أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

سبتمبر 27، 2014

غرباء في جزيرة


في جزيرة صغيرة، على طرف المحيط الهادي، في الأشهر الأخيرة من الحرب العالمية، وجدتُ نفسي فجأة مع جنديين غريبين وجهاً لوجه؛ وبنظرات تملؤها الشك والريبة،  كما لو أننا نصحوا من غيبوبة على مشهد نراه لأول مرة، تأملنا وجوه بعضنا البعض .. كانت تبدو علينا علامات التعب والإعياء، أجسادنا ضامرة، أسناننا مصفرة، وعلى ثيابنا بقع دماء جافة والكثير من الغبار، وفي عيوننا يلمع الخوف المصحوب بالرجاء والقلق .. وفي يد كل واحد منا بندقية، يمسكها بعصبية وتوتر ..

الأول عيونه ضيقة تشبه الصينيين، لكن شعره أشقر مجعد، الثاني أبيض البشرة، ولكن بملامح هندية .. على ما يبدو أن ثلاثتنا نتاج زواج هجين بين أجناس مختلفة؛ فأنا أسمر وعيوني ملونة وشعري ناعم .. أعمارنا متفاوتة؛ الأول في نهاية الأربعينات، ومن الواضح أنه برتبة ضابط، أما الثاني فكان مثلي، مجرد جندي في أواسط العشرينات. لم تكن هذه هي المشكلة؛ فقد كان لكل واحد منا لغته الخاصة التي لا يعرف سواها، وهذا ما جعل التواصل بيننا أشبه بالأحجيات ..


كان الجو بارداً، والغيوم تنذر بيوم ماطر .. وقد مضى يومين لم أتناول فيهما سوى كسرة خبز، وعلبة تونة صغيرة، كنتُ أتضور جوعا، لدرجة أني لم أتساءل أين أنا ؟ وماذا حل بسريّتنا الصغيرة ؟ بقدر ما كنت أتساءل أين يمكن أن أجد طعاما في مثل هذه الجزيرة المهجورة !! وبالتأكيد كان الجنديان الآخران مثلي .. يشعران بالخوف والتيه والحيرة، إلى جانب الإرهاق الشديد.

بحذر وبطء اقترب الضابط مني، حتى وقف على مسافة أمتار، ثم أشار بكلتا يديه إلى أعلى بطنه وقال بصوت مرتفع: بوكو بوكو .. لم أميّز إذا كان يُعرّف عن نفسه، أم كان يريد القول أنه بطنه يؤلمه من شدة الجوع ؟! انتظرت قليلا لأرد عليه، فجاء الجندي الثاني مصوبا بندقيته باتجاهنا وهو يردد بصوت متوتر: سيمي ما، سيمي ما .. وقفنا على الفور دون أن ننبس بحرف .. ساد الصمت المريب لدقائق، حتى هدأ خوف الجندي قليلا، فأنزل بندقيته وعيونه شاخصة باتجاهنا تحدق بنا بغضب مفتعل.

بهدوء، وبلا ترتيب معين، توجه كل واحد منا في مسار مختلف، تفرقنا بسرعة غير متوقعة، سرت على غير هدى وفي ذهني آلاف الأسئلة والصور المتضاربة، وبعد نصف ساعة بدأت أتساءل بقلق عن مصير الجنديين، وأين يمكن أن يذهبوا ؟ وهل نحن أعداء ؟ أم من نفس الحلف ؟ هل سنقتل بعضنا البعض ؟ أم سنتعاون معا للخروج من هذه الورطة ؟ ولكن كيف؟ ونحن لا نعرف لغة مشتركة ؟ وكل واحد منا يتربص بالآخر ؟!

قبل المغيب، كنا قد رجعنا إلى نفس الموقع، كما لو أن نداء خفيا استدعانا، تبادلنا تحايا مقتضبة مرتبكة، وبلغة الإشارات، اتفقنا أن نمضي الليلة هنا، أشعلنا نارا صغيرة، تجمّعنا حولها، نتبادل النظرات السريعة دون أن يتحدث أحد .. وبصمت يشوبه الخوف، تكوّم كل واحدٍ منّا حول بندقيته، وعيناه مفتوحتان نحو السماء، يحدوه أمل بأن قواته ستأتي لنجدته غدا، أو بعد غدٍ على أبعد تقدير ..

لسعتني شمسُ الصباح، فأفقتُ مذعوراً، أشعرُ بصداع قوي، وقد تطلب الأمر ثوانٍ قليلة حتى أدرك أين أنا، وأستعيد مشاهد اليوم الفائت، لاحظتُ أن شريكيّ في الجزيرة مستيقظين، فأطمئن قلبي بعض الشيء؛ فلو أرادا قتلي لفعلا ذلك وأنا نائم. أخرجنا بعض المعلبات من جعبنا العسكرية، وتناولنا فطورا سريعا .. مُسنداً ظهري إلى جذع شجرة، ومستغرقا في التفكير، تمنيتُ بشدة لو أحظى بكوبٍ من القهوة .. ثم أدرت وجهي لئلا يرى الجنديان دموعي الساخنة ..

في المساء، وجدنا جثة ممددة على صخرة ملساء صُبغت بالأحمر القاني، لضابط صف برتبة عريف، بزيّـه العسكري الكامل، ومظلته الممزقة، تقاسيم وجهه ولون بشرته تدلان على أنه مكسيكي أو برازيلي، بينما تشير عيناه الزرقاوتان إلى أصول أوروبية، فقد كان بريقهما بالكاد قد انطفأ .. ما يدل أنه قضى نحبه قبل يوم أو أكثر قليلا .. لم يرغب أحد بالاقتراب منه بسبب رائحته التي لا تُطاق، وكان كل واحد منا يخشى أن يدفنه بطريقة لا تناسب ديانته، فتركناه محله ومضينا بعيدا .. لكني بقيت طوال الأشهر التالية أواظب على زيارته .. أجعل ظهري في الجهة المقابلة لاتجاه الريح، وأجلس باسترخاء، أتأمل تحلله البطيء، وكيف يذوي جسده شيئاً فشيئا .. في البداية كنتُ مشفقاً على نهايته الفاجعة، ثم صرت أتساءل عما دفعه للتورط في هذه الحرب ! هل جاء بقناعته، أم كان مجرد جندي مطيع ؟ أم أنه سيق إلى هذا المكان غصبا ؟؟ على أية حال لم يبقَ من جسده سوى كومة عظام متفتتة، وحتى ملابسه الرسمية، ونياشينه، ورتبته، ورقمه العسكري، ومظلته، وقبعته الخضراء المميزة .. كلها تعفنت .. وها هي الريح تذريها، وتوزعها على تلال جزيرة قصية نائية ..  

لأسابيع متواصلة، جُبنا أطراف الجزيرة، سِرنا في كافة الاتجاهات، بحثنا في كل مكان؛ عن أي مخرج، أو وسيلة اتصال بالعالم الخارجي، أو أية بارقة أمل، ولكن بدون جدوى .. كنا ننطلق قبل الفجر، ولا نتوقف إلا عند اشتداد الحر ساعات الظهيرة، فنأوي إلى ظل شجرة، ثم نعاود المسير، وعندما تشتد حلكة الليل فلا يعود بمقدورنا رؤية بعضنا البعض، نلجأ إلى أي كهف، أو ننام فوق الشجر .. لم نجد سوى غابات وعرة، تحيط بها مياه متلاطمة من كل الجهات، وعلى مد البصر ..

يتكرر الحلم أكثر من مرة، بنفس الترتيب .. تتصاعد خلافاتنا فجأة، نعجز عن التفاهم، ينتابنا الذعر، وتملأ قلوبنا الريبة، ثم فجأة يُخرج أصغرنا من جعبته قنبلة يدوية، ويرميها بيننا، تتناثر أشلاءنا نتفا .. مئات العقبان والغربان تتغدى علينا، في المساء كان كل ما تبقَّ من أجسادنا عظاما متكسرة فقط، تأتي الضباع لتلتهمها .. فيما أنا أصرخ وأترجاها أن تبقِ على أي جزء منها، على الأقل لنترك من خلفنا أثرا يدل على وجودنا .. لكن الضباع لم تبقِ شيئا .. نموت تماما، وتموت قصتنا .. دون أن يعرف بها أحد ..

مع الأيام، بدأنا نعتاد على بعض، ونحاول التكيف بأي طريقة، رغم أني (وأنا متأكد أن الآخرين كانا يفكران بنفس الطريقة) كنتُ دوما أختلق أسبابا تافهة لأجد أي مبرر لتصنيفهما في قائمة الأعداء .. أنظر إليهما بتمحص، استجوبهما بأسئلة صعبة، وأجيب عنهما دون أن التمس أي عذر .. المشكلة أني كنت أفشل في كل مرة .. الأول اسمه بوكو، والثاني سامي .. أسماء محايدة تماما، فلو كان الاسم جون، أو تاناكا، أو عباس، أو عمر، أو ديفيد .. لأمكن معرفة الديانة، وحتى الطائفة التي ينتميان إليها. ولكن بهذه الأسماء يصعب حتى معرفة من أي قارة أتوا .. ولفترة طويلة انتظرت منهما أن يمارسا أي طقس ديني، إلى أن توصلت لقناعة مفادها: إما أن يكونا ملحدين، لا يؤمنان بأي إله، أو أنهما يتعبدان سراً .. تحسّباً لاعتبارات معينة تدور في أذهانهما .. وعندما يئست، قلت وما شأني بديانتهما !؟

لغة الجسد، لا تكفي إلا للتعبير عن الانفعالات والعواطف .. أما لغة الإشارات فبالكاد تكفي لبعض الإيماءات، ولعدد قليل من الكلمات .. كنا بحاجة ماسة لوسيلة تواصل .. فاتفقنا على اختراع لغة جديدة، صرنا نؤشر على أي شيء من حولنا، ونعطيه اسما ما: الغيوم، التراب، البحر، الغابة، الأهل، السلاح، الحرب، الزوجة، الحب، الموت، الطعام، الحطب، السلام ... وبطريقة متآمرة، كان كل واحد منا يجتهد على تسمية الأشياء من لغة قومه. ومع ذلك كنا نتوق للكلام .. للتعبير الانسيابي عما يجول في خواطرنا .. عن أشواقنا ومخاوفنا ..

بعد شهر، استقر رأينا على اعتماد موقع ما للإقامة فيه، بشكل مؤقت، إلى أن يفرجها الله، على مسافة قريبة من الشاطئ، عند مصب جدول صغير، حيث الماء العذب، وأشجار جوز الهند الباسقة، والرمال الناعمة، وحيث تنتصب تلة صخرية نحتت الرياح فيها ما يشبه الكهف .. منظر خلاب، لم تشاهده عين من قبل .. وقد اكتلمت فيه عناصر الجمال .. ينقصه عنصر واحد .. إمرأة .. 

كنتُ أحار إزاء نظراتهما الغامضة لي، التي ألمحها خلسة بين فينة وأخرى، لابدَّ أنهما يعتبراني عدوا، ويتآمران على قتلي .. وربما أكون مخطئا .. لهذا بقينا سنة كاملة ننام مع أسلحتنا .. قبل أن يتوارى الشك بعض الشيء .. كان بوكو ذو صوت جميل، وذائقة فنية عالية، أما سامي فكان صيادا ماهراً، يصطاد لنا غزلانا، أرانب، طيور بأنواعها، أسماك صغيرة وكبيرة .. فيما أنا أجمع الحطب، وبعض الأعشاب والثمار، وأوقد النار .. ثم يأتي بوكو فيعد لنا مائدة شهية من المشاوي .. وفي الليالي الصافية، عندما يعانق ضوء القمر أشواقنا المحلقة، يبدأ بوكو بالغناء .. بصوته العذب المنساب كينبوع حزن متدفق .. لا نفهم من غنائه شيئا، لكنا كنا نركّب ما نشاء من كلمات على ألحانه الشجية، كان الحنين المختنق ينبجس من أحباله الصوتية عبر كلمات مبهمة .. كان يغني وهو مغمضا عيناه، أما سامي فكانت عيناه مغرورقتان بالدموع .. وكذلك أنا ..

حلم جديد، يراودني بسيناريوهات عديدة، مخيفة .. تدخل علينا إمرأة شهية؛ عيناها سوداوان وشعرها فاحم مسترسل، قوامها مشدود، وبشرتها ملساء ناعمة .. نشتهيها بشدة .. نستل بنادقنا الآلية، نتبادل الرشقات السريعة .. وبعد أن نقتل بعضنا .. تبكي بحزن وحرقة .. لأنها ورثت جزيرة خالية .. وفي حلم آخر، نتنافس على من يحظى بها، ثم نتفق على اغتصابها واحدا تلو الآخر، ولكنها بحركة سريعة تتناول بندقية وتقتلنا جميعا، ثم تبكي بغضب، وقد حررت الجزيرة من الأشرار .. وفي حلم ثالث، نقتلها ثم نبكي على غبائنا وخسارتنا التي لا تعوض ..  

هل سيكون هذا وطننا الجديد، أم مقبرتنا الأخيرة ؟ ماذا ينقصه ليكون مثل بلداننا ؟ قطعة قماش تحدد ألوانها وترتيبها هوية البلد وساكنيه !! أم حاكم يطل علينا صباح مساء، ويخبرنا ما نفعل، وما لا نفعل !! هنا، مثل هناك: شمس العصارى، وقمر يولد كل شهر، ماء الينابيع، نسمات الصبح الندية، والقليل من البعوض، حتى هؤلاء الذين ما زلت أظنهم أعداء، وأتحيّن الفرصة لأنقضّ عليهم .. بماذا يختلفون عمّن عرفتهم في حواري المدينة ؟! يضحكون، ويجوعون، ويشخرون أثناء النوم .. هنا نكمل بعضنا .. وفي المرة المقبلة، عندما تأتي فتاتي لأحلامي، سأتفاهم معها .. سنكون أسرة صغيرة ..

في ذكرى وفاتي الثلاثين، زارني سامي في قبري .. قال بأسى وبصوت مبحوح: لو أني لم أغدر بك، لكنا كلنا أحياء .. ابتسمت بحسرة، وقلت: كانت لنا ذكريات طيبة، ولكنا لم نحسن التصرف ..

قال بوكو معاتبا: لو استمعتم لموسيقاي، لو فهمتم أغنياتي .. لجعلنا من هذا المكان المنعزل جنتنا الصغيرة ..


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق