة عاشت قبل نحو 200,000 سنة، وهي تسمى (حواء الميتوكندريا)، وأن كروموسوم (Y) في الرجال ينحدر من شخص عاش قبل نحو 237,000 سنة، ويطلق عليه (آدم كروموسوم)، ما يعني أن حواء الميتاكوندريا وآدم كروموسوم لم يلتقيا أبدا, وبالتالي – وحسب هذه النظرية - فإن البشرية الحديثة لا تنحدر من شخصين فقط.
بدأ الإنسان يصطاد ويتكلم ويصنع أدواته ويتكاثر على شكل مجموعات بشرية، تتكون كل مجموعة من 20 ~ 30 فرد، وكانوا كلما بلغوا هذا العدد، فإنهم يبلغون عتبة يصبح من الصعب بعدها أن يستمروا معا، وذلك بسبب شح الموارد، فتنفصل مجموعة صغيرة منها وتذهب للبحث عن غذائها في منطقة أخرى، حيث تستقر هناك على بعد عشرات الأميال، ومن ثم تعيد الكَرَّة من جديد، وهكذا انتشر أوائل البشر في عموم الأرض وتوسعوا في كافة الاتجاهات.
أولى أفواج المجموعات البشرية التي غادرت القارة السوداء بعد أن ظلت حبيسة فيها لمليوني عام، في بحثها عن مخرج من الغابة إلى أفق الأنسنة، توجهت قبل نحو مائة ألف سنة إلى العالم الآخر، يقول بعض العلماء أنهم دخلوا من جنوب فلسطين (معبر رفح) بعد مرحلة مطيرة كَسَتْ فيها الأعشاب سهول السافانا والصحراء الكبرى، الأمر الذي مكّنهم من التغلب على قيظ الصحراء.
بينما يقول علماء آخرون أنهم ركبوا البحر لأول مرة في التاريخ من باب المندب حتى وصلوا اليمن. ومن ثم واصلوا مغامرتهم حتى ملئوا الجزيرة العربية قبل أن ينتشروا في ربوع الأرض. فاجتاحوا أمريكا مرورا بمضيف بيرنغ عندما كان منسوب البحر منخفضا، أو متجمدا، حتى وصلوا أقصى جنوب التشيلي في رحلة دامت ألف عام. وإلى الشرق وصلوا أستراليا عبر طوافات خشبية قبل 30.000 سنة.
يقول "كارل ساجان" في وصفه لرحلة البشر نحو الإنسانية: "تلك الأصياف الطويلة، والأشتية المعتدلة، والحصاد الغني، والصيد الوفير لا يدوم أي منها للأبد؛ حيث كانت المجموعات البشرية الأولى تعاني بين فينة وأخرى من ظروف بيئية قاسية، وتقع عليهم أحداثا كارثية، فضلا عما كانوا يواجهونه من أعداء معروفين ومجهولين، وهذه كلها كانت محفزات للتكيف والتطور، وتدفعهم للترحال واكتشاف عوالم جديدة، ونحن الآن مدينون لها، ولولاها لما تطور بنو البشر".
وبعد تقهقر عصر الجليد قبل 14.500 عام، بدأ الإنسان العاقل مغادرة حياة الكهوف، والعيش في السهول، وأخذ يطور في صناعة الأدوات الحجرية، التي  منها بدأ مسيرته نحو المدنية.
نشوء المدنيات كانت المرحلة اللاحقة والأهم من تاريخ الإنسان، وهي دليل آخر على أنماط التكيف. وقد نشأت المدنيات المبكرة في السهول الفيضية وعلى ضفاف الأنهار الكبرى: دجلة والفرات، وادي النيل، نهر السند في الهند، والنهر الأصفر في الصين. وأسهمت المدن، والمعمار الضخم، واكتشاف الكتابة، والتجارة، والتراتب الاجتماعي، وتطوير الفنون والعلوم في إرساء الأسس التي اعتمد عليها تراث الإنسانية الحالي.
البحث في بدايات الإنسان وأصوله البيولوجية والتاريخية ليس مجرد ترف فكري، حيث أن معرفة أصولنا الإفريقية تعتبر بمثابة دعوة موجهة لكل الأيديولوجيات العنصرية في العالم، والتي تقيم منظومتها الفكرية والعقائدية على أساس الأفضلية، بأن تكف عن فكرة تفوق الأجناس والشعوب على بعضها. فسكان أستراليا الأصليون والهنود الحمر والأفارقة الذين استعبدهم الأمريكان لقرون عديدة جميعهم ينتمون للإنسان الحديث، ويرجعون لنفس الأصول، مثلهم مثل أشد الأوروبيين غطرسة وتكبرا.
ومعرفة أصول الإنسان البيولوجية - والتي هي في غاية الوضاعة - بمثابة دعوة للإنسان للتواضع، والانسجام مع الطبيعة والبيئة بكل موجوداتها. ومعرفة أن تاريخ الإنسانية برمته ليس سوى ومضة سريعة من تاريخ الأرض وتاريخ الكون، وأن هذا العمر القصير يعني أن ما زال أمام الإنسان عصورا طويلة قادمة ليسكن خلالها هذا الكوكب، وإذا ما استمر في عيشه عليه بنفس هذا القدر من الحماقة والغرور، فسينتهي به المطاف منقرضا. تماما كما حصل للديناصور، ولكن هذه المرة بنيزك بشري مجنون.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق