أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

أغسطس 08، 2014

معجزات


تنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي قصة المجاهدين الذي أمضوا 23 يوما داخل أحد الأنفاق وخرجوا منه أحياء. القصة حدثت فعلا، وتمت مقابلة اثنين من الناجين، ولست هنا لأشكك بها، ولكني أناقش المبالغات والروايات المتعددة للقصة نفسها، ولم أكن لأكتب في هذا الموضوع لولا استغرابي من البعض المحسوبين على اليسار (من المفترض أنهم لا يؤمنون بالخوارق والمعجزات)، الذين بدؤوا يرددون القصة بكل ما تضمنته من تهويل، يصل إلى حد الخرافة أحيانا.

أكثر الروايات شيوعا، تقول أن كل مجاهد منهم كان يتناول نصف تمرة يوميا، ويبلل ريقه بخرقة بعد غمسها ببعض الماء الذي تفجر من تحت الأرض .. في الأحوال العادية يمكن للإنسان أن يعيش ثلاثة أيام بدون ماء، وقد يعيش شهرا بدون طعام، ولكن منذ الأيام الأولى من الجوع يبدأ الجسم بالتكيف مع الواقع الجديد، من خلال خفض كافة الفعاليات الحيوية في الجسم، أي تقليل النشاط الأيضي للحد الأدنى، بما في ذلك تخفيض عدد نبضات القلب، وهذا يشبه السبات، والهدف منه تقليل صرف الطاقة، والاعتماد على مخزون الجلايكوجين الذي سينفذ بعد أيام قليلة، ثم استنفاذ مخزون الدهن، حتى يصل الجسم إلى حالة الهزال الشديد والوهن وفقدان التركيز، شريطة توفر الحد الأدنى من الماء .. وفي هذه الحالة بعد مرور 23 يوما وفي ظروف قاهرة (داخل نفق) حيث الحرارة العالية، والجو الخانق، وزيادة معدلات التعرق، سيكون هؤلاء المجاهدين في حالة صعبة للغاية، وبحاجة لعناية طبية مكثفة، ولذلك استشهد منهم ستة حسب ما قالة أحد الناجين ..


ضمن هذا الإطار يمكن فهم القصة وتصديقها، وإكبار بطولة هؤلاء المجاهدين، وصبرهم، ولولا روحهم المعنوية المرتفعة لما تحملوا كل هذا العذاب، وربما قضوا قبل ذلك بكثير .. حيث يلعب العقل الباطن للإنسان دورا مهما في تنظيم الفعاليات الداخلية للجسم، وتزويده بالقدرة على التحمل طالما ظلت المعنويات عالية، وعكس ذلك ينهار الجسم.

أما الحديث عن المعجزات الإلهية والمكرمات، فهذا يضعنا أمام أسئلة محرجة، ليس أولها لماذا استشهد ستة منهم، في حين نجا الآخرون، وليس آخرها لماذا لم نشهد المعجزات الإلهية تتدخل لإنقاذ مئات الأطفال الذين قضوا نحبهم بأكثر الطرق قسوة ووحشية !! ولا ننسى أن مثل هذا الطرح قد يثير حساسية الأمهات والآباء والصغار والكبار الذين فقدوا أحبتهم، رغم إلحاحهم بالدعاء لله سبحانه بأن ينجيهم ..

لست هنا أشكك بقدرات الله سبحانه – معاذ الله – ولا أتساءل عن حكمته فيما يريد، لكني مؤمن بأن زمن المعجزات قد انتهى منذ عهد طويل .. وأن التفكير بمنطق المعجزات والكرامات والخوارق سيدخلنا في متاهات الغيبيات، وسيلغي عقولنا، ويجعلنا نركن إلى عوامل مجهولة، بدلا من أن نعتمد على العلم وقوانين الطبيعة، وقوانين الصراع، والتحضير الجيد للمعركة، والأخذ بأسباب النصر، وفهم موازين القوى، وتقدير الموقف بصورة صحيحة ..  

والأهم من ذلك، أن فهم القصة بطريقة الكرامات، ستكون بداية لأسطرة المقاومة، أي إحاطتها بعالم الأساطير، وأسطرة المقاومين أنفسهم، والنظر إليهم كما لو أنهم من خوارق البشر، وبالتالي المبالغة في تقدير عناصر قوتهم، وفي هذا مقتل للمقاومة نفسها، لأن ذلك سيؤدي إلى خوض المعارك انطلاقا من تقدير خاطئ للموقف، وهذا سر فشل أي جيش، وسبب كل هزيمة.

والمرحلة التالية من أسطرة المقاومة والنظر للمقاومين على أنهم قديسين وملائكة هي تقديس كل ما يتصل بالمقاومة، أي تقديس قادتها، والناطقين باسمها، وتقديس برامجها السياسية، وتقديس أطروحاتها الحزبية، وبالتالي فإن كل من ينتقد أي موقف سياسي لقادة المقاومة سيكون بمثابة من يدنس المقدس، ويعتدي على الحرمات .. وفي النهاية كتم كل صوت معارض، وتخوين كل من يطرح سؤالا، أو يبدي رأيا مخالفا .. وهذا هو بالضبط ما يسمى بالاستبداد والقمع، أو الإرهاب الفكري.

المقاومة بحد ذاتها لم تكن في يوم من الأيام مطلوبة لذاتها، فهي مجرد وسيلة لتحقيق هدف سياسي، وعكس ذلك يعني أن المقاومة ستتحول بالتدريج إلى صنم يُعبد، وتصبح هي الهدف والغاية، وبعد هذا الانحراف يمكن للمقاومة أن تكرس هيمنتها على المجتمع، فيصبح المجتمع هو أداة المقاومة وخادمها وحطبها في معاركها، بدلا من أن يكون العكس، أي أن تكون المقاومة هي خادمة الشعب، التي تضحي بنفسها من أجله.

المقاومة الفلسطينية في فلسطين عموما، وفي غزة تحديدا ما زالت في الخندق الصحيح، لم تنحرف بوصلتها، ولم تتحول إلى أداة ضد المجتمع، ولم تتخذ من الناس تروسا بشرية .. ويجب علينا أن نشد على أيديها، وندعمها ونحضنها، ولكن طريقة الأسطرة والخرافات ستؤدي إلى نتائج عكسية.

في هذه المعركة، وفي كل المعارك السابقة، أدى المقاومين دورا بطوليا رائعا، وضربوا أمثلة رائدة في التضحية والفداء، بأسلوب بارع وشجاعة منقطعة النظير .. وهم لا يحتاجون شهادة من أحد .. ولكن لا يعني أن أداء المقاومين البطولي سيقابله بالضرورة أداء بطوليا من القيادة .. حيث أن عالم السياسة لا يشبه عالم القتال والتضحية ..

كل الاحترام والتبجيل للمقاومين من كل الفصائل .. ولكن إلبساهم ثوبا غير الذي يلبسونه، وإغراقهم بالمديح، وإحاطتهم بأسيجة من المبالغات والتهويل والأساطير سيضر بهم ..


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق