أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

مايو 28، 2013

أبو علي شاهين .. فارس ترجل


اعتدنا في مرثيات العظماء أن نقرأ سيرة الراثي وعلاقته بالمرثي، وكأنَّ غياب الفقيد يمثِّلُ فرصة للبعض لإظهار بطولات مخفية، والافتخار بصداقة لم يسمع بها أحد، ربما لا تكون أكثر من لقاء عابر، أو علاقة قصرية اقتضتها ظروف معينة. في رثاء أبو علي شاهين، أجد نفسي متورطا في هذه الخصيصة السلبية التي وسمت أغلب المرثيات العربية؛ ذلك لأني قد لا أجد ما أضيفه على ما كتبه وما سيكتبه محبّي أبو علي شاهين ورفاق دربه .. وهم أكثر من أن تضمهم إحصائية عددية. لكني - مثل كثيرين آخرين - تتملكني رغبة جامحة للبكاء، وتقديم شهادةٍ بحق قائدٍ كبير، كان بالنسبة لنا أكثر من أب وأخ وصديق .. كان مصدر إلهام.

كنا صغارا حين سمعنا أول مرة بهذا الاسم الساحر "أبو علي شاهين" .. وقد جاء في الأخبار: "بعد خمسة عشر عاما بالتمام والكمال أمضاها في  سجون الاحتلال، أبو علي شاهين يوضع في الإقامة الجبرية". تحرر من السجن في نفس اليوم الذي فجعنا به بمذبحة العصر "صبرا وشاتيلا" .. سنوات قليلة أمضاها في ربوع الوطن بعد المنفى الإجباري في الدهانية في صحراء النقب، تمكن خلالها من تأسيس "حركة الشبيبة الطلابية" الذراع الجماهيري لحركة فتح، والتي على كاهلها قامت الانتفاضة الأولى، بعد أن أينعت بذور شبيبته غابة أبطال .. على إثر ذلك أبعدته سلطات الاحتلال إلى لبنان، في الفترة التي شهدت حرب المخيمات ..ثم انتقل إلى العراق، وهناك حوَّل منزله في حي المنصور إلى قاعدة تنظيمية للجهاز الغربي.

أبدع أبو علي في كل مهمة تولاها .. في السجون كان بحق "أبو الحركة الأسيرة" والتي لا يعرف معناها وأهميتها إلا من اختبر سجون الاحتلال ومعتقلاته .. في وزارة التموين التي ترأسها سبعة سنوات، شهدت المدن الفلسطينية أفضل حالات حماية المستهلك، فقد كان يشارك بنفسه في جولات الرقابة والتوعية، ويتصدى بكل شجاعة ونبل لمهربي البضائع الفاسدة .. وكان كل موظف في وزارته يستشعر بأن أخا كبيرا له يقوده في مهمة فدائية، كان مكتبه مفتوحا للجميع، بكل بساطة الزاهد وحيوية الثائر.

في منتصف الثمانينات، كان قد وقع بين يدي أروع كتاب قرأته في حياتي: "الهواء المقنع"، للراحل المبدع محمد القيسي .. في هذا الكتاب أبدع القيسي في وصف معاناة وصمود أبو علي شاهين، الذي مثّل رمزا لآلام وتضحيات الأسرى الفلسطينيين، وكان طوال فترة أسرِه نموذجاً فذاً لشخصية تحطمت على عظامها هراوات السجان، ولم تتحطم روحها؛ فقد كان بطل القصة ممثلاً لجيل كامل، ولمرحلة تاريخية بالغة الأهمية والتأثير شهدت انكسار الحلم العربي في حزيران، وصعود الأمل الفلسطيني في ثورة المستحيل. وحين التقيته أول مرة في مكتب منظمة التحرير في حي الكرادة كانت لحيته البيضاء مخضبة بالدموع .. كان صوته متهدجا وهو يرثي خليل الوزير أبو جهاد في يوم استشهاده .. أيقنت على الفور أنه امتداد طبيعي لكل حرف ورد في ذلك الكتاب .. وقد ظللت تلك الصورة التي جسدها "أبو علي" ورفاقه ماثلة في مخيلتي، إلى أن أتيحت لي فرصة الاستماع لتفاصيل التجربة القاسية من صاحبها، وعرفت حينها معنى "الهواء المقنع"، إذْ قادت غطرسة وعنجهية الاحتلال إلى وضع الأسرى في معتقل "نفحة" الصحراوي الذي لا تتوفر فيها أبسط الحاجات البشرية، وهي الهواء. الأمر الذي كان يدفع بالأسرى للانبطاح أرضا والالتصاق ببلاط السجن - خصوصا وقت الظهيرة عند ارتفاع درجات الحرارة إلى حد اللامعقول - بهدف التقاط الأوكسجين الذي يظل قريبا من سطح الأرض بسبب كثافته، ولنا أن نتخيل معاناة الأسير عندما يعـزُّ عليه الأوكسجين، ويصبح التقاطه عملية تتطلب الكثير من المشقة والضنك. 

وقبل سنتين كنّا في منـزله في رام الله، مع كوكبة من رفاق الأسْر القدامى، بدأ الأخ أبو صامد بسرد حكايات عسقلان ونفحة والإضرابات والمواجهات مع السجان .. وحين جاء على ذِكر راسم حلاوة وعبد القادر أبو الفحم (شهداء الحركة الأسيرة)، أخذ نحيبهما بالارتفاع وهما يشهقان ويجهشان بالبكاء .. كانت ذكرى الشهداء طازجة وندية .. كما لو أنهما استشهدا للتو ..

بين أبو علي والشهادة علاقة اقتران لا تنفصم، استشهد والده ذبحا على يد عصابات الهاجاناه في معركة بشيت، وانتقم الجيش الإسرائيلي من عائلته فقتل خمسة من أعمامه في مذابح العام 1956، وحين أحس بدنو أجله طلب من أبناءه إعادته إلى رفح ليغمض عينيه في بيته الذي أحب ..

هو من مؤسسي فتح، ومن أوائل الفدائيين الذين عبروا النهر محملين بحب الأرض، ومدججين بالرصاص .. حين اعتقلته دورية احتلالية وجدت معه صورة للمطلوب الأول لدى المخابرات الإسرائيلية (أبو عمار)، الذين كان حينها يجوب الأرض المحتلة متخفيا، يغرس فيها قواعد الثورة، وينشر رياح العاصفة ..

لحيته المميزة، وكوفيته السمراء، وابتسامته الودودة، ولسانه السليط، وقلمه المبدع .. تلك هي عدته ورأسماله .. كان حربا على الفساد، وكابوسا للمفرّطين، وسيفاً بيد الشبيبة .. كان ضميرنا وهدير صوتنا .. هو من علمنا أن "فتح" مدرسة محبة .. وأن على الثائر أن يجد حلا إنسانيا لقضيته بدلا من الانتقام .. وأن الثورة أخلاق وفكر قبل أن تكون سلاحا وقتالا .. وأن النضال مبادرة وعمل خلاق ..

قبل أسبوعين من رحيله، كلمته عبر الهاتف، ورجوته أن يهزم المرض .. وأخبرته أن الشباب متشوقون لرؤيته .. أطلق حينها تنهيدة عميقة .. كان يحكي مثل متصوف، وأنه سيلتقي بأبي علي إياد، وخليل الوزير، وياسر عرفات .. وأنه عاتب بشدة على القيادة .. وأن أمله كبير بفتح ومستقبلها .. لم أتمالك دموعي حين قلت له: شكرا لك أيها القائد المعلم .. حتى وأنت على فراش الموت تمنحنا الأمل ..

رحمك الله يا أبا علي، وأسكنك فسيح جنانه.. عشت ومت فلسطينيا .. ولم تحد بوصلتك عن القدس قيد أمله .. ولم تهن روحك الثورية لحظة واحدة، ولم يتزعزع إيمانك بعدالة القضية .. ولم تبخل على فلسطين بدمك وسنينك التي سفكتها على عتبات السجن، وعلى تخوم الوطن وسياجه، ولم تضعف ثقتك بفتح .. رغم كل ما أصابها ..




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق