أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

أكتوبر 16، 2012

قفزة فيليكس، والمفتول الفلسطيني وتحطيم الأرقام القياسية



ما الذي يجعل رجلا متعلما غنيا بكامل صحته الجسدية والنفسية، له أسرته ومحبيه، ومستقبله المضمون، أن يصعد إلى حدود السماء، ويقفز من هناك بسقوطٍ حر، ليخترق حاجز الصوت، ويعرض نفسه لمخاطر حقيقية هو في غنى عنها !! وما الذي يجعل عالما فذاً يفني عمره بحثا عن إجابة لسؤال، قد يمر عليه أي منا ولا يثير حتى فضوله !! وما الذي يجعل إنسانا يعيش في محيط اجتماعي تتوفر فيه كل سبل الراحة أن يصعد أعلى قمة جبلية تكاد أن تنعدم فيها شروط الحياة !! وما الذي يجعل آخر يترك دفء فراشه ورتابة حياته الهادئة ليوغل بعيدا في أعماق القطب الجنوبي!! ولماذا يغوص السبّاح عميقا في مياه المحيط ويعرض نفسه للهلاك ؟!

ألم يكن بوسع هؤلاء أن يمضوا بحياتهم بسلام، دون تعب، ودون خطر ؟! هل السبب هو هرمونات التحفيز ومتعة تدفق الأدرينالين، ودوائر الألم والرغبة والخوف ؟! أم أن الدافع هو الرغبة في التميز والإبداع ؟! أم هو حب الشهرة ؟ أم هو البحث المحموم عن إشباع حاجات نفسية غير ملباة، أو لتحقيق الذات والرضا الداخلي ؟؟ أم كل ما سبق ؟
وهل التميز سمة خاصة بالبشر ؟! إذا كانت الإجابة المتسرعة نعم، فلماذا تنقش الفراشات على أجنحتها أجمل اللوحات ؟ ولماذا للعصافير أجنحة تزخر بأجمل الألوان ؟ ألا تؤمّن لها أجنحةً بلا ألوان طيرانا آمناً يوصلها حيث تريد؟ ولماذا يفرد الطاووس ذيله ؟ ولماذا تحيط الوردة نفسها بأجمل العطور ؟ ألم يكفيها جمال خدودها ورشاقة أغصانها ؟
باعتقادي أن رغبة الإنسان بالتميز ليست هي الدافع الوحيد، فبالإضافة للأسباب المحتملة السابقة، ربما كانت الرغبة في إعطاء جدوى وقيمة للحياة، بل وحتى بمنح معنى لوجود الإنسان نفسه، ثم يأتي بعد ذلك هاجس الإحساس بالجمال وإدراك قيمته والتمتع به، فالجمال والاحتفال به هو السر الذي دفع هؤلاء إلى التحدي واجتياز اللامعقول.

فقد ظل الإنسان بوعيه وبعقله الباطن رافضا لفكرة عبثية وجوده، واللاجدوى من حياته، وفكرة فنائه بعد الموت؛ لأنها أفكارا تحط من قيمته وتحطم كبريائه وتجرده من أحلامه .. بل وتُشعره أنه ليس أكثر من نقطة جرت في نهر.. أو فراشة حطّت على ظهر فيل .. ومن أجل ذلك ولتفادي هذا الوقوع المدوّي، كان دائم السعي نحو التفرد والتميز، وعبور المستحيل.
في عصرنا الحديث التقط "الرأسمال الإعلامي" هذه الفكرة، واستوحى منها فكرة تحطيم الأرقام القياسية، والتي صار أشهر تعبيراتها موسوعة جينيس، لأنها تحاكي نزوع الإنسان نحو التحدي واجتراح المنجزات غير المسبوقة، وتحاكي رغبة المجتمع الاستهلاكي في تلقف أخبار تحقيق تلك الأرقام القياسية وتحطيمها من جديد.
على مدار السنين الكثيرة الماضية تم تحطيم أرقاما قياسية في شتى المجالات كان مجرد الاقتراب منها بمثابة حلم، منها أرقاما مهمة ومفيدة للبشرية، ومنها ما هو للتسلية وتحقيق الشهرة أو للجذب السياحي، ومنها ما هو سخيف ومضحك. ولكل مجتمع أرقامه التي تعكس اهتماماته وإمكاناته.
في السنة الحالية تم تحقيق أرقاما مهمة جدا في مجالات العلوم المختلفة: رصْد المرقاب "هابل" أبعد مجرات الكون، هبوط المركبة "كوريوسيتي" على سطح كوكب المريخ، غطسة مخرج فيلم التايتانيك إلى أعماق قشرة الأرض تحت المحيط، قفزة المغامر النمساوي فيليكس من حدود الغلاف الجوي. وفي المجال الرياضي تحطم حاجز الـ 100 متر ركضاً في 10 ثوان. ومن الواضح أن وراء هذه الأرقام دولا ومنظمات ذات تقدم علمي كبير، ولديها إمكانيات ضخمة.

وعند الحديث عن تحطيم الأرقام القياسية تأتي إمارة دبي في مقدمة الأخبار، حيث هناك هوس غير عادي في تنفيذ كل ما هو على وزن "أفعل": أكبر، أعلى، أغلى، أضخم، أوسع .. وهي أرقام تتطلب إمكانيات دولة نفطية على الأقل، طبعا إلى جانب طموح من هو على رأسها بتحقيق مثل هذه الأرقام.

لكن الأرقام الأجمل والأهم تلك التي يحققها أفراد ومغامرون. وهنا ليس بالضرورة أن تكون مفيدة للبشرية؛ فقد تكون مفيدة لأصحابها فقط، أو لمحيطهم الاجتماعي، أو لنطاقهم الجغرافي الضيق، وأحيانا لا يستفيد منها أحد، إلا منتجو الأفلام الوثائقية التي تتناولها.

في فلسطين، أصبح موضوع تحطيم الأرقام القياسية مادة للتندر والتهكم؛ فقد حققت جمعيات تعاونية وأصحاب مطاعم أرقاما قياسية كلها لها علاقة بالأطعمة: أكبر سدر كنافة، أكبر طنجرة مفتول، أضخم طبخة مسخن، أوسع صحن تبولة .. وقد تصادف تحطيم رقم المفتول مع قفزة فيليكس الفضائية، ومع أزمة انقطاع أو تأخر الرواتب .. ولهذا السبب وجد الكثيرون فيها مادة دسمة لشن هجوم كاسح وساخر على الحكومة، وعلى أصحاب تلك الأرقام ..

على أية حال، فإن تحضير مثل هذه الأكلات الضخمة، ليس مجرد مضاعفة كميات المواد الداخلة فيها، إلى الحد الذي نرغب فيه، لنقول هذه أكبر أكلة من نوعها .. بل الموضوع أكثر تعقيدا، فهو يحتاج حسابات دقيقة، ومهارات خاصة، ودقة في التنفيذ، وليس بمقدور أي أحد أن يعمله بسهولة، لذلك فهو إبداع وعمل متميز يستحق التقدير، ومن ناحية ثانية فإن من قام بتحطيم هذه الأرقام هم في الأساس طباخون، بمعنى أنهم أبدعوا في المجال الذي يعملون فيه، وقدموا شيئا مميزا ومختلفا، وهذه الأعمال تأتي بالفائدة على أصحابها من خلال الجذب السياحي والدعاية، حتى أنها تقوم بتنشيط الأسواق الراكدة، سواء عبر شراء الكميات الضخمة من المواد، أو من خلال تحفيز الآخرين.

وفي الحقيقة، فإن اللوم والتهكم يجب أن يكون باتجاه آخر؛ أي باتجاه أصحاب المهن والحرف والاختصاص والعلماء والرياضيين وغيرهم ممن استمروا في مزاولة أعمالهم بصورة رتيبة مملة ليس فيها أي تميز أو خروج عن المألوف، هذا إذا لم نقل أن بعضهم كان مقصرا أو فاشلا في عمله.

ولماذا يوجه اللوم للفلسطينيين فقط، دون غيرهم من الشعوب !! عِلماً أن هناك أشخاصا مؤسسات عديدة في مختلف بلاد الدنيا حققوا أرقاما قياسية في مواضيع عادية جدا، أو سخيفة جدا .. وهناك دولا لديها إمكانيات مادية جيدة، وتاريخ تباهي به، وزعامات تغني لها ليل نهار .. ومع ذلك لم تسجل أية أرقام قياسية من أي نوع .. ولم تحقق أية منجزات مهما كانت ضئيلة ورمزية.

مع العلم أن الفلسطينيين سجلوا أرقاما قياسية غير مسبوقة في البطولة والتضحية والصمود، على سبيل المثال مرّغ أصغر طفل كرامة أعتى دبابة، وبلغ أسرانا البواسل أرقاما لم يسبقهم إليها بشر من قبل في التحمل وعدد أيام الإضراب، وسنوات السجن، والأحكام الطويلة، وسطر الفدائي الفلسطيني قصصا في الشجاعة يتعذر تحويلها إلى أرقام مجردة، ولكن على ما يبدو أن مثل هذه الأرقام لا يحفل بها أحد، ولا تخضع لمعايير موسوعة جينيس .

وطبعا، لم تقتصر أرقام الفلسطينيين وسجلاتهم عند حدود التضحية، وقصص الفداء، ولا حتى عند الطبيخ والحلويات؛ فقد أنجب الشعب الفلسطيني من العلماء والخبراء والأدباء والمشاهير وقصص النجاح والتميز ما يصعب حصره في حدود هذه المقالة. وليس المقصود هنا الإدعاء بتميز وتفوق الشعب الفلسطيني على غيره؛ فتلك نظرة عنصرية مرفوضة، ولكن ما يجب قوله هنا وفي أي موضع آخر هو تقدير وتشجيع المتميز مهما كان إنجازه بسيطا، ومحاسبة المقصر مهما صغر تقصيره. فذلك أول شروط تقدم ونهضة الشعوب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق