أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

نوفمبر 15، 2015

ذات يوم، كنا صغارا


مثل زهرة أحادية المسكن، لقّحَتها رياح الوجد فأنتجت حقلاً من الأزهار؛ من أبوين يافعين جمعهما الحب، وحملتهما السنون على أكف التعب، هناك في بيتٍ صغير، في أول شارع العمر، عند مدخل الطفولة، وُلِـدنا جميعاً .. فضاؤنا الرحب كان من غرفتين وحسب، أمامهما فناء واسع، يضم شجرة توت باسقة، ملحق به بستان صغير، تتوسطه شجرة جوز ضخمة، كان ذلك في سنوات الخمسينات والستينات، في زمن عبد الناصر وأم كلثوم؛ زمن البساطة والقناعة والأحلام الثورية ..

في تلك القرية المسيحية الطيبة، التي احتضنت بِـحُبٍ أفواجاً من اللاجئين الباحثين عن أمل، وأسكنت في بيوتها عشرات العمّال، ممن سيفنون أعمارهم في مصنع "الإسمنت" المجاور، هناك نشأنا، وحبـوْنا، في شوارعها وأزقتها اختبرنا أولى مغامرات الحياة، وفي الروضة الملحقة بالكنيسة تعلمنا تهجئة الحروف ..


كنا نصحوا مع عصافير الدوري، نملأ البيت صخباً وفوضى، نتناول فطورنا من الزيت والزعتر والفول المجروش، مع إبريق من الشاي المطيّب بالميرمية، نخلق صباحنا الطازج بالضحكات البريئة، والطلبات التي لا تنتهي، نتزاحم على الحمّام، ونتسابق لأخذ المصروف الذي لم يكن يتجاوز القرش، ثم نغادر إلى دفاترنا ومدارسنا، فيما يذهب أبي ليجمع من بين مفارق الصخر قوت يومنا، وليشقَّ من عتمة الليل كوّة نعبُـر منها إلى غدنا، أما أمي فتبدأ بترتيب الفراش، وفتح الشبابيك لتجديد الهواء، وإعداد طبخة للغداء، لتهيئ قلوبنا الصغيرة لاستقبال الحياة ..

في العصارى نجلس على "المصطبة" وعيوننا مُعلّقة على أول الشارع، في انتظار عودة الوالد لاختطاف الأكياس من يديه، كنا نبحث عمّا نشتهيه، أما أمي فكل همها أن يعود بأمان ..

في المساء تنهمك العائلة في التنظيف وأعمال المطبخ، وحل الوظائف المدرسية وتسميع الأناشيد وآيات من القرآن .. لم نسمع يوماً أمنا تتأفّف من أكوام الجلي، ولا أبانا يشكو من المصاريف التي تكسر الظهر، كانت نظرة واحدة من الأب تكفي لتجمعنا، ولمسة من الأم تنفض عن أرواحنا كل ما علق بها من خوف ..

ننام إلى جانب بعضنا صفّاً، مثل لفافات أوراق "الدوالي"، وقبل أن نغفوا تؤلف لنا أمي فصلا جديدا من قصة "نُص نصيص" و"الشاطر حسن"، نستمع لها بكل شغف، كان صوتها حنونا، يأخذنا إلى العوالم البعيدة، إلى نستسلم لنعاس لذيذ ونذوب في دفء الأمومة ..

أشياء كثيرة أتذكرها من تلك الأيام البعيدة؛ طيبة "سِـــتّـي" ولمستها الحانية، رائحة الخبز وأقراص السبانخ، راديو بحجم "السحّارة" وإذاعة صوت العرب، معونات الوكالة، صندل البلاستيك، البرد الذي كان يتسرب من "بلطلوني" القصير، "صوبّة البواري" وتكدُّسنا حولها في ليالي البرد، هشاشة الجو، غموض النقصان، حميمية المساء، واختباء الفرح خلف أكوام من الضباب، وكيف كنا في صبيحة كل جمعة نستحم، ونلبس "اللي عالحبل" ونخرج سويةً للصلاة في جامع ماحص، وأذكر عندما أخذتني أمي إلى مخيم البقعة، للتسوق،كنتُ أتشبث بطرف ثوبها، ونحن نسير ببطء وسط سيلٍ من البشر، وحين فقدتها بكيت، أحسستُ حينها أن العالم قد انتهى، وأن مركز الكون على وشك أن يبتلعه ثقب أسود، عشتُ دقائق من الخوف، وحين أطلّت أمي بقلقها وعتابها وطأتُ جنّـتي من جديد .. بعد أن كبرنا نضجت عواطفنا تجاه الوالدين، وصارت حُبّـاً صافيا ..  

انتقلنا إلى بيت أكبر، واشترينا ثلاجة وتلفزيون، وبات بوسعنا متابعة مسلسل "فارس ونجود"، ومشاهدة أفلام "محمود المليجي"، وشُرب الماء البارد .. خطونا قليلا في مدارج الشباب، صار يخرج من البيت كل عام أخٌ أو أخت، للزواج أو للسفر، تنقص المائدة فردا، ويفتح لنا العالم مدينة جديدة، ونخسر نحن الباقون ضحكة أخرى .. لا أدري إذا كنا قد كبرنا على مهل، أم دفعة واحدة ! المهم أن ساعات الهدوء والصفاء التي كانت تعم البيت قد ولت إلى غير رجعة، منذ تلك الأيام لم نجتمع كلنا على مائدة، ولا حتى مرة واحدة، وزعتنا الأقدار على ثلاث قارات، وتباينت مصائرنا .. ولكن، إنْ فرقتنا المسافات؛ شدتنا ذكرياتنا الأولى، وأعادت ترتيب شظايانا من جديد. وإذا اختلفنا في السياسة؛ جذبتنا جينات الأخوّة. وإذا باعدت بيننا الأيديولوجيات، أو تنازعنا على تفسير الكون وترتيب الأولويات؛ جمعتنا المحبة ..

كبرنا، وكبرت معنا همومنا، واختار كل واحد منا طريقه الخاص، ومن قلب بيتنا الصغير بزغت بيوت كثيرة، وبعد أن غادرنا البيت الذي ضمنا سوية واحدا تلو الآخر .. وفي غفلة من الزمن، صرنا نأتي بيتنا الأول ضيوفا، ونـمُرُّ على تفاصيلنا القديمة مرور الكرام ... وبعد ميعة الصبا، ها نحن كهولا وقد مسّنا "الضغظ" واستفحل "السكري"، وصار كيس الأدوية رفيقنا الدائم ..

كلما عدت إلى نفسي، أستحضر في ذهني جلال البدايات، أُمسكُ بتلابيب الزمن، من ناصيته، أجرّه أمامي فيأتيني طائعا، أطالع وجهه البهي، أتأمله برفق .. يا إلهي ما أجملَه .. ما أروع لحظات التكوّن الأولى .. ليتني أستطيع أن أمدد زيارته، أن أحبسه في قبو لا تصله شمس ولا ريح ..

عدت للوطن قبل عشرين عاما، وصارت العائلة بالنسبة لي مثل فرحة مشتهاة بعيدة؛ أرقبها وهي تكبر وتتمدد، وتنجب المزيد من الأحفاد، أحفاداً من النوع الذي ينمو بسرعة مدهشة، الذين يتحولون بين ليلة وضحاها إلى آباء وأمهات، بينما هم في ذاكرتي القصية ما زالوا أطفالا ينتظرونني كي ألاعبهم، يلوحون لي بأياديهم الصغيرة وأنا أواعدهم صيفاً بعد صيف .. وحين آتي متأخرا، أجد أطفالهم، فينكروني .. 

أشياء كثيرة كبرت أسرع مني، وتركتني خلفها؛ ذاك الطفل الذي فقد أمه "ربع ساعة" وما زال يبحث عن حضنها، وينتظر منها أن تقص عليه حكاية تفسر له مكر الزمان وتقلباته العجيبة ..

أنجز والداي رسالتهما على أكمل وجه، حملتهما الأيام وهناً على وهن، ليشهدا قبل رحيلهما بزمن قصير، تشكّل بدايات جديدة، ودورة أخرى من دورات الحياة .. وكما جلسا على شبابيك الشوق، في انتظار رنة الهاتف، أو على أمل أن يطلّ عليهما أحدنا عائدا من سفر، ها نحن نجلس على ذات الشباك، بانتظار سؤال عن حالنا .. أو سماع خبر ..


أعود إلى شجرة التوت ذاتها، لأجد على أغصانها رفــاً من الحمام المطمئن، وفي أفيائها حكايانا ممددة باسترخاء، وفي الفناء أرى ضحكاتنا وأمانينا وقد نمت واستحالت إلى بساط أخضر، أما حجارة الدار فقد صدعتها الأحزان على من رحلوا وفاتوها .. أطلب المكوث ليومٍ أو بعض يوم، فيسود صمت طويل، أنادي بملء صوتي .. فلا أسمع إلا انكسار الصدى، فأدرك بأن الطريق قد انقطع .. أغادر وقد تحولتُ إلى عشب هش قابل للاشتعال .. 

كثيرا ما أتأمل صورة العائلة المثبتة على جدار الروح، المحاطة بإطار من ذكريات لا يمحوها الزمن، أشعر بزهـوٍ وحُـبور، إذ أنَّ لقلبي أحد عشر كوكبا، تحيط به مباشرة، تدور في أفلاكه، فتسري في عروقي طمأنينة طاغية .. الأخ هو من تحبه بلا سبب، من يؤجّرك قلبه دون مقابل .. الأخ هو من تقاسَم معك الفراش صغيرا، والهمّ كبيرا .. هو خزان لا ينضب من الحب، هو حائط الأمان .. هو من يدفئ قلبك بالحنين لمواجهة الشتاء ..

لعائلاتنا الممتدة:  كل الحب ..
وللوالدين: وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرا .. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق