أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

يونيو 10، 2015

طرب في طرب

كلما كنتُ مجبراً على سماع الراديو لساعات متواصلة، أثناء قيادة السيارة مثلاً، وأنا أتجول بين عشرات المحطات المحلية، باحثاً عن أغنية جميلة، دون جدوى، تنتابني رغبة جامحة لأن أجمع كل المسؤولين عن اختيار الأغاني في تلك المحطات وأطرح عليهم سؤالا واحدا: "من وين جايبين هذا الذوق الهابط ؟!!" أما حين أكون في "الباص"، ويجبرنا السائق على سماع محطة معينة، تبث موجة من الصراخ المزعج، فأتمنى لو أُمسكُ بصاحب هذه المحطة، (مع السائق) وأحشرهم في غرفة بدون شباك، وأصبُّ عليهم جام غضبي.


لماذا في العشرين سنة الماضية، لم يعلَق في وجداننا سوى بضع أغنيات لا تتجاوز العشرة في أحسن الأحوال، رغم أن عدد المطربين العرب أكثر من الهم على القلب !! بينما في سنوات الخمسينيات والستينيات والسبعينيات ظهرت مئات الأغنيات الرائعة، التي ما زلنا نرددها إلى اليوم، ونطرب عند سماعها كل مرة !! لماذا شهد ذلك العصر بزوغ نجم عمالقة الفن والطرب، ثم أخذ مستوى الأغنية العربية يهبط تدريجيا، حتى صارت بالكاد تصلح لسهرة عرس، أو للتحريض على "طوشة"، ويكفي سماعها مرة أو مرتين بالكثير !! وأحيانا يفضل عدم سماعها بالمرة .. أي أن مدة صلاحيتها قد لا تتجاوز الخمس دقائق، في حين أن الأغاني الطربية ما زالت حاضرة بكل بهائها وجمالها رغم مرور أكثر من خمسين سنة على ميلادها !!


يقول المختصون في سوسيولوجيا المجتمعات، أن لكل جيل ذائقته الفنية الخاصة به (التي يعتقد جازما أنها الأفضل). فعلى سبيل المثال حين ظهر "عبد الوهاب" رفضه سدنة الجيل السابق، واحتاجوا وقتا طويلا ليتقبّلوا ألحانه ويتفهّموا ثورته الموسيقية الجديدة، ثم يتوجوه "موسيقارا للشرق"، اليوم، الكثير من أبناء الجيل الحالي لا يستسيغون أغانيه .. حتى أنه حين لحّن لأم كلثوم "إنت عمري" لم يتقبل البعض إيقاعها الجديد والمختلف كليا عن اللحن التقليدي الذي سارت عليه أم كلثوم لسنوات طويلة بصحبة "السنباطي" .. 


السؤال هنا: ما الذي ساهم في صناعة أولئك العمالقة ؟! هل هو الجهد الشخصي، والملَكَة، والموهبة ؟ أم توافر جملة من العوامل الموضوعية لم تعد موجودة اليوم ؟! للإجابة، سنطرح بعض الأمثلة:


"أم كلثوم"، لم يكن لها أن تتربع كل هذي السنين على عرش الأغنية العربية، متوجه بلقب "كوكب الشرق"، لولا أنها كانت محاطة بمجموعة من العمالقة الذين ساهموا في صناعة مجدها: كبار الشعراء من أحمد رامي وإبراهيم ناجي وبيرم التونسي وغيرهم، خيرة الملحنين (السنباطي، عبد الوهاب، بليغ حمدي، زكريا أحمد، سيد مكاوي)، وجوقة من أفضل الموسيقيين، حتى أنها حظيت بدعم الزعيم عبد الناصر شخصيا .. ولكن هل المسألة تعتمد فقط على وجود ملحنين ومؤلفين كبار ؟ ودعم من الدولة ؟


في المقابل، "عبد الحليم"، لم يحظ في بداية مشواره بأي دعم، ولم يلتفت إليه أي ملحن مهم، لكنه شق طريقه بنفسه، وحفر في الصخر، حتى أنه في أول حفلة له رمى عليه الجمهور "بكسة بندورة"، ويقول النقاد إنه لم يكن صاحب الصوت الأحلى، لكنه كان صاحب الصوت الأذكى والإحساس الأصدق؛ فقد كان يغني من قلبه قبل حنجرته .. لذلك صار كل من يسمعه يشعر كما لو أنه يغني له شخصيا، وصار "معبود الجماهير"، و"العندليب الأسمر".


"فريد الأطرش"، امتلك موهبتي الغناء والتلحين، والبحة الحزينة، وصار ملك العود، وموسيقار الأزمان، وكذلك أخته "أسمهان" التي تركت إرثا عظيما في فترة قصيرة، حيث غيّبها الموت مبكرا .. وأيضاً "فايزة أحمد" بصوتها الجياش الذي يقطر أسىً وعذوبة، و"ميادة حناوي" مطربة الجيل، وهناك أيضا "نجاة الصغيرة" بصوتها الهامس الذي يلامس أوتار القلوب في عذوبة تمنح فرصة التحليق في أجواء العشق، وهؤلاء أتوا من سورية وانطلقوا من القاهرة، التي كانت قبلة الفنانين وموئل الفن والطرب. ولكن القاهرة ليست الشرط الأساسي للنجاح؛ "فيروز" صنعت كل مجدها في لبنان، وكذلك "وديع الصافي". "ناظم الغزالي" لم يغادر بغداد، و"سعدون جابر" لم يغني بغير اللهجة العراقية، وبالمثل الفنان السعودي الكبير "طلال مداح".


نلاحظ أن فناني الزمن الجميل (لنتفق مبدئيا على هذه التسمية) قد اعتمدوا على موهبتهم ومثابرتهم قبل أي شيء آخر، وأقصى ما كانت تقدم لهم الدولة من دعم، هو تقديمهم عبر الإذاعة والتلفزيون، بينما تتوافر لمطربي الجيل الحالي تقنيات إعلامية هائلة، تعطيهم فرصة الانتشار وعبور الحدود بأقل تكلفة، بالإضافة للبرامج المتخصصة بدعم واكتشاف المواهب الشابة (عرب أيدول، وإكس فاكتور، وذافويس وغيرها)، وهذه بعد أن تدربهم وتصقل موهبتهم وتصنع منهم مشاهير بفترة قياسية، تقوم باحتكارهم وتقييدهم والمتاجرة بهم من خلال عقود الحفلات، وبالتالي تضيع تلك المواهب، وتصبح امتدادا لما هو موجود في الساحة من فن هزيل (هنالك بعض الاستثناءات، منها محمد عساف مثلا).


من مطربي ذلك الزمن الجميل أيضاً "وردة الجزائرية"، التي تكاد تنازع أم كلثوم بعبقرية فنها، و"عفاف راضي" بصوتها الحنون الرقيق، و"شادية" قيثارة الغناء العربي، و"هاني شاكر" أمير الطرب .. واؤلئك تميزوا بأصوات نقية عذبة، وموهبة فريدة في الغناء، لكن في الجيل الحالي هنالك عشرات الأصوات المميزة والقوية، وأصحابها موهوبون حقا (إذْ أن قوة الصوت ونقائه وعذوبته لا تختص بعصر معين)، ولكن ما الذي يمنعها من أن ترتقي أكثر، وتقدم أغنية طربية حقيقية !؟ حتى أن فنانين معاصرين كبار، أمثال "كاظم الساهر"، "ماجدة الرومي"، "محمد منير" وغيرهم، رغم كل إبداعاتهم إلا أنهم ما زالوا دون مستوى الجيل السابق.


يقول بعض النقاد، أن أزمة الأغنية الحديثة تكمن في ضعف الكلمات. علما بأن ديوان الشعر العربي (القديم والحديث) مفتوح على مصراعيه لأي فنان، ويستطيع أن ينهل منه ما يشاء، وكبار الفنانين فعلوها، ومن ناحية ثانية، فإن الكثير من الأغاني الطربية الخالدة كلماتها ساذجة وبسيطة، ومع ذلك حفظناها وأحببناها. ومن الجدير بالذكر أن معظم الأغاني المصرية بالذات قد تميزت بكلماتها المباشرة والواضحة والسهلة، خلافا للأغاني الخليجية واللبنانية (بالذات فيروز) التي تميزت بالكلمات العميقة والصور الشعرية الحالمة والتشبيهات المجازية الجميلة، حتى في الأشعار العاميّة. 


يقول الموزعون ومقاولوا الفن أن الجيل الحالي لا يحب الأغاني الطويلة، ونزولاً عند رغبتهم، صارت الأغاني قصيرة، وسريعة .. وعلى ما يبدو أن هذا هو مربط الفرس، فقد وقع مغنيي الجيل الحالي في هذا الفخ، وصدقوا تلك الكذبة، وصاروا أسرى للأغنية السريعة، التي تخلو من المقاطع الموسيقية. الملحنين الكبار أمثال الأطرش، وبليغ، والسنباطي، وعبد الوهاب، والموجي، والشريعي وغيرهم كانوا يفردون مساحات شاسعة في ألحانهم للموسيقى، وينوعون في المقامات للأغنية الواحدة، ويتنقلون في الألحان والمقاطع بخفة ورشاقة وعذوبة تسحر الألباب .. وربما أن الملحنين المعاصرين يتجنبون المغامرة بأغنية طربية طويلة، مليئة بالموسيقى، لأنهم عاجزون عن ذلك، أو لأنهم محكومون باشتراطات شركات التوزيع، وهذا ما انعكس سلبيا على المطربين أنفسهم.


الأغنية الأصيلة لا تُنجَز بيوم وليلة (كما يحدث الآن)، والفنان الحقيقي لا يحتاج "فيديو كليب" بمؤثرات بصرية "تقلب طاقية مخنا" ... يحتاج ثقافة موسيقية، وإحساس صادق قبل الموهبة ... ثم يحتاج بعد ذلك إلى لحن وكلمات ومنتج لديه التزام نحو الفن.


المعضلة ليست في إيقاع العصر السريع؛ بل في رغبة مقاولو الحفلات وشركات التوزيع بالثراء السريع .. حتى لو كانت النتيجة إفساد الذوق العام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق