أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

ديسمبر 11، 2014

مدينة من زجاج


المدينة فارهة وفارغة، شوارعها تنز جمالاً وبؤساً، لكن الجزء الأهم منها يعيش خلف الزجاج، خلف الشبابيك المغلقة، خلف الفاترينات، بعضهم كان يختبئ من فضيحة .. وآخرون يتوارون خلف يافطة .. حتى القمر في تلك الليلة كان نائما في حضن الغيمة الرمادية. في الزاوية الخلفية من المطعم كان رجلين أنيقين يفوح منهما عطر باذخ، يتجادلان بعصبية، وعلى مقربة منهما سيدة أربعينية تجلس قبالة مدفأة الحطب، وهي تنظر بسخرية للبرد .. وآخرون ملتصقون بالنافذة ويستمعون بطربٍ لصوت المطر .. في الجهة الثانية من نفس المساء شابات في مقتبل العمر يتراكضن داخل المول في حملة تسوق، وأصدقاء يلتهمون ظلالهم على مائدة مطلة على الشارع، حتى مجلس الإدارة عقدَ اجتماعه الشهري في المكتب الزجاجي احتفاءً ببدء الشتاء .. 

الشارع مضاءٌ بمصابيح تشبه القناديل، ينعكس نورها الخافت بلون النحاس على رصيفٍ مبلط بمكعبات قرميدية، وقد بدا نظيفاً إلى حد ما .. وبين مسافة وأخرى وُضعت سلال للنفايات، يلقي بداخلها المارة أسرارهم وسجائرهم وما فاض من طعامهم، لتنتظر بدورها آخر الليل حتى تنبشها القطط وبعض الجائعين .. المحلات تتهيأ للإقفال بعد يوم طويل، ومضني .. السيارات في صف منتظم، تمشي على مهل .. ليس احتراما للمشاة؛ بل بسبب ازدحام خفيف .. معظم الناس كانت قد عادت لبيوتها، ولم يبقَ في الطرقات سوى القليل: من يبحثون عن ملهى، عمّال هدَّهم التعب، وبعض المشردين .. والسكارى ..

كان وحيدا، يمشي بتثاقل، يحسُّ أن المدينة والجدران والواجهات الزجاجية تناصبه العداء .. كلما التصق بالحائط ليبول يأتيه شرطي المرور ويحرر له مخالفة "الوقوف في مكان ممنوع"، وإذا اقترب من شوّاية الدجاج ليدفئ قلبه؛ طرده العامل الذي سينام بعد ساعتين بدون عشاء .. وإذا نظر للسيدة الأنيقة الجالسة خلف المقود في سيارتها ذات الدفع الرباعي أسرعت نحوه وداست على قدميه .. وإذا عبّرَ عن إعجابه بدمية المانيكان الواقفة بشموخ على واجهة المحل، اتهمه صديقه بأنه شاذ .. لكنه طالما أكد له بأنها ليست مجرد دمية .. وفي المرة الأخيرة أقسم أنها ابتسمت له، بعد أن حملق فيها مطولاً .. 

كانت الصالة مطفأة تماماً، ربما لإتاحة قُبلةٍ بين عاشقيْن، أو لترتيب حفلة عيد ميلاد، أو لترشيد استهلاك الكهرباء .. أو لأن المحل كان مغلقا في هذه الساعة المتأخرة من تلك الليلة الباردة .. المهم أن الزجاج المعتم كان يعكس صورته بوضوح؛ فوقف أمامه متأملا نفسه، أزعجته خطوط التجاعيد أسفل عينيه، لكنه فرحَ لشَعره الذي ما زال محتفظا بلونه، فأدخل أصابعه في خصلة منه وسرَّحَه باتجاه اليمين، ابتسم لنفسه قليلاً، ولم يكن بحاجة للتأكد من نظافة أسنانه؛ فهو لم يأكل منذ يومين .. ثم أطلق ضحكة ساخرة، وأخذ يتمايل يمنة ويسرة بحركات عابثة .. فجأة أُضيئت الصالة .. اختفت صورته على الفور، ورأى بدلا منها خلف الزجاج مباشرة ثلة من الشبان يؤشرون بأصابعهم نحوه، وهم يقهقهون بأعلى صوتهم ..


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق