أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

يوليو 24، 2014

عن غزة، مرة أخرى


تتفاعل وبشدة في الساحة الفلسطينية الآن وجهتا نظر حول ثمن التضحية المطلوبة، وهما إلى حد ما متناقضتان؛ الأولى تقول أن قطرة دم فلسطيني أهم وأغلى من أي إنجاز سياسي، وأصحاب هذا الرأي لا يقولون أنهم لا يريدون التضحية، ولكن من وجهة نظرهم؛ فإن الهدف من المقاومة هو تحقيق الإنجاز السياسي بأقل قدر ممكن من التضحيات، وتجنيب الشعب الخسائر بالأرواح كلما كان ذلك ممكنا، أي تبني الوسائل الكفاحية التي لا ينجم عنها خسائر باهظة. والثانية تقول أن الشعوب لا تتحرر إلا بآلاف الشهداء والدماء الغزيرة، وأن الإنجازات السياسية الكبرى لا تتحقق إلا بالتضحيات الكبرى.


وجهتا النظر تثيران الجدل، حيث كل فريق يقدم أطروحته مشفوعة بأمثلة من تاريح الثورات والشعوب التي تحررت. ومن وجهة نظري المتواضعة، فإن الأطروحتين تستحقان الاحترام. ولكن لماذا في كل مرة يحصر العقل العربي تفكيره بخيار واحد وبطريقة حادة وحاسمة ؟ فإذا كان من وسيلة لجسر الهوة بينهما، فإن ذلك يعتمد على جملة من الظروف الذاتية والموضوعية، وعلى طبيعة الهدف من التضحية، وحجم الإنجاز السياسي المطلوب. ففي كل الأحوال لا بد لأي كفاح عسكري أن يكون له هدف سياسي.
في العدوان الظالم على غزة، يطغى هذا الجدال على المشهد السياسي إزاء عروض الهدنة والتهدئة، ودون الخوض في التفاصيل، إذا كانت نتيجة التضحيات الجسام هي رفع الحصار عن غزة بشكل كامل، مرة أخيرة وإلى الأبد، وضمان عدم تكرار العدوان كلما أراد أي رئيس حكومة إسرائيلية خوض مغامرة عسكرية لأي سبب كان، فإن هذا الهدف يستحق التضحية، وسيعطي المقاومة وقيادتها مكانة مرموقة في سجل التاريخ الفلسطيني. أما إذا كان قبول التهدئة أو رفضها انعكاسا لتجاذبات سياسية، وصراعات إقليمية؛ فإن هذا نوع من المقامرة بأرواح الناس لحسابات رخيصة، والتاريخ لن يرحم من يتاجر بآلام ومعاناة الشعب. وهذا الأمر لن يتضح إلا بعد انجلاء غبار المعركة، ومعرفة البنود التي سيتم التوقيع عليها. وحاليا لا نفترض إلا حسن النوايا من الجميع.

وفي هذا السياق، لا بد من التأكيد على أن المعركة البطولية التي تخوضها المقاومة في غزة ليست الأخيرة (ومن نافلة القول أنها ليست الأولى)، وإن كانت توفر فرصة تاريخية لانتزاع إنجاز سياسي كبير، وهو رفع الحصار عن غزة، لكنه ليس الهدف الوحيد للمقاومة، هو مطلبها الآن وفي هذه المعركة بالذات، إلا أن الكفاح سيتواصل، والمعركة الأساسية ستكون في الضفة والقدس، وتلك ستحتاج تضحيات أكبر بكثير.

وإزاء ما يجري من مذابح في غزة، يسعى البعض لتحميل حماس مسؤولية الخسائر البشرية والدمار الهائل، بحجة أن الصواريخ هي التي جرت إسرائيل للحرب، وهي صواريخ عبثية ولا جدوى منها، وأن تمترس المقاتلين بين البيوت يؤدي إلى استهدافها من قبل طيران العدو، وأن حماس تستخدم الناس دروعا بشرية .. وباعتقادي أن مثل هذه الأقاويل إنما تصب مباشرة في خدمة إسرائيل، وتبرئها مسبقا من مسؤولياتها القانونية عن المذابح التي تقترفها بحق أبناء غزة، وهذا ضرب من الانتهازية السياسية، والكيل بمكيالين. إسرائيل هي المسؤول الأول والأخير عن كل ما يجري، هي التي بدأت، وهي التي تقصف وتدمر، ولا يتحمل أي طرف فلسطيني المسؤولية، لا قوى المقاومة، ولا قيادة السلطة.

وإذا راجعنا تاريخ الثورة الفلسطينية منذ انطلاقتها وفي كل المعارك والعمليات العسكرية التي نفذتها لوجدنا أن ما تفعله حماس فعلته من قبلها فتح وبقية فصائل الثورة .. فتح هي أول من أطلق صواريخ الكاتيوشا والغراد من الجنوب اللبناني، وكانت في كل مرة تتسبب للقرى اللبنانية بردات فعل عنيفة من قبل العدو الإسرائيلي، حيث تدمر بيوتهم وتحرق محاصيلهم، ولنتذكر مثلا أن عملية دلال المغربي أدت إلى اجتياح الليطاني، بل أن العمليات الفدائية الفلسطينية جرَّت على لبنان حجما هائلا من الخسائر يفوق بكثير ما نشهده اليوم بألم في غزة، ففي اجتياح لبنان وحصار بيروت 1982، بلغت الضحايا أرقاما قياسية وقد زادت عن العشرين ألف شهيد، وأضعافهم من الجرحى ..

وفي أدبيات فتح ما يعرف بالتوريط الواعي، أي تنفيذ عملية فدائية ينجم عنها ردة فعل عنيفة من العدو بحق المدنيين، الأمر الذي يؤدي إلى ردود أفعال مقابلة وبالتالي انخراط المزيد من المدنيين في صفوف الثورة، وهذا النوع من الكفاح مورس في الثورة الفيتنامية والكوبية، وتحدثت عنه الأدبيات اليسارية الثورية، وبالتالي فإن تفعله حماس ليس بالأمر الجديد.

والمقاومة الفسلطينية في غزة حين تشتبك مباشرة مع العدو الغازي من بين البيوت والأحياء السكنية، إنما تمارس ما يعرف بحرب الشوارع .. وهذه من صلب أدبيات فتح من قبل، خاصة وأن فلسطين بشكل عام لا تصلح لحرب العصابات بسبب طبيعتها الجغرافية وصغر مساحتها، وانعدام الإمدادات اللوجستية عنها ولأسباب سياسية أخرى، ما يعني أن المدن والبنايات تحل مكان الغابات والأدغال والصحارى التي توفر البيئة المناسبة لحرب العصابات والثورات المسلحة. وبالتالي فإن ما تقوم به حماس من حرب شوارع أمر مشروع تماما، بل هو ما يجب عمله، أي عدم الوقوف عاجزة أمام ظروف غزة السكانية والجغرافية المجافية. وهذا لا يعني أن المقاومة لم تقترف أخطاء، ولا يعني أن استبسالها البطولي في الميدان سيقابله بالضرورة موقف سياسي صحيح من قبل قياداتها.

وإذا كانت حماس قد تعلمت من فتح هذه الدروس، فإن على فتح أن تستفيد من التجربة الكفاحية لحماس والجهاد الإسلامي؛ فقد تمكن هاذان الفصيلان المناضلان من الإعداد الجيد للمعركة رغم ظروف الحصار (الأنفاق، الصواريخ، التدريب والتجهيز)، ولا أقصد تقليد النموذج في الضفة، لأن هذا غير ممكن عمليا، بل رؤية المشهد بعقلية منفتحة، فالمقاومة في غزة أثناء فترات الهدوء  كانت تُعد وتجّهز، ولم تنزع سلاحها؛ فوجدته حاضرا وقت المعركة .. فتح وللأسف، لم تطور تجربة كتائب الأقصى التي أذهلت إسرائيل في سنوات تأسيسها الأولى، حيث قامت السلطة بتكبيلها وتحجيمها .. لذلك لم تكن حاضرة بالمستوى المطلوب في هذه المعركة، فقد كان رهان السلطة (وتحديدا أبو مازن) منصبا على المفاوضات والمقاومة الشعبية السلمية، وإهمال الخيارات الأخرى. وهذا النهج أثبت فشله.


لا يعني هذا أبدا إغفال التضحيات والدماء التي سُفكت في الضفة الغربية خلال السنوات القليلة الماضية؛ فقد شهدنا نماذج رائعة ومهمة من المقاومة الشعبية؛ لكن العدوان على غزة يستوجب اليوم اجتراح وسائل كفاحية جديدة، قادرة على مشاغلة العدو وتخفيف الضغط عن غزة، والتكامل معها لتمكينها من إحراز النصر هناك، ثم لتتحول إلى إستراتيجية تؤدي في نهاية المطاف إلى تحقيق النصر الأكبر، وهذا يعني أن المطلوب من فتح والفصائل الأخرى والسلطة والجماهير في الضفة الغربية أولا خوض حرب استنزاف ضد المستوطنين، وتوجيه ضربات خاطفة ضد أهداف عسكرية محددة، وتصعيد المقاومة الشعبية وتعميمها، مع استمرار المقاطقة الاقتصادية، إلى جانب حملة منظمة في المحاكم الدولية لمحاسبة إسرائيل، وحملة سياسية ودبلوماسية وإعلامية في المحافل والمنظمات الدولية، وصولا إلى محاصرة إسرائيل وعزلها، كما حدث لنظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق