أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

سبتمبر 19، 2016

برقيات عاجلة من الفضاء..


 إلى رامي في ذكراه المتجددة... لتهبط روحه القلقة بسلام..  
من هذا البعد تحديدا، من فوق الغيوم بمسافة هائلة، تبدو الأرض أصغر، لكنها تظل كبيرة، لا يظهر منها سوى الأنهر، وهي تجري بين الوديان وتعبر السهول بكل أناقة، والبحار بزرقتها المدهشة، والجبال بشموخها وأحراشها الخضراء.. يبدو العالم كتلة واحدة، وقد انمحت الحدود بين الدول.. أحيانا يطغى الأزرق الغامض على لون الكوكب؛ فيبدو هادئا، وأحيانا يسود الأخضر عليه؛ فيظهر متأهبا، ثم يستولي الأصفر على المشهد؛ بكثبانها وصحاريها، فتبدو الأرض محايدة.. شروق وغروب متكرر، يبدد عتمة الأفق، بهالات مضيئة، تذوب فيها الألوان وتتداخل معا بفرح، وتتعانق صانعة لوحة مذهلة.. دقائق قليلة حتى يطغى السواد، ويعم السكون، فتضيئ الأنوار مواقع المدن، ومدارج الطرقات.. جمالٌ متجدد كل ساعة، أحيانا يتوارى خلف كومة من السحب الداكنة والبيضاء.. وحتى السحب نفسها تضفي رونقا آخر على جمالية الصورة.. تلك هي الأرض من بعيد، لكن هذا الجمال خادع.. مثل حية مرقطة مزخرفة، تخفي سـمـّها تحت لوحة من الألوان البديعة.. 

قبالة كافتيريا الكلية، صبيحة ذلك اليوم الخريفي الهادئ، كان "رامي" يجلس وحيدا، على مقعد خشبي ممسكا شطيرته بيد، وحاملا كتابا بيده الأخرى، على كتفيه شال صوفي خفيف يقيه من لسعة الصباح الباردة، وفي أذنيه سماعات تبث موسيقى كلاسيكية، وهو يتأمل الطلبة في غدوهم ورواحهم.. حين جاءه أربعيني يرتدي بدلة رمادية، ونظارات سوداء، وبأدب جم، ووجه صارم سأله: هل أنت رامي الحسن؟ بحركة عفوية ممزوجة بقلق ظاهر أومأ بالموافقة دون أن ينبس بحرف، فقاله له: أرجوك تفضل معي، سأشرح لك كل شيء في الطريق..
على الجهة المقابلة من الشارع، وقفت سيارة ذات دفع رباعي، كحلية اللون، بزجاج معتم، وفي المقعد الخلفي كان ستيني آخر ينتظره بابتسامة مصطنعة، أراد منها تبديد مخاوفه، ودون مقدمات قال له: إسمع مستر رامي، لقد اخترناك من بين آلاف الطلبة، للمشاركة في برنامج ريادي جسور، فإذا وافقت، ستصعد إلى الفضاء.. 
ستة شهور ربما كانت الأصعب في حياته، هي فترة التدريب الثانية المكثفة التي خاضها "رامي"، في مقر مركز أبحاث الأرض والفضاء التابع لكلية الهندسة والطيران في جامعة أريزونا.. لم تكن التمرينات تبدأ وتنتهي في وقت معين؛ بل هي تدريبات مستمرة على مدار الساعة، تشمل كل ما قد يواجهه رائد الفضاء، من إصلاح أي عطب محتمل، إلى تشغيل المحركات، وقبل كل ذلك، تدريبات على الحياة في ظل انعدام الجاذبية.. المشي، الأكل، استخدام الحمام، والأصعب كان ارتداء البزة الخاصة برواد الفضاء، والتي يعادل وزنها ضعفي وزنه..
استلقى على مقعده الخاص، وأوثق جسده بأحزمة الأمان، تفقد بزته للمرة الثالثة، وجلس ينتظر لحظة الانطلاق؛ بأعصاب مشدودة، وعيون جاحظة تراقب الشاشات المثبتة أمامه. كان خفق قلبه يكاد يخلع صدره.. استعرض شريط حياته بسرعة البرق، تداخلت الصور والأسماء بالذكريات بالمخاوف.. أغمض عينيه بترقب وتوجس.. مرت اللحظات الأخيرة بأبطأ ما يمكن.. كان في شبه غيبوبة وهو ينتظر دوي الانفجار الهائل المرتقب أسفل المكوك، ورغم مروره بتجارب مماثلة، وبسرعات تساوي سرعة انطلاق الصاروخ؛ إلا أن شعوره هذه المرة كان مختلفا كليا.. تمنى لو أنه رفض المشاركة.. شعر بندم مخيف.. أحس بأنه مقبل على نهايته.. أراد أن يضغط على زر التوقف..
العيش في عالم تنعدم فيه الجاذبية تجربة فريدة، عدد محدود جدا من الناس من أتيحت لهم هذه الفرصة النادرة، هناك كل شيء مختلف وغريب وفنتازي؛ أبسط التفاصيل التي نمارسها بتلقائية، تصبح مشكلة عويصة، أشياء سخيفة للغاية تصبح خطرا مميتا.. شعور غريب يصعب وصفه، فجأة تفقد إحساسك بالاتجاهات، تنقلب أنت وكل ما حولك رأسا على عقب، حتى المتمرسين لا يمكنهم تجنب الرغبة بالتقيؤ، والشعور بفقدان التوازن، ومع ذلك بعد أن تعتاد على كل هذه الغرابة، تصبح الممارسات العادية مثيرة.. التنقل بين الردهات يشبه السباحة في الهواء، تشعر أنك خفيف مثل ريشة، تحدث زميلك ولا تعلم هل أنت واقف أم مستلق، رأسك للأعلى أم للأسفل، السقف والجدران والأرضية تتداخل فيما بينها على نحو مربك.. كل شيء غير مثبت أو مربوط سيسبح في الفراغ..
أسبوع كامل على موعد المقابلة الأولى، وسؤال وحيد مرتسم على وجهه، منع عنه النوم، وجعله في شرود كامل: لماذا أنا بالذات؟! أنا مجرد كاتب قصة خيالية، ولا أعرف شيئا عن علوم الفضاء.. حتى إني لم أقرأ كتابا واحدا عن الفلك.. ولم يسبق لي أن فكرت أو حلمت بالموضوع.. ثم انفتحت في وجهه جبهة من الأسئلة: هل يُعقل أنهم يريدونني للتجربة؟ كما سبق أن فعلوا مع الكلبة "لاكي"!! هل سيختبرون تأثير السفر في الفضاء على جسمي؟ ثم سيلقون بي هناك.. جثة هائمة في الفضاء..   
ساعتين من الانتظار في صالة متوسطة الحجم، فيها نحو ثلاثين شابا وفتاة، جميعهم أتوا للغرض نفسه: المقابلة الأخيرة التي ستقرر من سيختاروهم للمشاركة في مشروع New Discovery الهادف إلى رؤية العالم من منظور مختلف، وإعادة اكتشافه من جديد.. كان رامي مضطربا ومشوشا، يتمنى في دواخله أن يرفضوه، ليعود إلى حياته الطبيعية.. وفي نفس الوقت متشوق لفكرة المشروع، ويرغب بشدة أن يخوضها.. كيف له أن يفوت مثل هذه الفرصة الثمينة؟! تقدم بخطوات بطيئة، بعد أن سمع اسمه، وبيدٍ مرتجفة طرق الباب.. واصل مسيره بحذر وثقة مصطنعة، وقف معتدلا أمام لجنة من خمسة علماء، حاول أن يبدو متماسكا وهو يجيب على أسئلتهم، مع أن ملفه بالكامل بين أيديهم، وفيه كل المعلومات اللازمة وغير اللازمة، وبالتفصيل الممل.. لكنهم أرادوا التأكد من أنه استوعب طبيعة البرنامج، ودوره فيه.. 
إطمئن سيد "رامي"، لست أول من سيصعد للفضاء، فقد سبقك 180 آخرين، جميعهم وصلوا إلى المحطة الدولية وأمضوا فيها بعض الوقت، وعادوا لديارهم سالمين.. هكذا بدأ د. "ويليام" رئيس اللجنة حديثه؛ بنبرة هادئة، وصوت واثق، ثم واصل كلامه: الأسبوع القادم ستسافر إلى كازاخستان، ومن هناك ستصعد في مكوك "سويوز" الروسي، سيكون معك "جيف ويليامز"، وهو أهم خبير لدينا، وقد صعد للمحطة خمس مرات من قبل.. وسينضم إليكم أيضا ثلاثة آخرون من حقول علمية مختلفة، كلٌ يعرف واجباته والمهام الموكلة إليه.. واصل "وليام" حديثه باسترسال، فيما ظل "رامي" مصغيا بكل اهتمام.. ستمضي قرابة الشهر هناك، ستقضي وقتك في التأمل والتفكير والتخيل.. ستراقب العالم بعين ثاقبة، نريدك أن تصف لنا ما ترى، وأن تكتبه بأسلوبك الأدبي المميز.. ستكتب كيف ترى الأرض من هذا العلو الشاهق.. بحيادية، نريد أن نفهم العالم والناس والأحداث بقلب شاعر، لا بمجسات الآلات، ولا بالإحصائيات ولغة الأرقام.. نريد قلم أديب، وإحساس إنسان مرهف، وخيال فنان.. سنضع هذا كله إلى جانب المعادلات الرياضية وقوانين الفيزياء.. من يدري، قد نخرج بنظرية متكاملة، تفسر لنا ما عجزنا عن فهمه!!
ثم أضاف بلهجة تحذيرية: وعليك أن تدرك أن المشروع سري، لأكثر من سبب، لذلك، إذا كنت تطمع بالشهرة سيخيب ظنك، فقد فرضنا تكتما مشددا على المشروع.. أنت فلسطيني، وليس من مصلحتك أن يصل أي خبر عنك للإعلام؛ ستقوم قائمة الدوائر الصهيونية، وقد تثور جماعات الضغط عليك وعلينا.. 
بدأ العد التنازلي أخيرا.. 10، 9، 8 ... المكوك معلق بالصاروخ من الأعلى مثل طفل يحتضن أمه بخوف.. 3، 2، 1.. صوتٌ مخيف دوّى في الأرجاء، حريق هائل اندلع من مؤخرة الصاروخ، تبعه دخان كثيف غطى المنطقة بأسرها.. انطلق بطيئا في البداية، ثوان قليلة حتى بدأ يكتسب تسارعا هائلا.. بعد دقائق اخترق حاجز الصوت.. ارتج المكوك بأكمله، ومعه ارتجت قلوب الرواد الخمسة.. الصاروخ يمضي مسرعا، يحلّق أعلى فأعلى.. يفلت من جاذبية الأرض.. يتركها خلفه.. يدخل في حيز الفضاء.. يمضي بعيدا بعيدا.. بدأ قوس الأرض يظهر للعيان.. ساعات أخرى تمضي والصاروخ يشق طريقه نحو عنان السماء..
مضت ست ساعات على الانطلاقة، وما زال أمامهم نصف ساعة حتى يبلغوا وجهتهم الأخيرة، بدأ قلق "رامي" يزداد، فهذه المرحلة الأخطر من الرحلة، زحفت الدقائق الأخيرة مثل سلحفاة.. تذكر كارثة المكوك "كولومبيا"، ومن قبله "تشالنجر"، وعشرات الحوادث الفضائية التي أودت بحياة خيرة العلماء.. شعر بقشعريرة خفيفة تسري في بدنه.. تكوم على نفسه بوضعية الجنين، وأخذ ينتظر.. مرت بخاطره ذكريات أيامه الأخيرة على الأرض، وكيف تطورت الأحداث بسرعة مذهلة؛ فقبل أقل من سنة، كان يعيش حياة رتيبة هادئة، يضع اللمسات الأخيرة على أطروحته لنيل الدكتوراة، والتي كان عنوانها: "قيمة الحياة ومعناها في الأدب الأمريكي، همنغوايه مثالا"، وهاهو الآن على متن صاروخ سيقوده إلى أعماق المجهول.. أخيرا استقرت سرعة المركبة تمهيدا لالتحامها بالمحطة، وبكل خفة وبراعة التحم الجسمان.. وعبر خرطوم لولبي عبَر الرواد الجدد إلى عالمهم الجديد، حاملين معهم بعض المؤونة والمعدات.. وبحفلٍ بسيط، رحّب بهم الرواد المقيمون متمنين لهم الحظ السعيد، ثم ما لبثوا أن ودعوهم مع أمنياتهم بهبوط آمن، ووصولهم سالمين إلى الأرض.. بقي رائد الفضاء الروسي "مكسيم سورايف"..
التفت "رامي" صوب زميله الفرنسي د."هيجو"، وسأله مستغرباً: أنت عالم جيولوجيا، وتريد أن تفحص طبقات الأرض من على بعد 400 كلم؟! أليس الأجدر بك أن تهبط للأرض، وتنقب في بطنها بفأسك؟! أجابه بنفس الاستغراب: وأنت كاتب قصة، وتريد أن تكتب عن الناس وأنت في الفضاء، ألا يفترض بك أن تنزل بينهم، تعايشهم، وترى معاناتهم عن كثب؟! تدخّل "سورايف" قائلا: ربما يظن أديبنا أنه في الفضاء البعيد.. في الواقع أنت ما زلت في فلك كوكبنا الأزرق، حتى لو كنت (مجازيا) في الفضاء، وتمكنت من الإفلات من جاذبية الأرض.. بيد أنك لم تتحرر من تأثيرها بعد.. يلزمك أن تسافر بعيدا.. حتى تفهم العالم وأسراره وتعي معنى الحياة.. ينبغي أن تخرج من المجموعة الشمسية بأكملها، بل أن تغادر درب التبانة.. عليك أن تهيم في الفضاء.. بانسيابية.. أن تتحرر بذهنك وجسمك من الأرض، ومن الناس والتاريخ، ومن كل القيود، والتابوهات.. أنظر فقط حولك في كل الاتجاهات.. فضاء رحب فسيح.. ممتد بلا نهاية.. بلا سقف، وبلا بداية.. من هناك، بوسعك أن تلقي نظرة على الأرض.. ستعرف حينها كم هي ضئيلة.. ستعرف حجمنا الحقيقي...
اصطحبه "سورايف" إلى حجرة التلسكوب.. وأخذ يشرح له بعض التفاصيل عن تشكيلات النجوم والمجرات، وعن كيفية رصدها.. صحيح أنه ليس بجدارة "هابل"، لكن هذه الشاشة الضخمة، تسجل كل إشارة تصل لمرآة المرقاب، لأعماق تصل مليارات السنين الضوئية.. إلهي العظيم.. تجلَّ في عُلاك.. قال "رامي"، والإنبهار بادٍ على محياه.. من على هذه الشرفة، ستطل على الكون بأسره.. رد عليه "سورايف"..
الحياة على متن مركبة فضائية، لا تشبه أي حياة أخرى.. على هذه المحطة تشرق الشمس وتغرب ستة عشر مرة في اليوم الواحد، سرعتها خرافية، تدور حول الأرض مرة كل ساعة ونصف، لكنها تبدو ساكنة.. بُنيت على مراحل، هناك في أعالي الفضاء، وبتكلفة بلغت عشرات المليارات.. هذه المعلومات وغيرها كان "رامي" قد تلقاها أثناء التدريب، لكنه تفاجأ من ضخامة المحطة.. واستغرب حين عرف أنها رغم ذلك لا تتسع إلا لستة أشخاص..
تطلب الأمر منه أسابيع مضنية قبل أن يتعود على نمط حياته الجديد؛ عليه أن يمارس رياضة مختلفة، حتى لا تضمر عضلاته، وأن يعتاد على تغير الاتجاهات الفجائي والمستمر، وأن يكيف برنامجه اليومي على إيقاع ساعته البيولوجية الجديدة، وأن يتقبل مذاق الطعام المريع، ومع ذلك كثيرا ما كان يسمع طنينا من داخل أذنيه، وأحيانا يحس أنه أطرافه ليست له، خاصة عند النوم.. مع الوقت أدرك أن بوسعه أن يحدد طول يومه، وشكله، ومواقيت صباحه ومسائه، كما يريد.. أحيانا تغيير الحياة يحتاج قرار.. وحسب..
في قمرته المطلة على ثلثي الأرض، المعزولة صوتيا عن بقية المحطة، كان "رامي" يقضي جل وقته، وحيدا، محدقا في الآفاق، غارقا في صمت الكون.. وعندما يتعب من مراقبة الناس، ينتقل إلى التلسكوب، ليشاهد النجوم والمجرات.. ثم يعود للأرض مرة ثانية؛ يجول فيها من أدناها إلى أقصاها، وفي كل مرة، ودون وعي منه، يجد نفسه مركّزا ناظريه على فلسطين، ثم يقرب الصورة أكثر، فأكثر.. حتى يصل إلى رام الله، ثم ينتقل إلى بيتونيا، يتمشى في شوارعها وأزقتها، يطرق باب بيته، ينتظر برهة متخيلا وجه أمه المتفاجئ.. هل يعقل أن يكون العالم بأسره بين يدي، والكون بوسعه أمامي، أتركهم لأعود إلى بيتونيا!! هكذا كان يسأل نفسه.. ثم يضيف: لا يُعقل أن وكالة "الناسا" تكبدت كل هذه التكاليف لتجعلني أتأمل بلدتي من هذا المكان البعيد، أو لتختبر أشواقي لأهلي..
ظلّت تتنازعه مشاعر الحنين للعودة، ومشاعر البغض والسخط على البشر، وكلما تقدم به الوقت انفصم أكثر عن الواقع، حتى صار يحس بأنه كائن فضائي، ونسي أنه حتى وقت قريب كان يخطئ مثلهم، فقد كذب على أستاذ الأدب المقارن حين قال إن زميله "إدوارد" سرق أطروحته منه، وكذب على "جوانا" حين قال لها إن القهوة انسكبت على فستانها بالخطأ.. لكن هذه الأخطاء من وجهة نظره بسيطة، وتُغتفر.. أما الكراهية، والأحقاد فيعتبرها أساس كل الشرور.. مشاهد الحروب والإقتتال كانت تفقده صوابه.. تنمّي في دواخله إحساسا بتفاهة البشر..
"في حجرة مجنونة، تطير بسرعة صاروخ، معلقة في فضاء ممتد، وتشرف على الكون الفسيح.. تصبح الكتابة جنونا بحد ذاته.. أمام هذا الجمال الأخّاذ، لا ينبغي للمرء أن يمارس شيئا سوى التأمل.. والتماهي في تفاصيل المشهد.. عليه أن يصمت تماما، احتراما لصمت الفضاء.. وخشوعا أمام روعة المنظر.. حاولتُ أن أخـزّن في ذاكرتي تفاصيل المشهد الكوني.. تمهيدا لكتابتها حين نهبط بسلام.. هناك في غرفتي الثابتة المطلة على مشارف القدس، سأعيد كتابة كل شيء، سأدون تاريخ الكون.. أما هنا، من شرفتي الطائرة، فكل شيء مقلوب، لذا، وحتى لا أنسى شيئا، سأكتفي بوصف بعض اللقطات، سأكتفي بشروحات بسيطة، ثم سأجمعها في الديار.. 
رامي الحسن – محطة الفضاء الدولية – أكتوبر 2012".
هذا النص، مع مجموعة من الأوراق عثر عليها المحققون في أدراج حجرة "رامي"، ضمن ملف واحد، خط عليه عنوان من أربع كلمات: "برقيات عاجلة من الفضاء"..
برقية!! قالها المحقق "مايك" باستغراب.. وأضاف: هل ما زال أحد يستخدم هذه المصطلحات؟ ربما نتوقع أن نعثر في حاجياته على تلغراف مثلاً!!
"في زمن سحيق، موغل في القِدم.. كان الكوكب مقسوما لنصفين: نصفه الأول ماء بزرقة غامقة، ونصفه الثاني يابسة بخَضار خجول.. وفي القطبين لوحتين من البياض الطازج.. عند الشاطئ تماما.. يمتد شريط ذهبي من الرمال الناعمة.. يفصل بين زمنين.. لم تخدشه ريح، ولم تطأه قدم إنسان ولا حيوان.. فكل هذه البابسة خلف الشاطئ لا تنبت فيها سوى الأشجار والحشائش.. لا طير يطير، ولا دودة تزحف.. من بعيد لمحتُ سمكةً مغامرة، تُدعى "إكيتو ستيغا"، تهم بالخروج من البحر.. سألتها بحيرة: إلى أين؟ ولماذا ستتركين الهدوء والسكينة، ولمَ تتخلين عن كل هذا الاستقرار!! في البر ستصادفين الليل والنهار، والفصول الأربعة، وتقلبات الطقس، والشمس الحارقة، والأمطار، وربما الثلج والصقيع... أجابت بهدوء استفزازي: ستتصلب زعانفي عمّا قليل، وسأصير برمائية، ثم سأزحف على بطني، إلى أن أطير، ثم سأحمل في رحمي ما لا حصر له من المخلوقات.. سيكون آخرهم وأسوأهم بني الإنسان.. أفزعني هذا السيناريو، وأرعبتني خاتمته.. ومن شدة غضبي انهالت يدي ضربا على رأسها، وأنا أصيح كالثور: سأقتلها قبل أن تبدأ رحلتها المجنونة.. خنقتها بعنف.. وأوقدت نارا وشويتها.. كان لحمها قاسيا، ومع ذلك تلذذت بهرسه، وطربت على صوت عظامها وهي تُسحق تحت أسناني.. ثم نمتُ مطمئنا.. بأن هذي الأرض ستنعم بالسلام مليون سنة أخرى على الأقل.. في الصباح.. ولشدة دهشتي وجدت عشرات الأسماك الأخرى تغامر بالخروج.. لم يعد بوسعي منعها.. عدت للمحطة أجر أذيال الخيبة، كان شكلي مثل مذنَّب معلق في العتمة هاربا من قرص الشمس..
رامي – من مكان ما في هذا الكون الأحمق".
وفي برقية أخرى، كتب: "أدرتُ عجلة "آلة الزمن" بكل قوتي، اندفعتْ بي بسرعة تفوق سرعة الضوء، وجدتُ نفسي أهبط في المستقبل، في أرض غريبة، ناسها غرباء.. في أشكالهم، في تصرفاتهم.. في كل شيء.. كل ما نعرفه اليوم لا وجود له هناك، انقرضت كائنات عديدة، كل الشعوب البدائية والمتمدنة، اختفت عن المسرح، واختفت معها راياتها، وأديانها، وآلهتها، ورموزها.. كانت سلسلة من التفجيرات النووية قد أتت على حضارتنا، في لحظة جنون.. تحولت الأرض إلى قاع صفصف، وفي أقل من طرفة عين صارت بلقعا خرابا.. مثلما حدث للديناصورات في سالف الزمن، دُفنت كل نظرياتنا وأيديولوجياتنا وشعاراتنا، وغابت خلف غيمة من الغبار.. ثديات صغيرة نجت بالصدفة، كانت متحررة من كل شعار.. حملت إنسانيتها في أحشائها، وبذرتها في بطن الأرض من جديد.. ألقيتُ عليهم السلام.. لم يرحب بي أحد.. خافوا مني.. وأظنهم محقين..
رامي – من زمن سيأتي حتما".   
وفي برقية أخرى، كتب: "تنقلتُ بين الأزمان، عدت للماضي بلا حنين ولا أشواق، جبتُ شوارع الحاضر بلا خوف، ولا ضغينة.. زرتُ المستقبل بلا قلق، ودون قيود.. قفزت عن كل الحدود والأسلاك الشائكة.. حلّقتُ بعيداً، وكلما اقتربتُ من السماء، كلما ابتعدت عني أكثر، لا أعلم هل كنتُ أطير بعيدا عن عالمي، أم إلى مركز الضوء في داخلي؟؟ أحببت كل الناس، وكل المخلوقات.. نسيت أسمي، وجنسيتي.. نسيت من هم أهلي.. كل ما أحمله قلبي، وحبي.. وما أرنو إليه حريتي.. أنا الإنسان.. أنا الإنسان الذي عجزتُ أن أكون.. لذا، سأجمّد الزمن في عروقي، سأطوف بجسدي حول الأرض، إلى أن تهدأ روحي.. أو أُولد من جديد..
رامي – من أي مكان في العالم – في يوم لم يأت بعد".
وقف "جيف ويليامز" قبالة "رامي"، وهما متعاكسين، على نحو يصعب فيه تحديد من كان واقفا بشكل صحيح، ومن كان مقلوبا.. وقال له: إسمع مستر رامي، الجماعة في المحطتين الأرضيتين في "هيوستون"، و"موسكو" قلقون عليك، لديهم معطيات سلبية عن مؤشراتك الحيوية، ويتساءلون عن شرودك الدائم، وعن بكائك المستمر بلا سبب.. إذا بدأتَ تعاني من الحنين إلى البيت، سنعيدك للأرض في أقرب فرصة.. رؤوك تقترب من البوابات الخارجية أكثر من مرة، وهذا خطير، وأحب أن أذكرك أن الحرارة في الخارج 80 تحت الصفر، ولا يوجد أوكسجين، يعني حتى الجراثيم لا تستطيع العيش هناك، وأنت غير مؤهل للعمل خارج المحطة، وإذا خرجت ستتجمد على الفور، وستظل تطوف حول الأرض، مثل كتلة باردة، إلى أبد الآبدين.. وقد تفلت من عقال جاذبية الأرض، حينها ستهيم في الفضاء المفتوح، وستتوه بين المجرات، وإذا لم يدعسك جرم هارب، قد تهبط على أحد الكواكب النائية، أو يبتلعك ثقب أسود.. هنا لمعت عينا "رامي"، وتمتم كلاما غير مفهوم.. 
وهذه برقية أخرى، جاء فيها: "كنتُ أرى مدنا جميلة، نظيفة، نساؤها أنيقات.. أغفو قليلا لأصحوا بعد ساعة وقد صارت خرابا.. وتحولت نساؤها إلى سبايا.. يتكرر المشهد عشرات المرات، في كل مرة أبكي.. في الفضاء يصبح الماء صمغيا، يلتصق بالبشرة؛ ومن كثرة ما بكيت تنفخت عيني، حتى سدتها الدموع..
رامي – من مكان يطل على جنون البشر".
وهذه برقية أخرى: "أحيانا ينتابني إحساس بأني صرتُ إلها.. أرقب الناس من علو، أرى ما لا يرون، وأسبقهم في حدود الإدراك.. لكني بلا حيلة، مجرد مراقب متألم، إله محايد.. بل أنا مجرد إنسان بائس.. أمامه كل هذا الجمال الباذخ، ولا يرى سوى أطفالا مشردين، وبيوتا مهدمة، وأمهات ثكلى، وآباء يبكون بصمت.. أرى بشرا يتحاربون، غارقون في صراعاتهم.. كم وددت لو كان بوسعي أن أصفعهم على وجوههم، أن أركلهم على مؤخراتهم.. أن أصرخ فيهم: أيها الأغبياء.. أيها المجانين.. لديكم جنات تجري من تحتها الأنهار.. وتحت أقدامكم كنوزا لا ترونها.. ولا تعرفون سوى الحروب!!
رامي – من سماء محايدة".
"الوطن، مثل كثير من الرموز.. تخيُّل، حُب، مصلحة، يبدأ بالإنتماء، وكثيرا ما يتحول إلى استعلاء، ثم استغلال.. ومع ذلك أحن لبلدي.. أشتاق لبيتي بشدة ولأبي على نحو خاص.. أتذكر دوما غرفة صفي، وأول فتاة أحببتها.. ولون الوردة التي قدمتها لها.. كانت جورية بيضاء.. الحب الأول ولو كان ساذجا، إلا أنه يفتح مسامات العقل، يهيّء القلب للحياة، يغير كيمياء الجسد.. فإذا ما ترافق مع أغنيات أم كلثوم، يكتمل نضوج الروح.. افتقد حبيبتي الآن.. أشعر بالخواء وبأني بلا جدوى بدونها.. اتأمل صورتها كل مساء.. قبل أن أصعد للفضاء، فتحتُ بريدي الإلكتروني، فوجدتُ رسالة منها، وصورة قديمة لها، قلت سأرد عليها بعد حين، هناك، ولكني لم أفعل، ظلت أشواقي معلقة بين السماء والأرض... كم أتمنى لو إني جلبت معي أغنيات فيروز.. مَن غيرها بوسعه أن يؤنس وحشتي.. مَن يخرجني من وحدتي.. مَن يفتح لي دروب نهاري.. عشت ردحا من عمري حاملا جراحي، وذكرياتي... دون ضغينة.. صحيح إني لم أسجل نصرا يُذكر، بيد أني لم أُهزم، بحثت عن السعادة.. ووجدتها.. لكني هنا في آخر كل ليل، أي كل تسعين دقيقة، تزداد قناعتي بأن الحب على وشك أن ينتهي من الكون، أعود الى وحدتي وصمتي، ألوك قطعة من قلبي..
رامي – من ركن قصي، يطل على مشهد خلاب، وخادع"
في أيامه الأخيرة، انطوى "رامي" على نفسه.. انعزل كليا عن الآخرين.. شعر أنه خيّب أمل من أرسلوه، وخاب ظنه في الحياة..
في تقرير لجنة التحقيق كان التركيز على البرقيات، وقد أُرسلت جميعها إلى لجنة خبراء لمعاينتها وتحليلها.. مع صورة للوحة علقها فوق سريره كتب عليها: "من الصعب العيش في ظل انعدام الجاذبية، ولكن الأصعب العيش في ظل انعدام الحب". كما أخذت لجنة التحقيق بشهادات زملائه عن بكائه المرير، وعن أسئلته المثيرة.. أما جثمانه؛ فعلى الأغلب سيظل لسنوات طويلة يجوب الفضاء، يحوم حول كوكبنا.. حُــرا .. طليقاً.. وستظل روحه محلّقةً فوقنا، كما وعدنا.. إلى أن يولد من جديد..


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق