أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

نوفمبر 06، 2012

أخيار وأشرار


في سالف الزمان، يحكى أن بلاداً نائية، تعرضت لكوارث متلاحقة، أوقعتها في أزمة اقتصادية خانقة، وشُـحٍ في وفرة الوقود، فجاء رئيس الحكومة وأصدر فرمانا يقضي بتخصيص يوم للمركبات التي تحمل أرقاما فردية، وآخر للأرقام الزوجية، وبالفعل، بعد سريان الفرمان، خفَّت أزمات المرور، وقلص الشعب نفقاته على الوقود .. فأُعجب الوزير الأول بنجاح فكرته، ولمّا رأى أن بلاده ما زالت تعاني من عجز في الموازنة، ومن مشاكل اجتماعية لا حصر لها ولا عد .. تفتقت عبقريته عن فكرة تكرار تجربة السيارات على المواطنين أنفسهم؛ فاقترح أن يخصص يوم للمواطنين "الأخيار" فقط، على أن يكون اليوم التالي "للأشرار".

وبالفعل، لوحظ بعد فترة أنه في يوم "الأخيار" تختفي المشاكل، وتنعدم حوادث المرور، ولا يسمع أحد عن مشاجرات أو خلافات أو جرائم قتل وسرقة، أو خيانات زوجية .. وعليه؛ فقد كانت معظم دوائر الدولة تعطل في هذا اليوم .. مثلا المحاكم لا تجد قضايا وشكاوى، والشرطة تنشغل بكش الذبان، ورجال الأمن يقضون إجازات سعيدة مع أطفالهم، وأطباء الطوارئ في المستشفيات يتفرغون للبحث العلمي، والصحافيون ينشغلون بكتابة مذكراتهم الشخصية لأن نشرات الأخبار لن تتضمن سوى أخبار الفن وأحوال الطقس، ومعظم الوزراء وكبار رجال الدولة متغيبون، طبعا لأن هذا اليوم مخصص للأخيار فقط.

والعجيب أنه حتى في يوم "الأشرار"، لوحظ أيضا أن المشاكل اختفت، ولم يعد أحد يسمع عن جرائم واعتداءات وسرقات واختطاف؛ وعلى ما يبدو أن المجرمين يحترمون بعضهم بعضا، أو أن كل طرف يخشى من الآخر، فنشأ بينهم ما يمكن تسميته توازن الرعب؛ الذي أدى إلى إجبار العصابات على التوقف عن ممارساتها المعتادة، وحتى كبار رجال الدولة عندما وجدوا أنفسهم لوحدهم خافوا من بعضهم ومن حسدهم لبعضهم؛ فراقبوا أنفسهم دون أن يقصدوا ذلك، وامتنعوا عن الاختلاسات.

في النتيجة لاحظت الدولة أنه لا ضرورة لوجود الشرطة والمحاكم، ولا داعي لكل هذه الأجهزة الأمنية والرقابية، وأنه يمكن الاستغناء عن كثير من مرافق ومؤسسات الدولة، وفي المحصلة، تقلص العجز في الموازنة، وتحسنت أحوال الناس.

وبعد مرور فترة من الزمن، بدأ "الأخيار" يشعرون بالسأم، وصار روتين الحياة يبعث على الضجر، ورتابة أحداثها مملّة؛ فالأيام نسخة عن بعضها، والساعات تمر بطيئة، ولا شيء غير متوقع، أو غير عادي، الأغاني صارت مثل الأناشيد المدرسية، وكل الأفلام لها نفس النهايات السعيدة، حتى الأخبار باردة .. وليس هناك تحديات، أو خروج عن المألوف. وفي المقابل بدأ "الأشرار" يحنّون للأيام العادية التي يمكن لهم فيها أن يمارسوا هواياتهم المفضلة، وأن يقترفوا جرائمهم بشكل طبيعي، وحتى المختلسون بعد أن تقلصت مدخولاتهم صار ضروريا لهم العودة للزمن الاعتيادي.

وهكذا بدأ بعض "الأخيار" يخرجون من بيوتهم في غير يومهم، وكذلك فعل بعض "الأشرار"، ثم ازدادت أعداد المخالفين شيئا فشيئا، حتى انهار أخيرا نظام الفصل العنصري بين الأخيار والأشرار، وبدأ كل الناس يخرجون للشارع في أي وقت يرغبون، وبدأت الحياة الطبيعية تدب في أوصال المدن، وعاد رجال الشرطة لممارسة واجباتهم في القمع، والعصابات لسابق عهدها، والأطباء لزيادة مهاراتهم في العمليات الجراحية، والإعلاميون لألاعيبهم وتقاريرهم، وكبار الموظفين لمواقعهم السابقة، والسياسيون لحروبهم وصراعاتهم .. وعادت الموسيقى للأغاني، ورجع الفنانون للوحاتهم المبهمة، وألوانهم المجنونة، والنحاتون لتماثيلهم الغريبة، وعاد الشعراء يتغزلون بالقبل المسروقة، واستمر عمال البلدية في تكنيس الشوارع ...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق