أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

مارس 06، 2013

أمريكا اللاتينية .. نماذج فريدة من الزعامة

منذ ثورات "سيمون بوليفار"، والقارة اللاتينية ما زالت تعطي العالم موجات متلاحقة ملهمة من الأمل الثوري،

بدأها بوليفار حين حرر أمريكا اللاتينية من الاستعمار الإسباني، وأقام كولومبيا الكبرى في بداية القرن التاسع عشر. ثم جاء الأرجنتيني "جيفارا"، قائد الثورة الكوبية، والذي قُتل دفاعا عن بوليفيا، صاحب الشعار الأممي "لا أعرف حدوداً، فالعالم بأسره وطني"، الذي ترك الوزارة وعاش في الجبال داعيا لوحدة القارة، ومحاربة النفوذ الأمريكي فيها، ناشرا أفكاره الثورية ضد الاحتلال، مقدما خدماته للمقاتلين في البيرو وفيتنام والكونغو وغيرها، حتى جعلته المخابرات الأمريكية عدوها الأول، فطاردته إلى أن تمكنت من الغدر به، وبعد أن قتلته مثّلت به، وقطعت يده وأرسلتها إلى رفيقه "كاسترو"، متوهمة بأنها قطعت يد الثورة العالمية التي حلم بها "تشي"، ولم تعلم أن روحه ما زالت تلهب خيال العالمين، وأن صورته صارت رمزا للعدالة والثورة على الظلم.

أما "كاسترو" فيكفيه فخرا أنه أسقط خادم أمريكا المخلص الديكتاتور "باتيستا"، وصمد في وجه الضغوط والمؤامرات منذ أزمة الصواريخ حتى استقالته من منصبه قبل خمسة أعوام، وقد ظل شوكة في حلق أمريكا، وسدا أمام تغلغل الهيمنة الإمبريالية في الجزيرة المحاصَرة.

وأيضا رئيس نيكاراغوا "دانييل أورتيغا"، القادم من الطبقة الفقيرة، الذي ثار على دكتاتورية "سوموزا"، وصار رئيسا للبلاد ممثلا عن الجبهة الساندينية للتحرير الوطني، فأقام نظاما وطنيا تقدميا، لكن أمريكا دعمت جبهة المعارضين له، وهم عبارة عن طغمة من الفاسدين وأصحاب الشركات الرأسمالية، الذين أدخلوا البلاد في حربٍ أهلية قاسية، أرغمت "أورتيغا" على التنازل عن الحكم وقبول تسوية وإجراء انتخابات جديدة، فازت بها خادمة المصالح الأمريكية "تشامورو".

وهناك أيضا رئيس الأوروغواي "خوسيه موخيكا"، أفقر رئيس في العالم وأكثرهم سخاءً، الذي يتبرع هو وزوجته بمعظم راتبهما الشهري لصالح الأعمال الخيرية. والذي ظل يعيش في بيته الريفي المتواضع، حتى بعد أن صار رئيسا، وما زال يقود بنفسه سيارته الفولكس (الكركعة)، ويمشي في الأسواق دون حراسة أو مواكب، ولا يملك أية حسابات مصرفية سرية كانت أم علنية. وفي تقرير منظمة الشفافية العالمية جاء فيه أن معدل الفساد في الأوروغواي انخفض بشكل كبير خلال ولاية "موخيكا"؛ إذ احتل هذا البلد المرتبة الثانية في قائمة الدول الأقل فساداً في أمريكا اللاتينية.

نموذج آخر في الحكم قدمه رئيس البرازيل السابق خفيف الظل والمبتسم دوما "دا سيلفا"، الذي بكى يوم ألحَّت عليه الجماهير لتغيير الدستور كي يسمح له بولاية ثالثة. بكى حينها وقال: "لن أقبل بسن سنّة قد تأتي عليكم ببلاء الدكتاتورية".

لم يتمكن "سيلفا" من إكمال دراسته بسبب الفقر، في صغره عمل صبّاغ أحذية، وباع المناديل الورقية عند الإشارات الضوئية وفي الشوارع، واشتغل عامل نظافة، ثم عتّالا، ثم بائع خضراوات، وصبيا في ورشة للنجارة، وعاملا ميكانيكيا في محل لتصليح السيارات. وأخيرا عمل رئيسا للبرازيل في العام 2002.

قبل أن يتولى الرئاسة كانت البرازيل مفلسة تماما، تتخبط في الفوضى، وتنتظر المعجزة. فاستطاع هذا القادم من بين أحضان الفقر والعوز، خلال 8 سنوات من حكمه، لا أن يخلّصها من الإفلاس وحسب؛ بل ليجعلها تمتلك فائضا نقديا يقدر بـِ 200 مليار دولار. وأن يهيئها لتكون في العام 2016، وقبل احتضانها الأولمبياد، خامس قوة اقتصادية بالعالم، مع توقعات بأن تصبح عضوا دائما في مجلس الأمن تمتلك حق الفيتو.

في عهده تنحى الفساد جانبا وشمّرت الناس عن ساعديها؛ فانخفض التضخم حتى كاد أن يختفي، كما تدنت نسبة البطالة، وارتفع مستوى الدخل، وتطورت الخدمات التربوية والاجتماعية والاقتصادية بشكل غير مسبوق.

البعض يأخذون عليه عدم جذريته من نظام العولمة، ومن هيمنة الشركات متعددة الجنسيات، ويسوقون مثال على ذلك مشروع الوقود الحيوي الذي يستأصل الغابات ومحاصيل الذرة وفول الصويا لضمان تموين السيارات في الشوارع الأمريكية بالوقود. ومع ذلك يظل "سيلفا" ملهما لنا نحن الذي نعيش في كنف أنظمة ذليلة وتابعة وفاشلة .. لا تعرف الغضب إلا على شعوبها وفقرائها.

ومثلما بكى "سيلفا" في وداع شعبه قبل عام، ها نحن جميعا نبكي رئيسا آخر رحل عنا باكرا، تاركا دنيانا بأسرها .. إنه الرئيس الفنزويلي "هوجو تشافيز".

بدأ "تشافيز" حياته فقيرا، وعمل في صباه بائعا للحلوى يجوب الشوارع، ثم انتسب للقوات المسلحة، وبعد أن فشلت محاولته الانقلابية على الديكتاتور "بيريس" عام 1992، وأودع السجن، أدرك أن أضمن الطرق للرئاسة هي صندوق الانتخابات، وبعد فوزه بها تعززت قناعاته بأن الشعب هو الذي يحميه من الانقلابات والثورة المضادة - التي تبرع فيها أمريكا أكثر من أي شيء آخر - وظل طوال عهده يحمي مبادراته وتغييراته الجذرية في الحياة السياسية والاقتصادية باستخدام الصندوق أيضاً، بتعبئة شعبية تبدأ بالأحياء الفقيرة.

وعندما أمّم النفط، وحارب النفوذ الأمريكي والشركات الاحتكارية، واصطف إلى جانب الطبقات المسحوقة، حاربته أمريكا بكل ما لديها من حِيل إعلامية ومؤامرات استخباراتية وحلفاء ومتنفذين .. وكان من حسن طالعه أنه أتى في مرحلة ارتفاع أسعار النفط عالمياً؛ وبما أن فنزويلا تأتي في المرتبة الخامسة بين منتجي النفط، فقد استفاد "تشافيز" من هذه الوفرة المالية بتدشين برامج اجتماعية واسعة في التعليم والصحة والإسكان والزراعة ومكافحة الأمية وغيرها، بعيدا عن بيروقراطية الحكومة وفسادها.
أراد البعض أن يقلل من أهمية حضوره الشخصي، باعتبار أن النفط وحده كان مفتاح النجاح في التجربة الفنزويلية. وإذا كان هذا صحيح نسبيا، علينا أن نتذكر أن في عالمنا بلدان أخرى غنية بالنفط، لكن واردتها تذهب لجيوب الأمراء والحكام، فنيجيريا مثلاً تُعد نموذجا للفساد والتخلف، وشعبها يعاني الفقر والحرمان .. مع أنها بلد نفطي؛ فليس المهم وجود  الثروة، الأهم هو كيفية استخدامها.

كان "تشافيز" يستلهم أفكار "بوليفار" و"جيفارا" في ثوراتهم لتحرير ووحدة أمريكا اللاتينية، وتجربة "عبد الناصر" في علاقاته الإفريقية الداعمة لحركات التحرر (الجزائر والكونغو "لولمبا" مثلا)، مدركا أنه لا يمكن للثورة الفنزويلية أن تكتمل بدون وحدة القارة، فإذا كان تقديره لِ"بوليفار" و"جيفارا" أمرا متوقعا، باعتبار الأول ابناً لكراكاكس، والثاني رمزا لأمريكا الجنوبية كلها، فإن إعجابه وتأثره بالزعيم المصري، لم يكن مجرد مجاملة للعالم العربي، بقدر ما هي امتدادا لتجربة من سبقوه من رموز الثورة العالمية.

"تشافيز" كان صديقا للعرب، وحليفا لفلسطين، زار بغداد مرتين أثناء الحصار، وكان من أبرز القادة الذين أدانوا الغزو الأمريكي للعراق، كما دعا قادة دول "الأوبك" لقمة المنظمة التي استضافتها فنزويلا لخلق تحالف دولي اقتصادي يوازن الهيمنة الأمريكية، رافعا شعار "دعونا نتوحد من أجل هزيمة الولايات المتحدة". عندما قلّد "أبو مازن" وسام الحرية من الدرجة الأولى، وأهداه نسخة عن سيف بوليفار، وافتتح سفارة لفلسطين، قبّلَ العلم الفلسطيني باحترام، وطلب من وزير التعليم في بلاده توزيع خارطة فلسطين على الطلبة. وفي العدوان الإسرائيلي على غزة طرد سفير إسرائيل، وقطع العلاقات معها.

خسر معركته مع الموت بعد صراع مرير مع المرض، بكته الأكثرية الساحقة من أحرار العالم، بكته جماهير فنزويلا وفقرائها .. بكته شعوب العالم المضطهد .. نعته بكبرياء
وحزن .. بينما أقلية ضئيلة تشفت بموته، وهم من ذيول الشركات الاحتكارية، وعملاء الأمريكان.

عند دراسة تجربة هؤلاء القادة، تحتار في فهم العلاقة بين الثورة والكاريزما؛ أي في معرفة كيف يصنع ويشكل ويثري كل منهما الآخر .. هؤلاء كلهم قدِموا من أوساط شعبية، لم يدّعِ أحدهم أنه من أصل نبيل، أو نتاج سلالة فاخرة من الأورستقراطيين؛ بل يفاخرون أنهم بدؤوا حياتهم فقراء، وأنهوها أغنياء بحب شعوبهم .. تمردوا على الطاغوت الأمريكي، الذي طالما تعامل مع أمريكا اللاتينية على أنها الحديقة الخلفية للبيت الأبيض، والتي ليس أمامها سوى خيارين: الموت أو تقديم طقوس الطاعة والخضوع للسيد الأمريكي .. فطالما دعمت الإدارة الأمريكية الأنظمة الفاسدة والديكتاتورية في القارة الجنوبية، وملأتها بالعصابات والمخدرات والحروب الداخلية .. لكن هؤلاء القادة كانوا يصنعون تاريخا من نوع آخر ..

في تاريخنا القديم لدينا تجربة الخليفة الزاهد "عمر بن عبد العزيز"، وهي تجربة تستحق الاحترام، ولكنها قصيرة زمنيا وبالكاد تكون يتيمة .. وفي تاريخنا الحديث نعرف أن "عبد الناصر" (بغض النظر عن موقفنا من تجربته) إلا أنه عاش نزيها، ولم يوظف نفوذه ومركزه لصالح عائلته، وحين مات لم يخلف وراءه سوى راتبه الشهري وبضعة عشرات من ربطات العنق .. ولا شيء آخر يستحق الذكر، حتى أنه لم يمتلك سيارة شخصية أو منزل خاص .. الزعيم "عبد الكريم قاسم" كان ينام على الأرض في مكتبه، وحين قُتل وجدوا في خزانته كمبيالات لثلاجة كان اشتراها بالتقسيط، ومات قبل أن يسدد أقساطها ..

وخلاف تلك الأمثلة المعدودة - والتي لا أعرف غيرها – تاريخنا عبارة عن مسلسل من الحروب الداخلية والفتن الطائفية والصراع على السلطة .. أما رؤسائنا وملوكنا وأمرائنا .. فمن المخجل الحديث عنهم في ظل الحديث عن قادة أمريكا اللاتينية .. العظام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق