أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

أكتوبر 12، 2015

هل نحب الحياة، أم نقدس الشهادة ؟


إذا كنتم تحتكرون التلفزيون لمتابعة نشرات الأخبار، وتمنعون أطفالكم من مشاهدة برامجهم المفضلة، وتحشون رؤوسهم بتلك الشعارات الجاهزة، فأنتم تصادرون طفولتهم، وتعتدون على أقدس حقوقهم، وتعيقون نموهم الطبيعي ...

دعوا أطفالكم يكبرون على مهل، أتركوهم لعوالمهم الصغيرة والبريئة، لا تستعجلوا زجهم في أتون المواجهات، لا تجعلوا منهم وقودا لحروبنا، لا تطلبوا منهم رفع رايات الفصائل في النقاط الساخنة، لا تستخدموهم مادة للدعاية الحزبية، البطولة والطفولة عالمان منفصلان، (لا يجتمعان إلا قسرا، في المجتمعات البدائية)، للأطفال حاجاتهم ورغباتهم ومعاييرهم الخاصة، فلا تقحموهم في مشاكلنا وصراعاتنا.


علموا أطفالكم كيف يميزون بين الشجاعة والتهور، وأن التضحية لا تعني الموت بالضرورة، علموهم كيف يحبون الوطن، ولكن بعد أن تعلموهم كيف يحبون الحياة .. أفهموهم أن الحياة مقدسة، وقيّمة، وجميلة، وأنها هبة الخالق العظيم، ولا يجوز أن نفرط بها مقابل تصفيق الآخرين، أو لقاء أي وعد طوباوي .. علموهم كيف يحلمون بالمستقبل، وكيف يحققون أحلامهم. أغمروهم بالحب، بدلا من حلقات التلقين.

أنا لا أعرف تماما ماذا يدور في رؤوس أولئك الأطفال الذين يتحدون الجنود بصدورهم العارية، هل فعلا يريدون تحرير فلسطين، والدفاع عن شرفنا المهدور، أم أنهم يخوضون مغامراتهم على طريقتهم الخاصة ؟ لكني أعرف ما يدور في عقول الآباء وهم ينتظرون عودة صغارهم سالمين، وأعرف حجم الألم حين تُفجع أم بنبأ ابنها الذي تعد له إلى جانب وجبة العشاء مائدة مليئة بالأيام وبالأحلام.

إذا رأيتم أُمّا تزغرد في استقبال ابنها الشهيد، أو سمعتم أبا يقول أنه سعيد بشهادة ابنه .. فلا تصدقوهم، لا توجد أم تفرح لخسارة ابنها، ولا يوجد أب يسعد بموت ابنه، مهما كانت التسميات جاذبة وخادعة، هم لا يكذبون، لكنها حيلة دماغية تسمى مرحلة الإنكار، يلجأ إليها عقلهم الباطني لحمايتهم من هول الصدمة، وحتى يمكنهم إستيعابها، ولجعلهم يتشربون الخبر المفجع على دفعات .. المأساة أن الإعلاميون والحزبيون يستغلون هذه اللحظات الموجعة إما لسبق صحفي، أو لرفع أسهم الحزب، أو للدعاية الأيديولوجية ..

جريمة إنسانية أخرى نرتكبها بحق الأهالي الذين يفجعون بخسارة أحدهم، وخاصة أمّ الفقيد وشقيقاته وقريباته، وحتى زوجته وبناته .. ذلك لأن "العقلية الذكورية" لا تسمح للمرأة بالمشاركة في الجنازة، أو حضور مراسم الدفن، وكثيرا من الأحيان لا يُسمح لها بإلقاء نظرة الوداع، أو بحضن الفقيد وتقبيله .. يستعجل أبناء القبيلة في عملية الدفن ومواراة الجثمان الثرى (يعني التخلص من الجثة بعبارة أدق) ليعودوا إلى حيواتهم سريعا .. والمأساة تتجلى حين يمنع المعـزّون أهلَ الفقيد من البكاء والصراخ، بحجة أن هذا لا يجوز، وأن عليهم الصبر ... من هذا الغبي الذي أقنعكم أن البكاء على الميت حرام !! في تلك اللحظات الأليمة، يحتاج أهل الفقيد للتعبير عن مشاعرهم بحرية وعفوية، ولأنهم في لحظة ضعف، لن يأبهوا كثيرا للشكليات الاجتماعية، دعوهم يبكون ويحضنون أحبتهم، تلك اللحظات الخاصة حق حصري لهم، لا تحرموهم إياها، لا تقمعوا انفعالاتهم ولا تحبسوا آهاتهم ..

لا تفرحوا للموت، ولا تصفقوا له كثيرا، الشهيد لن يستفيد من هتافاتكم، سيتحول إلى "بوستر"، ومجرد ذكرى عابرة، ثم لن يُذكر .. سيوغل في النسيان، وبأسرع مما تتوقعون .. هو خسر حياته ومستقبله، ومضى وحيدا .. وحدهم الأبوين، أو الزوجة، سيظلون يتجرعون أحزانهم بصمت .. ولزمن طويل .. زمن ثقيل .. ما ترونه وتتداولونه مجرد صورة، أما أهل الشهيد فيرون ذكريات وأماني ومشاريع، ومشاعر من دم ولحم وكلام قيل وسيُقال .. كلها انتهت في لحظة واحدة، تبخرت مثل خيط دخان .. تاركة وراءها الدموع والحسرات ..

ليس في هذا أي تقليل من قيمة الشجاعة وأهمية التضحية، أو انتقاص من قدر الشهادة .. ولكن لنتعلم كيف نحب الحياة ونتمسك بها دون أنانية، وكيف نحترم الشهيد وأهله دون نفاق اجتماعي، أو انقياد لمفاهيم وتقاليد سيطرت علينا دهورا طويلة ..


الرحمة للشهداء، والمجد والمستقبل والحياة لأطفالنا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق