أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

أبريل 01، 2015

حروب بلا آفاق


في نفس النشرة الإخبارية نسمع: سقوط إدلب بيد المعارضة، تحرير تكريت من أيدي داعش، قصف مواقع الحوثيين في صعدة، معارك شديدة بين قوات حفتر والجماعات الجهادية. والقائمة تطول ..

في كتب التاريخ التي قرأناها في المدارس، كنا نميّز بوضوح بين كل حرب وأخرى، من خلال اسمها وهوية الجهات المتحاربة، وغايتها من الحرب .. في المستقبل القريب، إذا أردنا تحديث المناهج، وإعادة كتابة تاريخ المرحلة، سنحتار كثيرا، وسنحيّر الطلبة أكثر في فهم هذه الحروب التي نشبت فجأة بعد اندلاع ما سمي بالربيع العربي، سنُتعبهم في حفظ أسمائها، وفهم أسبابها غير المنطقية، وتبدلاتها الرهيبة، فكثير منها وقعت وانتهت وتجددت مرة أخرى، بأعداد مهولة من الضحايا، أحيانا بصخب إعلامي مبالغ فيه، وأحيانا بصمت مريب !! بعضها شهدت تبدُّل الجهات المتصارعة، وتغيير تحالفاتها، حتى أننا لم نعد قادرين على تمييز الحليف الإستراتيجي من العدو المركزي.

بتأمل هذه الحروب سنجد أن ما يجمعها خطابا ثوريا دوغمائيا يتشابه في مقاصده وتوجهاته بقدر اختلاف مضامينه، يرتكز هذا الخطاب (على لسان جميع القوى المتصارعة) على محورين: شيطنة الخصم وتكفيره وإبراز كل مساوئه، والثاني الإدعاء بالفضيلة وامتلاك الصواب والدفاع عن الحق.

السعودية تدّعي دفاعها عن العروبة في مواجهة ما أسمته التمدد الصفوي الفارسي، الحوثيون يرددون شعارهم الأثير "الموت لأمريكا واليهود"، السيسي وعبد ربه منصور صارا يمثلان الشرعية، وخصومهما خارجين عن القانون يعبثون بأمن الأوطان لصالح أجندات خارجية، داعش تدعي دفاعها عن السُنَّة، وعصائب أهل الحق تدافع عن آل البيت، حزب الله والأسد يصدون مؤامرة كونية تستهدف سورية ومحور المقاومة، جبهة النصرة تحارب النصيرية والروافض، أنصار بيت المقدس تحارب الإنقلابيين، أمريكا وحلفائها يزعمون أنهم يحاربون الإرهاب ويعملون على إرساء الديمقراطية، الجماعات الجهادية تريد العودة إلى منابع الإسلام التاريخية وإحياء عهد الجزية والسبايا والغنائم، بوكو حرام تحارب النصرانية والصليبية (بخطف النساء والأطفال)، حفتر يريد تخليص ليبيا من الإرهابيين، وخصومه يريدون تحرير ليبيا من الفساد .. إلخ

في هذا المشهد الدامي والبائس، لم يفقد المواطن العربي أمنه الشخصي ومستقبله فقط، بل فقد بوصلته. الكل يدعي نيته تحرير فلسطين، ونصرة الإسلام، وإحياء العروبة، وتحقيق العدالة .. بينما في حقيقة الأمر الكل متورط في حروب طائفية مذهبية وفي صراعات عقيمة على السلطة، وإسرائيل تنعم بأمن واستقرار لم تحلم به في تاريخها قط.

في هذا المشهد المعقد والمتداخل يختفي الجميع خلف خطاب تضليلي يستخدم أحدث التقنيات الإعلامية، يُراد منه حجب النوايا الحقيقية للقائمين عليه، يركز هذا الخطاب على نقطة الضعف القاتلة لدى المواطن العربي، المتمثلة في انتمائه الديني وخلاصه الآخروي، باعتبار أن الدين بات يمثل الملجأ الأخير للإنسان العربي المقهور والخائف والمرتبك، خاصة في هذه اللحظة من عدم التوازن. ولذلك ظهرت فجأة تلك النزعات الطائفية التي تحاكي غرائز الانتماء البدائي، وتحثُّ على استخراج مارد العنف الديني، لاستخدام أقصى درجات العنف "المقدس" ضد الخصوم، في معارك يائسة تبدو من الخارج دفاعا عن الطائفة والحق، وهي ليست أكثر من مظهر خداع تخبئ تحت قشرتها أبشع أشكال الجشع والرغبة الجامحة بالإستئثار بالسلطة، ومنافعها ومكاسبها.

هذا ما نراه عند رؤية المشهد على مستوى التفاصيل والوقائع، ولكن عند رؤيته بصورة أكبر سنرى أن ما يجري حقيقة هو إعادة ترتيب الإقليم برمته، في خطوة استباقية تسعى أن تلتف على تطلعات الجماهير ومشروعها التقدمي للخلاص الوطني من الفساد والطغم الحاكمة، حين انتفضت في ثورات شعبية لتسقط أنظمتها العفنة، وتستعيد كرامتها وحريتها. اللاعب الأساسي هنا أمريكا، واللاعبون الكبار هم إسرائيل وتركيا وإيران، في مواجهة لاعبين أصغر هم السعودية ومصر، تصطف على جانبي المعسكرين دول أصغر، بأدوات أصغر هي تنظيمات وقوى سياسية وجماعات دينية تتعدد أشكالها ومسمياتها وألوان عمائمها وراياتها .. والضحية واحدة: الشعب العربي بحاضره ومستقبله.


بعد أن كادت الجماهير الشعبية أن تمسك باللحظة التاريخية التي يمكن من خلالها أن تؤسس لمستقبل أفضل، ظهر معسكران يدعيان تمثيلهما للسُنّة والشيعة (طهران والرياض وحلفائهما)، ودخلا في موجات صراع دموي مفتوحة بلا أفق، تمتد ساحتها من تونس إلى الموصل، تستنزف قدرات المنطقة وحاضرها بالكامل، أعادتنا إلى زمن الحروب الدينية، وأحيت أحقاداً تاريخية عفى عليها الزمن، هذا المعسكران رغم صراعمها وتناقضهما إلا أنهما متفقان (بقصد أو من غير قصد) على مسألتين، الأولى: قتل الحلم العربي، وتيئييس المواطن من إمكانية التغيير، ووضعه أمام خيار وحيد، هو العودة إلى أحضان النظم الاستبدادية، وتمديد فترة حكمها. والثانية: استبعاد القضية الفلسطينية من سلم الأولويات، وإخراج إسرائيل من دائرة الاستهداف (الحقيقي)، وهذا المخطط يسير بقوة الاندفاع في صراع قبلي ديني طائفي، يستبدل العدو المركزي بأعداء جدد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق