أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

يوليو 30، 2013

الحصان الذي خذلته روحه


للخيول - مهما كان لونها - قلبٌ أبيض، وذاكرة تتسع لحكايات كل عشبة في السهول الفسيحة، وعيون تدمع كلما جُرحت روحها .. هذا ما أكده "البارع" طوال سنينه الثلاثون ..

قبل سنوات بعيدة، في يوم تشريني غادِر؛ بدأ مشمساً وانتهى بأمطار غزيرة، كان جدّه (الذي حمل نفس اسمه) قد خرج لحراثة الأرض. عند المساء ربط حماره المنهك بجذع زيتونة هرمة، تواصلَ المطرُ أياماً عديدة، حتى أنه نسي حماره حيث ربطه، في ذلك الشتاء القارص لم يخرج أحد للحقل، وبعد انتهاء "الأربعينية" وَجد الرعاةُ هيكلا عظميا لحمارٍ تحيط به دائرة ترابية جرداء. ظلت هذه القصة تؤرق الطفل لأشهر عديدة، كانت الأسئلة تنهال عليه كالكوابيس: هل مات الحمار من شـدة البرد !؟ أم من الجوع ؟ لماذا لم يقطع الحبل بأسنانه فينجو ؟! لو كان حصانا قويا لخلع الشجرة من جذورها؛ بدلاً من قضم جذور العشب في محاولة يائسة منه للبقاء .. وبسبب هذه الفاجعة، نما في قلب "عوض" حقدٌ على جنس الحمير، وصار مولعا بالخيول .. 

ما أن كان الطفل يأوي لفراشه كل آخر ليل؛ حتى يمتطي صهوة جواده الأسود، ويسابق به الريح، وعندما يهدّه التعب يخبئ جواده تحت اللحاف، وفي الصباح ينفض عن بدنه غبار الحلم .. لم يمضي وقت طويل حتى جلب له والده حلمه .. تسوية دين قديم مقابل مهر صغير؛ لونه رمادي داكن، على ناصيته وفوق سنابكه بقع بيضاء ناصعة، قوام ممشوق، عينان واسعتان سوداوان، ملمس كالحرير، عنق طويل متحرر يكسوه شعر ناعم يتطاير مع أقل نسمة .. باختصار جمال يخلب الألباب ،، كانت فرحة "عوض" به لا توصف.

كان "عوض" يصحو باكرا على صهيل "البارع"، يربّت على كتفيه، يتبادلان النظرات فينصهران معاً، يمتطيه بدون سرج، يبدآن الركض خبباً، ثم عدْواً، وأخيرا يطلق لرسنه العنان .. يركضان بدون اتجاه محدد، يركضان بجنون، عند الضحى يجدان ظل شجرة؛ فيأويان إليها يتصبب منهما العرق ..

كبر عوض والبارع معاً، لكن كلٍ منهما على طريقته الخاصة؛ البارع صار حصانا مفتول العضلات، تتدفق الدماء في عروقه حرة منسابة، لا يسبقه حصانٌ آخر، ولا يراه أحد دون أن يعجب به، ولا يشبع شغفه سوى المروج المفتوحة. أما عوض فلم يعد ذاك الفتى الطيب، الذي يطعم حصانه بيده، ويغفو على ظهره إذا ضاقت به الدنيا، ليحمله بين الغيوم .. تزوج عوض، وأنجب أولادا كثيرين .. وصار عصبيا ونزقا .. وأخذت روحه تنسل من بين أصابعه شيئا فشيئا ..

في ذلك المساء العصيب، عاد عوض لبيته يحمل على كاهله تعب قبيلة، أرادت "علية" أن تنسيه همومه، أعدت له العشاء، ثم غيّبت أطفالها، وفي أقل من ساعة خرجت من الحمّام ندية معطرة، جلست قبالته تكشف عن كتفيها وأجزاء من صدرها، ثم مدت ساقيها بنعومة .. لكن عبثا حاولا .. كانت رائحة المدينة تزكم أنفه .. أخيراً خرج من غرفته يجر خيبته.

في اليوم التالي خرج عوض مع حصانه للسوق، وهناك افترقا .. عاد عوض وحيدا، أما البارع فظن أن من يجره سيعيده لحظيرته غدا، أو بعد غد .. امتدت به الأيام دون جدوى، انتظر حتى امتلأ قلبه بالضباب ..

مسكين هذا البارع، لم يكن يدري ما يخبئ له القدر، وأن أياما حالكة تنتظره، كان مالكه الجديد يعمل في النقليات والتجارة، لا يعرف سلالات الخيول وفضلها، والأنكى من ذلك: كان بلا قلب، استخدمه في البداية لحمل البضائع، فكانت تقع عن ظهره، ثم في حراثة لأرض، وذات مرة في أرضٍ جدباء، داس على زجاجة، فشقت ساقه .. وعندما ربطه لجر عربة .. أحس بالإهانة، ورفض أن يتزحزح من مكانه، أخذ سيده يجلده بالسوط؛ فصار يرد برفسةٍ من رجليه الخلفيتين .. لكنه كان محكم الوثاق بالعربة .. ومع اشتداد الجلد وتوالي الرفسات؛ كُسرت رجله ..

تنقل البارع من مزرعة لأخرى، ومن بائع لآخر .. جاعَ وهزل، وتقوس ظهره، وصار هرماً .. حتى بريق عينيه خبا .. وذات نهار غامض، بينما كان معروضا للبيع في سوق الثلاثاء المخصص للماشية .. سمع صوتا مألوفا، البعض الآخر قال إنه اشتم رائحته أولاً .. إنه عوض؛ صديقه القديم، ولأول مرة منذ سنين طويلة ابتسم البارع .. ضحك بأعلى صوته، أخذ يصهل بلحن فيه من الشوق أكثر من العتاب .. رفع صوت صهيله أكثر .. دق الأرض بحافره .. وأخيرا جاء عوض، نظر إليه دون أي تعبير، وقف أمامه صامتا .. هز البارع رأسه ليطيّر خصلته التي كانت تغطي بقعته البيضاء .. أراد أن يؤكد لصاحبه أنه "البارع" وليس أي حصان آخر .. لكن عوض لم يحرك ساكنا، وظل على بروده .. وبعد دقيقتين أدار ظهره وغادر مسرعا.

ظل البارع مصوبا ناظريه نحو عوض، وهو يبتعد رويدا رويدا .. إلى أن ضاع بين الجموع .. ولأول مرة في حياته نزلت دمعة ساخنة من عينيه .. بعد لحظات .. ثنى ركبتيه الأماميتين، ثم جثى على جانبه، ثم أنزل عنقه بهدوء وأسند رأسه على حجر .. ورغم أنه كان مصمما على الموت واقفا - كما تفعل الخيول الأصيلة – إلا أنه رغب أن يذرف دموعه على الحجر .. ليسلم روحه بصمت وكبرياء ..


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق