أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

يناير 26، 2013

جمال .. الذي مات عشر مرات


بقي أمامهم عام واحد لينهوا الثانوية العامة، إلا أن نشرات الأخبار التي تنقل أنباء المعارك بين الفدائيين وجيش الاحتلال، وصور الضحايا .. وأغاني العاشقين .. كانت تحرضهم على الإسراع .. فاتفق الأصدقاء الثلاثة على التسلل إلى لبنان للانضمام إلى الفدائيين في الجنوب؛ كان عليهم تدبر مبلغ من المال أولاً، والتفكير بخطة للتسلل، ثم اجتياز الحدود السورية، على أن يتكتموا على كل شيء، حتى عن الأهل.

وصلوا مدينة الرمثا عصرا، كان رجال الأمن منتشرين في كل مكان، وعبور الحدود من هذه المنطقة أشبه بالمستحيل، واصلوا سيرهم شرقا، حتى أضناهم التعب والجوع، كانوا قد قطعوا عدة كيلومترات مشيا على الأقدام حين انتصف الليل، وبدأ الجو يختلف، والبرد يشتد، قال جمال: من هنا يمكننا التسلل، وإذا نجحنا في دخول الأراضي السورية سنصل إلى درعا مع حلول الصباح. ساد صمت ثقيل، لم يكن يمزقه سوى صوت الريح وهي تعبث بالأشجار التي بدت كمخلوقات خرافية وقد انتصبت في جوف العتمة .. قال خلدون بعصبية وصوت راجف: لن أكمل الطريق معكم .. وقد كان خطأي من البداية حين وافقتكم على هذا الجنون .. وهؤلاء الذين ستنضمون إليهم هم أصلا كفار وملحدين .. تفاجأ الصديقان بما سمعاه .. لكن خلدون ظل مصرا على رأيه، حتى أنه لم يعطهم فرصة للحديث .. وبلمح البصر كان قد اختفى.

واصلا المسير، وقد اشتد الظلام حتى صار من الصعب تمييز الأشياء عن بعضها .. والخوف يسري في عروقهم ويصيبهم بقشعريرة .. خاصة مع سماعهم لأي حركة .. قررا التوقف والاستراحة .. قال غازي بصوت مضطرب: فعلا إننا مجانين .. ألا يمكن أن يهاجمنا ضبع أو خنزير بري، أو تلدغنا أفعى .. وأين نحن الآن ؟! وإذا رآنا أحد الجنود هل سيطلق علينا النار فورا، أم سيضعنا في السجن .. وحينها قد تمضي سنين طويلة قبل أن يطالب بنا أحد .. كان من الصعب على جمال إخفاء خوفه .. فلم يجد ردا مناسبا .. أحسّا أنهما في ورطة، ولم يجدا بديلا عن مواصلة جنونهما .. بعد ساعات من الخوف أخذت العتمة تتبدد شيئا فشيئا ..

مع إشراقة الشمس وجدا نفسيهما في حقل فسيح من القمح .. وفي الأفق ثمة مزارعين لا يُعرف هل هما سوريين أم أردنيين ؟؟ سارا باتجاههما، ولحسن الحظ كان أول من شاهداه صبيا يصغرهما سنا .. سألاه أين نحن الآن ؟؟ استغرب الصبي وقال لهما أين تودون الذهاب ؟ إلى درعا .. أشار صوب الشمال الغربي قائلا: بعد ساعتين من المسير ستجدان درعا بانتظاركما.

أمضيا سحابة ذلك النهار في الحقول .. يأكلان من نبات الأرض، ويشربان من مائها .. في الظهيرة ناما في ظل شجرة .. وحين وصلا درعا كانت الشمس توشك على المغيب .. سأل جمال أحد المارة أين مكتب الفدائية ؟؟ أجابه: بعد محطة القطار تمشيان في الشارع الغربي، ثم تمضيان إلى آخره، وقبل الدوار تتجهان إلى اليمين وتسألان هناك أي شخص سيدلكم .. وهناك قرأ غازي لافتة كُتب عليها "حركة التحرير الوطني الفلسطيني" شعرا بسعادة غامرة .. أخيرا وصلا مرادهما .. لكنهما سرعان ما أصيبا بخيبة أمل حين وجدا الباب مقفلا .. تساءل جمال: هل تغلق مكاتب الثورة وتفتح أبوابها مثل الوزارات ؟!

بالصدفة مرَّ أمامهما طفل يقود دراجته الهوائية، فقال لهما: الفدائية اللي هون راحوا يفطروا (كان هذا اليوم الأول من شهر رمضان) .. سألاه بصوت واحد: وهل هناك مكاتب أخرى في المنطقة ؟ قال: سأدلكم على مكتب فدائية لا يصومون ولا يفطرون .. مشيا وراءه حتى قادهما إلى مكتب الجبهة الشعبية.

قبل أن يدخلا قال غازي لصديقه بصوت خافض: أرجوك لا تخبرهم أنني أردني .. فرد عليه باستغراب: ولماذا ؟ قال: أخشى إن عرفوا أن لا يقبلوني بينهم .. قال حسنا، ولكنهم حتما سيعرفون أصلك من اسمك .. قال سأمنح نفسي اسما حركيا ..

بعد أسبوع، قرر غازي الانتقال إلى مكاتب فتح، أما جمال فقد أُعجب بالأجواء البهيجة التي يضفيها الرفاق؛ فقرر أن ينضم إليهم، خاصة بعد أن اطمأن أن "أبو عمار" هو قائد على الجميع، وأنه يأتي أحيانا لزيارتهم .. أما غازي فقد استغرب من وجود أردنيين ولبنانيين ويمانيين ومن جنسيات أخرى عديدة، حتى أنه رأى شبان مسيحيين ودروز وغيرهم، فشعر بارتياح لأنه لم يعد مضطرا لتغيير اسمه.

استقل جمال سيارة الجيب التي قطعت المسافة من بيروت إلى الجنوب في ساعتين .. عندما وصلوا قال له أبو العبد: هذه ما تبقى من أرض العرقوب، إلى الجنوب والغرب تسيطر قوات سعد حداد، وهنا حتى الحدود السورية معسكراتنا .. ستمصي شهرا في التدريب، ثم ستقرر قيادة المنطقة أين ترسلك .. سلّمه للأخ عزمي، ومضى عائدا كما لو أنه ساعي بريد أنهى نهاره بتسليم آخر رسالة ..

كان الفصل ربيعا، والخَضار يغطي الأفق .. قال له المدرب: لا تنخدع بجمال المنظر .. هناك صوب الجنوب العدو يتربص بنا ويَغير علينا كل مساء .. وهناك غربا أعوانه من الجواسيس .. وهنا في هذا الوقت بين الأشجار والسلاسل الحجرية أعداد لا حصر لها من العقارب .. وفي المساء ستجد ألف نوع الحشرات تحرمك النوم .. وفي الصيف تشتد الحراة وتصبح الثعابين عدائية .. يعني هنا ألف شكل للموت، ولا تعرف أيهما سيختارك ..

صار يتفقد فراشه قبل النوم، وحذاءه قبل أن يدس فيه قدمه .. وظل يتوقع الموت كل ساعة، ويعيش على أمل الصمود حتى الشتاء .. حيث تختفي الحشرات والزواحف ويصبح المساء نديا .. وأخيرا جاء تشرين .. حل البرد بأسرع مما توقع، وأشد برودة مما كان يرجو .. على الإفطار قال له المدرب في المساء سيتساقط الثلج، وستخرج تحت جنح الظلام في دورية استطلاعية عند الحدود، فهذه فرصة يجب استغلالها ..

خرج مزهوا بأول دورية حقيقية عبر الحدود .. مشى لساعات طويلة، حتى جمع ما يحتاج من معلومات .. لكنه ضلَّ طريق العودة .. وبعد أن تجاوزت الساعة منتصف الليل، ودرجة الحرارة دون الصفر .. احتمى في جوف صخرة، حتى غالبه النعاس فنام، وفي الصباح وجده بعض الرعاة متيبّسا مزرقّا، وقد تجمّد من البرد ..

بعد خمس سنوات من موته، أوقفته القوات السورية عند حاجز جوسيه في البقاع الشمالي، كان يضع كوفية سمراء على كتفيه، كبّله الجنود ثم ساقوه إلى سجن المزّة، والتّهمة "عرفاتي" .. حين وصل الزنزانة صُعق من هول ما رأى: كان ما يقارب الستين شخصا قد حُشروا إلى جانب بعضهم ممدّدين على الأرض، رأس كل واحدٍ منهم عند أقدام الآخر.كما لو أنهم أربعون سيجارة صُفت في علبة تتسع لعشرين. وإضافةً لمن هم مستلقين على الأرض وجد نفسه مع عشرة آخرين واقفين، وعشرة آخرين مقرفصين. وعند الباب وقف رجل ضخم، وفجأة صرخ بصوت مثل هدير الرعد، وعلى الفور تحركت المجموعات الثلاث بشكل منتظم؛ عشرة من النيام وقفوا ليحتل مكانهم عشرة من المقرفصين، ليقرفص بدلا منهم العشرة الواقفين، وهكذا يتبدل الوضع كل ساعتين .. وحين أتى دوره للاستلقاء، لم يتحمل الرائحة، ضاق صدره وبدأ يختنق، وحين صاح عريف المهجع للتبديل لم يتحرك .. كان فيه بقية من نَفَس .. هوى عليه الجندي بسوطه فقضى عليه خلال دقيقة واحدة ..

عثر حرس البادية على جثته ممدا قرب الرمثا، قيّدوه وساقوه إلى البناية الزرقاء الواقعة بين العبدلي والشميساني، وفي زنزانة مساحتها تعادل مساحة قبرين، فيها طاقة دائرية الشكل عليها قضبان حديدية ترتفع عن الأرض مترين ونصف، بحيث لا يمكنه رؤية شيئ من خلالها .. في هذه الزنزانة التي تحمل الرقم 24 أمضى شهرين في التحقيق، في اليوم الأخير خلع المحقق جلال حذاءه ورماه في وجهه، لكنه لم يصبه طلب منه إعادته، فما كان منه إلا أن قذفه بنفس الطريقة .. ولكن النتيجة كانت مختلفة، فقد كلفه ذلك فلقة أوصلت صراخه عنان السماء .. عندما هبط الليل تسلق الحائط وتعربش النافذة، وصوّب وجهه نحو السماء، وأخذ يدعو ويشتم ويهذي ويغني .. حتى سمعه الحراس، أشفقوا عليه .. أركبوه تاكسي إلى المطار، بعد ساعتين وجد نفسه في قاعة الانتظار في مطار القاهرة، انتظر ثلاثة أسابيع وهو ينام على لوح خشبي، ويأكل مما يجود به المسافرين .. حتى أتاه أمر الترحيل إلى معسكر السارة في أقصى جنوب ليبيا، أي في قلب الصحراء الكبرى .. هناك تذكر عقارب العرقوب .. كان قد اعتاد عليها، ولم يعد يتفقد فراشه .. وفي اليوم الخامس رأى نفس الأفعى التي هرب منها في بنت جبيل، لكنها هذه المرة لدغته في ساقه، عاد للمعسكر يتصبب عرقا .. حاولوا إسعافه .. لكن بلا جدوى؛ فقد تأخروا .. 

كنتُ أسرد قصته على مسامع عدد من الأصدقاء القدامى، رد عليَّ هشام بصوت بين التوضيح والتكذيب: أنا أذكر جمال ذلك الشاب الأسمر النحيل ذو العيون العسلية والابتسامة الغامضة .. كان عندما يضحك لا يتوقف قبل أن يتأكد أن صوت ضحكته وصل للشارع الثاني .. آخر مرة رأيته كان عائدا من جِزّين إلى بيروت، وقد أوقفه حاجز للكتائب، أخذوه إلى نفق تحت الشارع، وسمعت بعدها ثلاث طلقات، وأعتقد أنه مات في تلك اللحظة.

أما فراس فقد أكّد استحالة وقوع هذه القصة، وإذا حدثت بالفعل فقد حدثت مع شخص آخر يشبه جمال، وأضاف: أمضيت مع جمال شهرا كاملا بعد الاجتياح، كنا في بحمدون شرق بيروت، وقد استولينا على فيلا لأحد أثرياء الخليج، وكنا حينها نأكل في أغلى صحون الخزف الصيني، وبدلا من تنظيفها كنا نتمتع بتكسيرها، وعندما جاء الشتاء، كسرنا خزانة لم أرى في حياتي أفخم منها، وتدفئنا على خشبها .. كنا شبه عقلاء في عالم مجنون .. وجميع الطوائف متورطة بمسلسل رهيب من القتل .. وذات مساء لاحظنا تعكر لون المياه، فخرج جمال لتفقد الخزان، فوجد فيه طفلة عائمة، كان جسدها أزرقا، وعيناها جاحظتان، أخرجها ودفنها، وبينما كان يهيل عليها التراب ابتسمت له، وحاولت أن تقول له أنظر خلفك، لكن صوتها لم يخرج، باغتته رصاصة في مؤخرة رأسه، في الصباح دفَـنْـتُهُ إلى جانبها.

لكن أشرف استبعد كل هذه الروايات، مؤكدا أن تشابها في الأسماء أو في الشكل جعلنا نتخيل هذه القصص، حيث أقسم أنه رأى جمال في نابلس، كان يعمل في استخبارات السلطة، وقد اعتقل شخصا اسمه جمال، وبالصدفة كان يشبهه شكلا، ويتناقض معه تنظيميا وفكريا، فكان يعذبه، ويصرخ بدلا عنه، وعندما علم قائد الجهاز بجنونه، أرسله إلى غزة، بعد سنة تناولت وسائل الإعلام قصة انتحاره في ظروف مريبة.

قلت لهم، أنتم بالتأكيد مجانين، أو تتحدثون عن شخص آخر؛ لأن جمال صديقي، وقد عشت معه سنة في سجن سواقة، ولا يمكن أن أخلط بينه وبين آخرين، وقصته تلك رواها لي شخصيا، وفي ذكرى الانطلاقة العام الماضي اعتذرَ عن حضور الحفل، لأن موعد جلسة علاجه الكيماوي كانت في نفس اليوم، حيث كان يعاني من السرطان، وزوجته كانت على وشك الولادة؛ كان يتلقى العلاج في مستشفى المطلع في القدس، أما علياء فكان مخاضها في مستشفى الرعاية برام الله، ومن غرفته اتصل بمحل بيع الزهور وأوصاهم بإرسال باقة من الجوري الأحمر إلى زوجته وأن يكتبوا على البطاقة: "أعتذر يا حبيبتي لعدم تمكني من مشاركتك فرح الولادة، فأنا مشغول بموتي". ومن غرفتها اتصلت بنفس المحل - الذي لم يكونا يعرفا غيره - وطلبت إرسال باقة من القرنفل الأبيض وأن يكتبوا على البطاقة: "أعتذر يا حبيبي لعدم تمكني من الحضور ومشاركتك آلام العلاج، حيث أني كما تعلم مشغولة بالولادة". هي وضعت مولودها في نفس اليوم، أما هو فلم يرى ابنه؛ فقد عاجله الموت، لكن زوجته حين علمت بموته أطلقت على مولودها اسم جمال. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق