أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

فبراير 02، 2014

القتل باسم أجمل الشعارات


 عرضت جامعة بير زيت قبل يومين فيلما وثائقيا عن مخيم نهر البارد، ركزت فيه المخرجة الفلسطينية "ساندرا" بشكل خاص على الجوانب الإنسانية والاجتماعية لحياة الناس في المخيم، وتعثر عمليات إعادة البناء بعد الحرب الطاحنة التي دارت رحاها هناك في صيف 2007، والتي أدت إلى تدمير المخيم بالكامل. وحتى لو تجنب الفيلم الدخول في تفاصيل الإطار السياسي للأحداث، إلا أنه بحد ذاته يعتبر وثيقة تاريخية تسجِّل جانبا في غاية الأهمية لحدث ضخم غيَّـر حياة ما يقرب الخمسين ألف إنسان كانوا يقطنون المخيم، لم تشأ "ساندرا" لهذه المأساة أن تمر وتُنسى،كأنها لم تكن، كما حصل لكثير من الوقائع والأحداث في تاريخنا المعاصر.

في أيار 2007، حاصر الجيش اللبناني مخيم نهر البارد، بعد مقتل خمسة من جنوده في كمين نصبته لهم مجموعة مسلحة كانت مجهولة حتى ذلك التاريخ، على إثر ذلك نشبت اشتباكات عنيفة بين الطرفين، وتطورت الأحداث بشكل متسارع، لتنتهي بعد ثلاثة أشهر بتهجير كل سكان المخيم، وتدميره بيتا بيتا، وتحويله إلى كومة أنقاض.

كان نهر البارد أكثر المخيمات الفلسطينية في لبنان أمنا وازدهارا، حتى أنه اعتبر بمثابة العاصمة الاقتصادية لشمال لبنان بأكمله، وظل على حاله حتى تسللت إليه تحت جنح الظلام مجموعة مسلحة، أراد محركوها وممولوها لها أن تحظى بأكبر حشد ممكن من الشعارات الكبيرة، فأطلقوا عليها اسما مركبا: "فتح الإسلام"، لتظفر بأكبر كنـزين يمكن أن يجلبا لها تأييد الشارع، وهما: الإسلام وفلسطين، ولكي تتمكن تحت هذين الشعارين أن تنمو وتتحرك داخل المخيم دون أن يجرؤ أحد على الاعتراض.
اختطفت هذه المجموعة المخيم بكامله، واستخدمت سكانه متراسا لصد هجمات الجيش، وورطتهم دون مشورتهم في حربها اليائسة، والتي كانت تدرك منذ البداية أنها لا يمكن لها أن تظفر بها، وطوال فترة الحصار مع كل يوم جديد كان يسقط قتلى، وتُهدم بيوت، وتُهجر عائلات، وتتسع دائرة الخراب، ومع ذلك لم تعبأ هذه المجموعة بكل ما يحمله إصرارها على الاستمرار من نتائج وخيمة على كافة الصعد، حتى انتهت بالدمار الشامل ..

اليوم، تتكرر نفس المأساة في مخيم اليرموك: المجموعات المسلحة تختطف المخيم، وتتمترس خلف سكانه، وتخوض حربها اليائسة تحت نفس الشعارات .. وفي المقابل الجيش يقصف المخيم بمن فيه دون تمييز، القتلى يتساقطون، ومن لم يمت بالقصف مات على يد القناصة، أو من الجوع والبرد ..

كان يقطن في مخيم اليرموك قرابة الربع مليون إنسان، وقبل أن تقتحمه المجموعات المسلحة كان ملاذا آمنا لسكانه ولأكثر من مائة ألف سوري .. اليوم وبعد حصار تجاوز شهره السادس (تتورط فيه كافة الأطراف) لم يبق في اليرموك سوى أقل من عشرين ألف .. الذين لم يجدوا خيارا آخر سوى انتظار الموت بألف شكل وشكل ..
ويؤكد كثير من المراقبين أن الخطوة التالية ستكون هذه المرة في مخيم عين الحلوة (أكبر المخيمات الفلسطينية في لبنان)، حيث يختبئ الشيخ الهارب من القضاء اللبناني "أحمد الأسير" ومجموعته المنبثقة عن تنظيم القاعدة، ويتولى من هناك عمليات التحريض الطائفي، منصّباً نفسه متحدثاً باسم السُـنّة. وإذا ما وقعت المعركة هذه المرة ربما ستكون أشد تدميرا؛ سيّما وأن اسم "الأسير" ارتبط بمنفذي هجمات انتحارية استهدفت الضاحية الجنوبية، ما يعني أن الاقتتال الطائفي إن حصل سيطال المنطقة بأكملها، وستمتد النيران من سوريا إلى لبنان، آكلة في طريقها الأخضر واليابس.

وطبعا، سيستخدم "الأسير" نفس الشعارات، التي استخدمها من قبله "شاكر العبسي"، وكما تفعل اليوم تنظيمات النصرة وداعش في اليرموك .. شعارات كبيرة تتحدث عن تحرير فلسطين وإقامة دولة الخلافة وتطبيق الشريعة وطرد الأمريكان والصهاينة ووو .. وهي في الحقيقة تنفذ عمليات تطهير طائفي، وتخوض حربا بالوكالة نيابة عن أطراف إقليمية ودولية، تريد إعادة ترتيب المنطقة وفق مخطط أمريكي – إسرائيلي تتورط فيه بعض أنظمة الخليج، بالتقاسم مع إيران.
ولو دققنا في الصورة أكثر، سنرى أن ما يجري على أرض الواقع هو تنفيذ لأحد أخطر البنود السرية في خطة "كيري"، أي البند المتعلق باللاجئين الفلسطينيين وحق العودة، من خلال تدمير كبرى المخيمات الفلسطينية وتشريد سكانها، ودفعهم قصرا للهجرة، حيث بات واضحا أن استهداف هذه المجموعات المشبوهة للمخيمات الفلسطينية لم يكن صدفة، وليس لكونها تشكل ثغرات أمنية تؤمن لهم نقطة انطلاق وحسب؛ بل لما تحمله من دلالات سياسية، تكمن في المخيم بحد ذاته.

ومقابل الشعارات الكبيرة التي تحملها التنظيمات المسلحة، يرفع الجيش (اللبناني والسوري) شعارات أخرى: الدفاع عن شرعية النظام، وعن الدولة، وحماية السكان، وإنفاذ القانون، ومكافحة الإرهاب ووو .. وهو في الحقيقة إنما يدافع عن امتيازات ومصالح النخبة الحاكمة .. وفي النتيجة المخيم وسكانه وحدهم من يدفع الثمن .. وما ينطبق على المخيمات الفلسطينية ينطبق تماما على كافة المدن والقرى السورية التي تتعرض لقصف وحشي من النظام، وبطش لا يرحم من قبل التنظيمات التكفيرية.
الجماعات "الجهادية" تريد تطبيق الشريعة على أي منطقة تنجح بسلخها عن الوطن الأم، بعد ذبح كل الطوائف الأخرى، وستطبقها على سكان لا تحترم إنسانيتهم، ولا تحفظ كرامتهم، فقد ثبت بالممارسة أن آخر شيء تفكر فيه هو تطلعاتهم، لأنها لم تعبأ أساسا بحياتهم، ولا بأمنهم، وفرضت نفسها عليهم بالسواطير والمخخات، واستخدمتهم متاريس بشرية، واحتمت بأجسادهم الطرية من بطش الغارات وحمم القذائف ..

المعارضة الليبرالية والعلمانية تريد دولة ديمقراطية مدنية، لكن بعد فناء سكانها، وتدمير بناها التحتية، وتخريب مقدراتها ومقوماتها.

قوات النظام تريد إنفاذ القانون والدفاع عن شرعية النظام وحماية دولة المقاومة والممانعة، ولكن عن طريق قصف الأحياء السكنية بالبراميل المتفجرة، واعتقال كل شبان البلد، وتعذيبهم، وإهدار كرامتهم ..

السؤال المهم: ما قيمة كل الشعارات التي ترفعها كافة الأطراف المتصارعة أمام حياة الناس الآمنين، الذين لا دخل لهم بهذه الحرب ؟! وكيف ستقوم العدالة على أناس بُترت أطرافهم، وفقدوا حريتهم وكرامتهم وأمنهم، وخسروا ذويهم وبيوتهم ؟!
الإجابة باختصار: لا قيمة لأي شعار – مهما كان بريقه أخاذا – ما لم يكن "الإنسان" محوره وحجر الزاوية فيه، ومنتهى غاياته، وخلاف ذلك يعني ببساطة تغوّل الشعار على الإنسان، وتحويله إلى مجرد أداة، ثم سحقه .. في سبيل تحقيق مصالح فئوية وسياسية ضيقة.

على كل من يتبنّى تلك الشعارات أن يتذكر بأن كل إنسان يُقتل سيترك خلفه أما ثكلى، وأبا مكلوم، وأطفالا ستنال منهم أرصفة الشوارع، وخالات وعمات سيبكين كثيرا، وأصدقاء وأحبة .. وأنه بموته سيخسر حقه بالحياة، وستموت معه ذكرياته، وأحلامه، وسيفقد مجتمعه فرصة للتقدم .. وأنه مقابل كل جدار يهدم في سورية سيُبنى بيتا في مستوطنة إسرائيلية .. وستمضي أمتنا أكثر في رحلتها نحو الضياع والتيه ..

الثورة السورية انطلقت لتعبر عن آمال الشعب وتطلعاته لغد مشرق .. وكانت سلمية هدارة .. لكنها الآن عبارة عن عملية انتحار جماعي في حرب مجنونة .. لا طائل منها ..

ثلاث سنوات انقضت من عمر هذه الحرب .. دون أن يظهر في الأفق أي بادرة لحسمها .. وفي كل يوم جديد من عمر هذا الصراع يُقتل أناس أبرياء، وبمقتلهم تتآكل الشعارات التي قتلوا بسببها، ولو قدر لهذا الصراع أن يمتد سنوات إضافية – لا قدر الله – فلن يبق شيء .. لا الناس ولا الشعارات نفسها .. سيتبقى فقط بعض أمراء الحرب، ليحتفلوا بنصرهم المزعوم وسط الردم والخراب، وفوق أكوام من الجماجم ..  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق