قبل أيام أقدمت جرافات "أمانة بغداد"
على اقتحام شارع المتنبي، وتخريب كافة بسطات بيع الكتب المنتشرة على أرصفته، بحجة
تنظيف الشارع !! ومن المعلوم أن شارع المتنبي يضم أكبر وأشهر مكتبة شعبية في
العالم، حيث يُعرض فيه مئات الآلاف من الكتب في شتى المجالات والحقول، وآلاف
المجلات القديمة والحديثة، وأهم المراجع والمخطوطات، وحيث تجد كل الكتب الممنوعة
والمصادرة، وقد صار هذا الشارع واحداً من أهم معالم بغداد الثقافية والسياحية،
وقبلة لكل المثقفين والباحثين، ومصدر رزق لمئات الفقراء، ولمن جار عليهم الزمن
وأجبرتهم ظروف الحرب على بيع مكتباتهم الخاصة، بعد أن كانت تزين بيوتهم العامرة.
ذلك هو شارع المتنبي وأولئك هم نزلائه وروّاده، أما أمانة بغداد؛
فتسيطر عليها قوى طائفية رجعية، تمتلك مخزونا من الجهل والتعصب يكفي عشرة عواصم من
حجم بغداد، وهي بالطبع مدعومة من حكومة المالكي، التي احتلت المرتبة قبل الأخيرة
في قائمة الدول الأكثر فسادا في العالم في العام الماضي. وربما هذا ما أقلقها؛ حيث
أرادت من خلال "غزوة شارع المتنبي" أن تضمن لنفسها المرتبة الأخيرة في
تصنيف هذا العام.
وقبل هذا الاعتداء الغاشم على الكتب والثقافة، كانت "أمانة
بغداد" قد شرعت بتنظيف شارع "أبو نواس" على نفس الطريقة؛ حيث قطعت
الأشجار، وأغلقت المقاهي، وهدمت تمثال شارب المنكر، وخربت الشارع .. هذا الشارع
الذي ظل اسمه وعلى مدى قرون بشهرة بغداد نفسها؛ حيث كان مقصد العوائل والعشاق
والحزانى والحالمين، حيث تنتشر المقاهي والمشارب والأضواء وأغاني أم كلثوم
والغزالي والدارميات الحزينة والسمك المسكوف .. حيث تخبئ بغداد ذاكرتها ..
الحُجة كانت أيضا إزالة التعديات وتجاوزات الباعة الجائلين، وتنظيف
الشارع .. ولو كانوا صادقين لبدأوا بشارع السعدون والشورجة والباب الشرقي والكرادة
وشارع الرشيد، والتي تعد أهم شوارع بغداد، وأكثرها اتساخا وفوضى .. لكن الهدف
الحقيقي واضح؛ استهداف رواد شارع المتنبي وأبو نواس؛ النخبة المثقفة التي تطالب
بالحرية والعدالة الاجتماعية ومحاسبة الفاسدين، والتي ترفض الطائفية والتعصب
والهوس الديني.
ولمساوئ الصدف، قبل يومين قامت جرافات وزارة الداخلية في حكومة
حماس في غزة، وبدون سابق إنذار، باقتحام أحد المقاهي الثقافية في غزة
"الجاليري الثقافي"، وهدمته محيلةً إياه إلى كومة أنقاض، وقد طال
التدمير أماكن لعب الأطفال، ومنصة النشاطات الثقافية المخصصة للقاءات والندوات،
وصالة الفن التشيكلي والسينما، واقتلعت أشجار الزيتون والأزهار المحيطة بالمكان،
واعتدت عناصر الشرطة على الصحفيين، ومنعوا تصوير الحدث. وهذا "الجاليري"
هو المتنفَّس الوحيد للنشاط الأدبي والثقافي في قطاع غزة.
هذا الاعتداء على الثقافة كان هذه المرة باللباس الرسمي، وفي وضح
النهار، وقد سبقته اعتداءات كثيرة على مقاهي الإنترنت وصالونات التجميل والنوادي
الصيفية والمرافق السياحية، وعلى نصب تذكارية، وعلى أعراس وحفلات وفنانين .. وحتى
على مؤتمرات ثقافية .. وكانت الجرائم في كل مرة تقيَّد ضد مجهول، أو تتبناها
مجموعات سلفية وجهادية مختلفة، أغلبها على خلاف مع الحكومة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق