أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

فبراير 09، 2014

القارئ رقم مليون


بقراءتك هذا المقال، ربما تكون القارئ رقم مليون، أود أن أشكرك من أعماق قلبي، وأن أشكر موقع الحوار المتمدن؛ إذ خصص لي صفحة مستقلة بلغ زوارها اليوم مليون زائر .. ولكن ما دلالات هذا الرقم ؟ وماذا يعني لي ؟

طبعا الرقم بحد ذاته لا يُعد أمراً خارقاً؛ فقد سبقني وتفوق عليَّ كثيرٌ من الكتّاب على نفس الموقع، وهو بالتأكيد ليس هدفا .. لكنه، احتراما للقراء، وتقديرا مني لهم يعني لي قيمة كبيرة ..

في عالمنا العربي، هناك الكثير من الطاقات الإبداعية لم تُتح لها الفرصة، وظلت مواهبها حبيسة جدران التخلف والقهر .. بينما أغنية كورية لمغني مغمور - لم ألمس فيها أي نوع من الإبداع - انتشرت في ربوع الأرض بسرعة غير مسبوقة، حتى تجاوز عدد مشاهديها المليار !! ما يعني أن لغة الأرقام مضللة، وأحيانا تعكس حالة غير عادية لظاهرة ما في لحظة تاريخية فارقة، يكون فيها الذوق العام في أدنى درجاته.

منذ إنشاء هذه الصفحة قبل أكثر من سنتين، نشرتُ فيها ما يزيد عن المائتي مادة، في شتى المواضيع، تنوعت بين مقال قصير، ودراسة مستفيضة، جزء لا بأس به منها نُشر في الصحف المحلية، وعلى بعض المجلات المتخصصة، أو تناقلته مواقع إلكترونية أخرى .. والجزء الأكبر لم يُنشر ..  

الكتابة بالنسبة لأي كاتب تتحول من هواية إلى إدمان، أو إلى رسالة .. البعض يتخذها حرفة يتكسب منها (وهذا ليس عيبا) والبعض يسعى فقط لإيصال صوته إلى أكبر قدر ممكن من الناس .. والبعض يتخذها وسيلة للوصول إلى غاية في نفسه، ولا شك أن هناك كتّاب صادقون، يؤمنون بكل كلمة يخطّونها، وبعضهم منافقون .. مزيفون، كذبة .. حتى لو كان ما يقولونه صحيحا .. والكاتب المحترف يعرف ماذا يخفي وماذا يُظهر .. وهذا سلاح بحدين .. والقارئ الذكي يميز بسهولة .. الكاتب الغبي هو من يتذاكى على القراء، أو يستهين بوعيهم ..

الكتابة هي ضمير الكاتب، تكشف ما بداخله؛ لأنها تفكيره بصوت مسموع .. الكتابة عملية توحد مع الذات لرسم صورة عن الواقع، وانفصام عن الواقع لرؤية انعكاسه على الذات، بكل شفافية. هي السفر إلى ذوات الآخرين وسبر أغوارها؛ من يعيشون في متن المجتمع ويفعلون فيه الأفاعيل، أو يقبعون على هامشه. هي تقمص لحالة الكون، والبحث في الوجود عن الكائنات والظواهر بكل حيادية. هي ولادة صوتنا الداخلي لجعل الصمت ممتلئا بالمعنى، ولمنح الحياة جدوى وقيمة. ومع ذلك يظل السؤال: هل قيمة الكتابة تكمن في فن التلاعب بالكلمات، وتطويع سحر البيان ؟ أم هي ذكاء التقاط الصورة من المشهد ؟ أم هي اجتراح المعنى، والبحث عما هو مختبئ ؟ أم هي القدرة على جعل البائس يسخر من بؤسه ؟

كثيراً ما توقفتُ، متسائلا: هل ثمة من يقرأ لي ؟ أو لغيري ؟ هل ما أكتبه يستحق العناء ؟ وما يدفعني لهذه المراجعات فكرة مجنونة طالما راودتني: لو أردنا طباعة مائتي مقال ونشرها لتصل إلى مليون قارئ، لاحتجنا كمية من الأوراق تتطلب قطع غابة مطيرة بأكملها .. فهل يستحق الموضوع تخريب الطبيعة وتلويثها بخربشات قد لا تفيد أحدا ؟!! حسنا فعلتْ بنا تكنولوجيا المعلومات .. إذ أتاحت لنا إيصال صوتنا إلى آخر بقعة وصلتها الكهرباء في كوكب الأرض .. دون أن نضطر لقطع شجرة .. ولكن ضرر الكتابة، إذا أُسيء استخدامها، قد يكون أشد وطأة على البشر، حتى لو نُشر في الفضاء الافتراضي فقط .. الكلمة أمانة، ومسؤولية، قد تودي بصاحبها إلى الدرك الأسفل من الجحيم ..

حينما شرعتُ بالكتابة، صُدمت (كغيري) على بوابة المشهد، وداهمتني الأسئلة تباعا دون سابق إنذار وبلا رحمة، وكنت كلما بحثت في الإجابات، أجد أسئلة أكبر، بعد أن تضيف إلى زخم السؤال حيرة أخرى، ومرارة أشد ..

عن ماذا نكتب ؟! ولمن ؟! عن الفقراء، الذين يولدون ويموتون دون أن يقابلوا أحدا غير ظلالهم على جدران الخيبة ؟!

عن السماسرة، أم عن الأنظمة أم ركائزها ؟! عن الظلم أم عن الظالمين أنفسهم ؟! عن الماضي التليد أم عن المستقبل المهدد ؟! عن إسرائيل أم عن الثورة المضادة ؟ أم عن الفتنة الطائفية التي تطل برأسها بكل وقاحة !! أم نكتب عن عجائب الدهر، والظواهر الغريبة، ونهايات الزمن، حيث تبدلت المفاهيم وانقلبت المعايير. أم عن الأغاني الهابطة وحفريات الشوارع، والطوابير، والغلاء. أم عن الجريمة والتخلف والتطرف، وخطط التنمية المعطلة، والقرارات الغبية، ومزاجية المسئولين، وسلوك بعض الناس، والتغيرات التي عصفت بهم حتى عرتهم من كل معاني الإنسانية، وإحالتهم إلى حطام بشر،  ووحوش تأكل بعضها.

أم نكتب عن المقاومة والمضحين بأنفسهم، وقوافل الشهداء، والمعتقلين الذين لا يرون من السماء إلا غيوما مقطعة على شكل قضبان النافذة، أم نكتب عن بيوت الصفيح التي لا يزورها إلا البرد والريح الزمهرير، والأطفال الذين ينتظرهم مستقبل مجهول، والشباب الذين تخبو عزائمهم ساعة بعد أخرى، ويحترقون على مذبح الواقع الفج يوما بعد يوم، والمنسيين والمهمّشين الذي لا يسمعون سوى صدى صرخاتهم في وديان التيه والنسيان.

عن ليالينا الحزينة، عن قلقنا المشروع، عن سنواتنا العجاف، عن الخوف الساكن فينا، والصرخات التي تدوي في أعماقنا وندفنها في تجاويف الصدر قبل أن يسمعها أحد ..  

لا أدعي أني بلغتُ غايتي، أو نجحتُ بالتعبير عن كل ما يجول في خاطري، ومع ذلك، لابد من المحاولة؛ فما زلتُ مؤمنا بجدوى الكتابة، وفاعلية الكلمة .. في صغري قبل سنوات بعيدة، قرأتُ قصصا ومقالات كثيرة، ما زلت أذكر بعضها، وأذكر كيف أثّـرت بي .. كل ما أطمح إليه أن أترك أثرا بسيطا في نفس القارئ، أن ألامس قلبَ شاب على حافة اليأس، أو أن أجيب على سؤال حيّر البعض، أو أن أطرح سؤالاً لم يخطر ببال القارئ أن يطرحه على نفسه .. أن أغني للأرواح المعذبة والمتوثبة والطامحة والعاجزة .. وأن أكتب عن الإنسان، بوصفه إنساناً قبل أي شيء آخر.

سأظل ممتنا لكم، وسأحاول الإطاحة بهواجسي ومخاوفي، لأواصل الكتابة، منقباً في مليون سؤال جديد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق